شبكة ذي قار
عـاجـل










يعد الانفتاح على العصر والتفاعل الايجابي معه واستشفاف المستقبل من خلاله والاستعداد له من احد عوامل نهضة الامم والشعوب.ولقد شكل انطلاق فكر حزب البعث العربي الاشتراكي منذ عام ١٩٣٦ من القرن الماضي اهم معالم هذا الانفتاح في الفكر القومي النهضوي العربي.وكان تأسيسه عام ١٩٤٧ واحداً من ابرز معالم استجابة الامة الى ما تشهده وما زالت من تحديات استراتيجية تستهدف وجودها الحاضر وكل ارثها الحضاري المجيد.

وقد كان التفاعل الايجابي مع العصر والريادة فيه، ديدن البعث فكراً وممارسة وعلى كافة الاصعدة.ولا يختلف اثنان على ان مشروعه النهضوي كان ابرز اسباب استهداف نظامه الوطني في العراق عام ٢٠٠٣.وقد اكد الرفيق الامين العام للحزب القائد المجاهد عزة ابراهيم " حفظه الله ورعاه" كما هو دائماً ، على اهمية الانفتاح والمواكبة لروح العصر وذلك في خطابة التاريخي بمناسبة السابع من نيسان ٢٠٢٠.فقال ان : (( فكر البعث هو فكر الامة المتجذر والمطبوع والمولود من عقيدتها وفكرها ومبادئها وقيمها وتراثها وهو منفتح على فكر الامم كما هي اشتراكيتنا منفتحة على تجارب العالم )) و ان (( الوحدة العربية وحرية الامة وتحررها والطريق البعثي العربي الخاص لبناء الاشتراكية القائم على العلم والتجارب الوطنية والقومية والدولية )) .

ويحتل هذا الامر اهمية مضاعفة في المراحل التاريخية التي تشهد تحولات عظمى في شموليتها وعمقها وشدة تسارعها كالتي يمر بها العالم اليوم بصورة عامة وامتنا العربية بصورة خاصة.

والانفتاح والتفاعل مع العصر يعني الحرص على التطوير ومتابعة المتغيرات.فمن طبائع الحياة أن تتنوع وتتجدد ألوانها، وأن العالم الذي نعيش فيه اليوم يستلزم الظفر بعوامل التطور والتحديث والنهضة للتناغم مع مسيرته وعدم التخلف عن ركبه.

الا ان الاخطر من ذلك هو ان المواكبة تعد مسألة جوهرية لأية امة تسعى الى مواجهة التحديات المصيرية التي تتعرض لها ، خاصة عندما تواجه تحديات تستهدف وجودها بالصميم.

الانفتاح احد مستلزمات النهضة .. ولكن في الوقت الذي تعد فيه مواكبة العصر مسألة بالغة الأهمية لمواجهة التحديات ، الا ان الاهم منها على الاطلاق هو الثقة بالنفس.فثقة اية امة بنفسها المعبَّر عنها بثقة ابنائها بقدراتهم، هي الحجر الاساس الراسخ والذي لا بديل عنه للانطلاق نحو مواجهة أي تحدي مصيري ، والإنتصار عليه.

وتأتي الثقة بالنفس عند الامم عبر استحضار ارثها المجيد وعوامل قوتها ونجاحها التي اثبتتها التجربة عبر مراحل تكوينها التاريخية.لان ذلك الارث يمثل تجارب اثبتت نجاحها على ارض الواقع، كما ويمثل ما اضافت اليه تلك الامم الى البشرية من خير وعطاء تقدمت بفضله الانسانية خطوات الى الامام.

واخيراً وليس آخراً فان الارث الحضاري يمثل دروس وعبر تستفيد منها الشعوب في مواجهة تحدياتها الراهنة ومن ثم تحقيق نهضتها المستقبلية.

لذا نجد ان الأمم المتقدمة تحرص على ذلك الارث، وعلى ابقاء شعلته حية عبر الاجيال بشتى الوسائل.فنجدها تخلده في المتاحف العظيمة، و توثقه في مناهجها الدراسية، وتعبر عنه في شتى انواع الفنون والعمارة، وتقيم النصب التذكارية لقادته العسكريين ورواده الكبار وعلمائه ومفكريه وتطلق اسماءهم على مدنها وشوارعها ومشاريعها العملاقة تخليداً لذلك الإرث.وهي بكل ذلك ترفع رايته بين الاجيال جيلا بعد جيل لكي تستلهم منه كل عوامل الثقة بالنفس وبقدرات الامة وترسخها لديهم لايمانها ايمانا جازماً بانه من دون وجود تلك الثقة لن يستطيع الشعب تحقيق تماسكه ومواجهة التحديات التي تعترضه.

ومن هنا تحرص حتى الشعوب الحديثة التكوين التي لا تمتلك مثل هذا الارث، على خلقه خلقاً.فنراها تمجد تاريخها الحديث وتبرز قادته، مبالِغة في ذلك احياناً، وكل ذلك من اجل تعزيز وحدتها القومية والوطنية وترسيخ الثقة بين ابنائها لتحقيق النهضة المنشودة.

وبالنسبة الى امتنا العربية اليوم، التي تواجه اشرس الهجمات امنياً واجتماعياً وديموغرافياً وثقافياً واقتصادياً، والتي تأتي بشكل معلن تارة ومتخفية تحت مختلف الاغطية البراقة او الناعمة تارة اخرى، فإن ثقة ابنائها بقدراتهم المنطلِقة من ثراء تراثهم وعظمته هي مسألة حياة او فناء.

خاصة وأننا، كعرب، لسنا منقطعي الجذور عن تاريخنا، بكل مافيه، على نحوٍ يجعلنا نطوف على سطح مياه الأحداث التي تحيط بنا وتمرُّ من تحتنا، وكأننا نباتات طفيلية برزت على السطح بلا جذور، أو حشد بشري بلا انتماء وكأننا لم نكن أصحاب فكر خلاق وحضارة باهرة وتاريخ مجيد؟!

فالتطور والمواكبة سواء على المستويات المادية أو على الصعد الفكرية ضرورة لازمة في كل عصر، الّا ان هذا لا يعني انقطاع الجذور لان هذا يعني شيئاً واحداً، الموت، ولا شيء غير الموت.لذا لا نجد بين الامم الناهضة في عصرنا الراهن من سعت للتخلص من موروثها التاريخي بغية الانطلاق إلى آفاق عالم جديد والتناغم مع مفرداته ورؤاه.

ولقد شهد الوطن العربي عبر تاريخه القديم والحديث تيارات شتى بعضها تغريبي وبعضها شعوبي حاولت التسلل إلى مفاصل القوة في أمتنا، لتشيع فيها اليأس والإحباط، وتنزع عنها أردية التاريخ المجيدة لتبقى عارية في مواجهة الأعاصير التي تتعرض لها، فلا يبقي لها ما تفاخر به ولا ما تتسلح بقوته أو تحتمي بأستاره او تعزز ثقة الاجيال بقدراتهم.وقد كانت اهداف تلك التيارات عبر التاريخ القديم والحديث دائماً تصب في هدف رئيسي واحد هو اضعاف الثقة بالنفس وتكريس عوامل الفرقة والتفتيت.

ومن الجدير بالذكر ان مثل هذا الاستهداف ليس حصرياً ضد الامة العربية فقط وانما هو استراتيجيات تعتمدها الامم في حروبها.وكتب التاريخ مليئة بالامثلة.ويكفي ان نورد على سبيل المثال لا الحصر ما اورده " مايلز كوبلاند" في كتابه الشهير ( لعبة الامم ) ، من ان من اهم وانجح الوسائل التي اعتمدها الحلفاء للانتصار على المانيا في الحرب العالمية الثانية ، هو انشاء اذاعة تبث باللغة الالمانية ، ظاهرها مواد تصب في مصلحة الالمان ، لكن جوهرها يحتوي على كل ما يهدّ ارادتهم.

ومن هنا تنبع خطورة التيارات التغريبية منها او الشعوبية من منطلقين أساسيين :
الأول : أن منطلقاتها ووسائلها تكون اما عربية او اسلامية ، فهي لا تخفي الحديث بصوتٍ عالٍ عن العروبة والأمة العربية او عن الدين الاسلامي.

الثاني : أنها تهاجم مقومات التماسك والثقة من ارث تاريخي او ثقافة راهنة موحِّدة او عناصر ايمان روحية او غير ذلك فتعبث بأهم ثوابت الأمة وأعلى راياتها.
وفي هذين المنطلقين يكمن الخطر القاتل.

ومن هنا فقد اكد الرفيق القائد الامين العام للحزب على ان (( المؤامرة الكبرى على الامة العربية هدفها الأساس، إلغاء هويتها ومسخ عقيدتها وتزوير تاريخها وفصلها عن تراثها وماضيها المجيد، ثم قلعها من جذورها العميقة لكي تجف وتتيبس وينتهي دورها الحضاري الانساني في الحياة الى الأبد (( .

لذا فغالباً ما تتم مهاجمة التاريخ العربي ومثاباته العالية، كالدولتين الأموية والعباسية وما تحقق خلالهما من نهضة هائلة، عبر الحركات التغريبية او الشعوبية على لسان عربي، او عبّر قلمٌ يدّعي الاسلام والحرص عليه، بدعوى انها عوامل نكوص!!.فكيف تكون عوامل النهضة والقوة التي اثبتها التاريخ بما لا يقبل الشك وشهدت لها امم العالم عوامل تعويق وضعف ونكوص؟!.ثم ماذا يعني شطب الحياة الفكرية والثقافية والحضارية العربية الاسلامية الزاخرة بكل ذلك البهاء الذي تحتفظ به مسيرة التاريخ وتشهد له الامم ؟!

وقد سعت التيارات الشعوبية عبر التاريخ الى استهداف الحضارة العربية الإسلامية كخطوة تعقبها خطوات لالغاء آخر مرتكزات وثوابت الامة ، وهذا هو جوهر الدعوة الفارسية الشعوبية العنصرية التي ترى في الارث الحضاري للامة عامل تعويق لا نهضة، وعامل فرقة لا وحدة، وتدعوا إلى قطع كل الجذور مع ذلك التاريخ المجيد وبالتالي فانها تفضي إلى رؤية مزعومة مضللة مخربة.

واليوم لا يألوا الغرب جهداً الا واستغله لتشويه صورة العرب او الدين الاسلامي الحنيف فيقود حملة تستهدف الارث الحضاري العربي عبر التاريخ وما تحقق فيه من نهضة شاملة على كل المستويات، سواء في جانب الفتوحات التي نقل العرب بها الاسلام والرسالة الجديدة من حدود الجزيرة العربية إلى العالم الفسيح، ونقلت معه عدل الاسلام وسماحته وإيمانه، وبذلك كانت رسالة الإسلام نوراً وهدى للعالمين، أو في مجال النهضة العلمية الشاملة التي جعلت من دمشق وبغداد والبصرة والكوفة وحلب والقاهرة وقرطبة وغرناطة وفاس ومراكش والقيروان، وغيرها، نجوماً زاهرة في سماء الحضارة نهلت منها البشرية جل عناصر تقدمها الراهن.

ويحاول الغرب استغلال بعض المظاهر الشاذة التي رأيناها عبر التاريخ، من أقوام انتموا إلى الدولة العربية الاسلامية، والتي لا تمسّ الروح السمحة التي جاء بها الاسلام، ولا تمسّ جوهر رسالة العرب في نقل الناس من ضيق الجهل والظلم والشرك إلى رحابة العلم والعدل والتنوير والتوحيد، متناسيا انها ليست حالة عامة بل هي تعبير عن مظاهر شاذة سقطت بسماحة فكرنا العربي والاسلامي الذي استوعب الجميع ومنحهم هوية المواطنة، وهذه ميزة تسجل، بفخر وتميز، للدولة العربية الاسلامية، في عهديها الأموي والعباسي بالذات، تلك الدولة التي لا تميّز بين مواطنيها على أي أساس عرقي أو ديني أو آيديولوجي، بل تجعل منهم، مهما كان إنتماؤهم ومهما تعددت ألوانهم، قوة خلاقة مبدعة ما يزال نورها يشع في تاريخ البشرية.وهي ميزة لم يُعرَف أن دولة غير عربية قد حظيت بها قبل الدولة العربية الاسلامية.

وهذا هو الفهم الذي انطلق منه رواد الفكر القومي العربي منذ انطلاق حركة النهضة العربية خاصة في بداية القرن الماضي ، والتي تتوجت بتاسيس حزب البعث العربي الاشتراكي وعقيدته القومية التقدمية.

وللموضوع صورة أخرى لا يجوز إغفالها.

قلنا في بداية حديثنا أن المواكبة والتطوير سمة كل عصر، وبإيمان ويقين نعتقد أن من لا يتطور يتجمّد وتتيبس الدماء في عروقه فلا يعود قادراً على الحركة والفعل، ثم يتحول إلى الموت.وهذا صحيح على مستوى الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، وعلى صعيد الأفكار أيضاً.لكن ماذا يعني التطور؟

التنوير شئ والقطيعة شئ اخر

كثير مما نسمعه من دعوات التنوير او المواكبة ، وبعضها يشير إلى ضرورة ذلك في مواجهة التحديات التي تعصف بالأمة، الا ان الكثير من تلك الدعوات لا تتحدث عن تنوير حقيقي، بل تستبطن قطيعة كاملة مع ارث الامة الحضاري والحقيقة أن أي دعوة للمواكبة والتنوير، مهما كانت ضرورتها وجدّيتها وأهميتها، لا ينبغي أن تمسَّ ثوابت الأمة أو تعبث بمرتكزاتها الفكرية، وإلا فانها ستفضي الى سلخ أجيالنا الجديدة عن كل ما يبعث فيها معاني الفخر والعزة والكرامة الوطنية والقومية، فيجعلها، كما قلنا عارية، لا تجد ما تتسلح به أو تدافع من خلاله عن نفسها أو تستتر به في مواجهة الأعاصير.

ومن هنا كان الموقف الفكري الناضج للبعث، منذ بدايات مرحلة التبشير، وهو يرى محاولات التغريب باسم الشيوعية والرأسمالية، أو محاولة الفكر الرجعي بالبقاء في الماضي دون فهم مفردات الواقع وموجباته والانفتاح عليه ومواكبته من هذه النقطة تحديداً وبهذا الفهم الواعي وبهذه الإحاطة الشاملة العميقة عبرت عقيدة البعث العربية الاشتراكية عن رؤية دقيقة تستوعب التراث وتنطلق منه في سعيها للتجدد تحقيقاً لانبعاث الامة من جديد ، وهو ما انفرد به وبات ملازماً له، فكان بعثاً للأمة بحق.

فيقول الرفيق الامين العام : (( يبقى البعث الرسالي ملبياً لتطلعات الأمة بكلِ عُمقِها وشمولِها وفق ضرورات ومتغيرات العصر )) .

ولنا في مؤلفات قادة الحزب ومفكريه الأوائل ما يثرينا في هذا المجال، وما ينبغي أن يحدد مