شبكة ذي قار
عـاجـل










خضع تكوين القومية العربية إلى مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية التي أسهمت في إيصال كينونتها ومفهومها إلى حال متقدمة من البناء السياسي ومن النضج الفكري.وكان آخرها واكثرها تقدماً ما تبناه حزب البعث العربي الاشتراكي مستنداً الى الحركة التاريخية للتكوين السياسي للأمة العربية، ومن الحركة التنويرية التي قادها رواد الفكر القومي الأوائل.

وقد تضافرت عدة عوامل لتحقيق ذلك وادت الى الكيفية التي يفهم بها البعثيون قوميتهم العربية، هذا المفهوم الذي على أساسه نتعرَّف على من هو العربي، وكيف ينظر فيها إلى علاقته مع ذاته ومع مجتمعه ومع القوميات الأخرى، كمكونات اساسية من النسيج الحضاري للأمة العربية، وكذلك نظرته لها على المستوى الدولي.

كانت العوامل التي أسهمت في تكوين البناء القومي العربي، تاريخية متدرجة، تنتقل بسلاسة ولو بآماد زمنية طويلة.وكانت كل مرحلة تنقل إلى مرحلة أخرى عوامل تفاعل ايجابي وانصهار جديدة، وتقوم بتحويل المجتمع السابق إلى مجتمع جديد اكثر تطوراً.وهنا، يمكننا تسليط الضوء على بعض من أهم العوامل التي أسهمت في ذلك مفضية الى مفهومنا الحالي للامة والقومية العربية.

١ - الروابط المشتركة ودورها في تشكيل البناء القومي تاريخياً :

يؤكد العديد من الفلاسفة والمفكرين ان القومية ليست نزعة غريزية عنصرية ، اي فطرة تستند إلى تركيب فيزيولوجي ، بل هي نزعة اجتماعية للتعبير عن الانتماء وممارسته فكراً وعملاً، تتشكَّل عبر مراحل حياة الإنسان والمجتمع، باعتباره كائن اجتماعي يكتسب ثقافته الخاصة مع أمثاله من البشر الذين يعيشون ظروفاً بيئية جغرافية واحدة، ويشتركون في تاريخ واحد وهمّ مصيري واحد.

فمنذ بداية التاريخ ، خضعت العلاقات الاجتماعية في وطننا العربي إلى الانتقال من مستوى الخلية القرابية الواحدة، إلى مستوى العشيرة والقبيلة التي تمتاز برابطة الدم، إلى العلاقات بين العشائر والقبائل.ثم بدأت تأخذ مستوى أعلى من حيث التنظيم الاجتماعي – الاقتصادي، منتقلة إلى مستوى العلاقات السياسية الذي يُعتبر من الاسس الاولى لبناء الدولة.وهكذا تطورت خلية القرابة الأولى شيئاً فشيئاً من رابطة الدم إلى مستوى جديد من القرابة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدفاعية.وبهذا أخذ المفهوم القومي يكتسب سماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة.

ولأن القومية ليست نزعة غريزية عنصرية، فان ذلك يعني أن تشكيل الشعور القومي نظرياً وعملياً لا يمت بصلة محددة بالعلاقات القائمة على القربى بالدم، لذا فقد نزع عنها هذا صفة التعصب العرقي والعنصري، على عكس ما فعلته بعض الفلسفات ومنها الفلسفة النازية مثلاً.ولأنها نتيجة بناء اجتماعي متعدد المصادر عبر التقاء العائلات القرابية مع عائلات قرابية أخرى اشتركوا جميعاً

في مجتمع واحد تضمه بقعة جغرافية واحدة وتقاليد وعادات ولغة مشتركة وتاريخ ومصير مشترك ، فقد ساهم ذلك في توسيع البناء السياسي القومي، حيث تفاعلت الجماعات مع بعضها البعض بعوامل مشتركة اقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية، وتطور المجتمع السياسي القومي الأول لينتج مجتمع جديد بروابط جديدة.

٢ - الممالك والحضارات المتبادلة والرحلات التجارية بين الكيانات السياسية المختلفة :

لقد أسهمت في التكوين القومي العربي سلسلة من الأحداث التاريخية المتواصلة، لعلَّ من أهمها تأسيس الممالك بين الكيانات المختلفة، والتي افرزت حضارات متعددة ابرزها الآشورية والبابلية والفينيقية والمصرية القديمة ، والتي كانت تعمل على توحيد الجماعات المختلفة بين العراق شرقاً وصولاً إلى مصر غرباً.وكذلك روابط التبادل التجاري التي ربطت المشرق العربي بمغربه وصولاً إلى تونس.

٣ - الثورة الإسلامية كانت من أهم عوامل الانصهار القومي :

لقد بدأ انتشارالدعوة للدين الاسلامي الحنيف بين القبائل اولاً ، فنجح الاسلام في توحيدها.ولقد كان اندفاع الدعوة الى الدين الجديد يجري وسط عالم تسوده التهديدات الخارجية الناتجة عن النزعة الإمبراطورية للشعوب الأوروبية القادمة من الغرب، والشعوب الفارسية القادمة من الشرق.فساهمت تلك التهديدات في توحيد العرب من اجل مواجهتها وتحرير بلدانهم منها.ولان في الوحدة قوة ، فقد نقلت هذه الوحدة المجتمع القديم نقلة نوعية إلى مجتمع جديد ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب، بل في المنطقة العربية المحاذية لها أيضاً.

وعلى عكس تلك الامبراطوريات الاستعمارية الطابع، حملت الدولة العربية الاسلامية التي نشأت عقب الفتوحات الاسلامية رسالة حضارية انسانية شاملة

اتسمت بالتسامح والمساواة والعدالة محتضنة كل الشعوب والاقوام المنضوية تحت لوائها ، مندفعة بقوة المبدأ الذي نصت عليه الآية الكريمة ( ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) ، والحديث النبوي الشريف ( لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ).فكانت عوامل انصهار المجتمع الجديد طبيعية وسلسة، فاكتسب خصائصه القومية المتسامحة ، التي لا تزال سماتها قائمة وفاعلة في امتنا العربية حتى يومنا هذا.

٤ - الدولة العربية شكلت عاملاً لتحرير الأرض و تفعيل دور الانسان في كل مكان :

لما كان تاريخ المنطقة ، قد شهد احتلال من قبل الإمبراطورية الفارسية في الشرق، والإمبراطوريتين اليونانية والرومانية في الغرب لذا فما إن اكتمل البناء السياسي الجديد للثورة الإسلامية في الجزيرة العربية حتى أخذت تندفع من أجل تحرير المنطقة العربية بأكملها من النفوذين الفارسي والبيزنطي.ونجحت في مهمتها أيما نجاح ضد الدولة الفارسية في معركة القادسية الأولى ، و ضد الدولة البيزنطية في معركة اليرموك ومن بعدها انفتحت الحدود أمام الزحف العربي الرسالي غرباً فبلغ الأندلس، وشرقاً فبلغ حدود الصين مادّاً جناحيه العملاقين لكسب الاقوام واحتضانها ورعايتها وتهيئة كافة عوامل اندماجها وازدهارها في ظل الرسالة الجديدة التي بلغت عزّ قوتها ومجدها إبان الدولة الاموية والعباسية.

وبانكفاء الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية بفعل الرسالة الحضارية الجديدة والزخم العربي المنطلق من أرض الجزيرة العربية تفاعل العرب من خلال الفتوحات الاسلامية مع شعوب أخرى وحضارات أخرى، منفتحين عليها فادى ذلك الى التفاعل الايجابي والانتماء الكلي للجميع ومساهمتهم الفاعلة في الدولة الجديدة والحضارة التي نتجت عنها.فساهمت كل تلك الاقوام بالنهضة الحضارية التي افرزتها تلك الحقبة المجيدة من تاريخ الامة العربية والتي اغنت الحضارة العالمية الانسانية بالعديد من الانجازات الباهرة التي استندت عليها النهضة الاوربية لاحقاً.

فعلى صعيد التطور الفكري السياسي والديني، فقد احتضنت الدولة العربية الإسلامية في العصرين الاموي والعباسي الاقوام التي اصبحت جزء لا يتجزأ منها.و تفاعلت تلك الاقوام والشعوب تفاعلا ايجابيا، واندمجت عضوياً بالمجتمع الجديد، وأصبحت عاملاً اساسياً من عوامل نهضته ، تدافع عنه وتشارك في رسم مصيره.فبرز منهم العسكري الذي دافع عن الدولة الجديدة ، ومنهم الاداري الذي ساهم في تطوير مؤسساتها، ومنهم الفلاسفة و العلماء في الطب والكيمياء والاحياء والرياضيات والفلك و النحو والفقه والعلوم الأخرى.

وقد اثبت التاريخ بروز قادة من غير العرب من الذين سطروا الكثير من البطولات من اجل حماية الدولة الجديدة.وكان من العلماء والمفكرين، من أسهموا في صناعة أسس حضارية في شتى الميادين، ووقفوا جنباً إلى جنب مع أترابهم من العرب.

ونتيجة للتطور الحضاري الذي افرزته الدولة الاموية والعباسية العظيمة اتجهت الدولة إلى تشجيع الترجمة من اللغات الأخرى حيث استعان الخلفاء، الذين تميزوا بتشجيع العلم، بالمترجمين لنقل تراث الشعوب الأخرى وترجمته إلى اللغة العربية.لتعميق التفاعل الحضاري للانسانية جمعاء.

ان كل ذلك يثبت ان الاقوام من أصول غير عربية لم تشكل أية إشكالية او عبئ في مسارات النهضة الحضارية والفكرية للامة العربية ، ولا في منعة الدولة العربية الاسلامية بعد الفتوحات ، بل على العكس فقد لعبوا دوراً إيجابياً مؤثراً فيها و أسهموا بشكل لافت في إحداث التراكم المعرفي في الثقافة والحضارة العربية لذا فهم ابناء اصلاء من ابناء الامة.

واستناداً إلى أن الأصول العرقية ليست هي التي تحدد الهوية القومية ، فقد تحوَّل المجتمع العربي عبر ذلك التاريخ إلى خيمة كبرى احتضنت على ابهى وجه الانتماءات العرقية الاخرى، وإن كان عدد العرب يشكل الأكثرية المطلقة،

فان ذلك لم يشكل عامل تفوق على الأعراق الأخرى التي انصهرت بالمجتمع العربي وأسهمت بتنميته.ونتيجة لرسوخ ذلك فقد امتد هذا الثراء والتفاعل ليعبِّر عن نفسه عبر التاريخ فبرز منهم لاحقاً قادة عظام انتصروا للامة وكتبوا صفحات من تاريخها ومجدها فمنهم الناصر صلاح الدين الايوبي ، وما تحرير جنين على يد القائد عمر علي في تاريخنا الحديث في فلسطين ببعيد.

مبادئ البعث تؤكد على رفض العنصرية :
إن حزب البعث العربي الاشتراكي، أولى هذه القضية اهتماماً خاصاً، وقد تميز فكره القومي برفض أي نوع من أنواع العنصرية من خلال عدم حصر الانتماء للامة العربية بالعرب فقط ، فقد انصهر ابناء الامة من كل الاصول والانتماءات انصهاراً تاماً فيها عبر التاريخ القديم والحديث.

لذا تؤكد كافة ادبيات حزب البعث العربي الاشتراكي ومؤتمراته على ان مفهوم الامة قائم على رفض العنصرية ، فعقيدته لا تقر بان الامة مكونة من العرب فقط ، وانما تشمل كل من سكن الوطن العربي وانتمى الى الامة العربية واخلص لها وناضل من اجل رفعتها.وبذلك فقد تميزت عقيدة البعث عن كل الحركات والعقائد القومية الاخرى.لذا فقد حدد دستور الحزب بدقة موقفه الواضح والحاسم الرافض للعنصرية.حيث جاء في مواده ان : ( العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية ).و يؤكد البعث على أن شرط الانتماء للأمة العربية ليس مرتبطاً بعامل القرابة العرقية، مؤكداً على ان الشعور القومي هو نزعة اجتماعية تتشكَّل عبر مراحل حياة الإنسان، بما هو كائن اجتماعي يكتسب ثقافته الخاصة مع أمثاله من البشر الذين يعيشون ظروفاً بيئية جغرافية واحدة، ولغة واحدة، وهمّاً مصيرياً واحداً.

ولأن هذا الشرط متوفر في ابناء الامة على اختلاف اصولهم الاثنية والعرقية ، لذا فهم جزء لا يتجزأ منها ، بهم صنعت الأمة تاريخها العريق وبهم ستنتصر على تحديات الحاضر، وبعقولهم وسواعدهم ستصنع المستقبل الذي يليق بكل ذلك الإرث المجيد.
 





الجمعة ١٩ ذو القعــدة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / تمــوز / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة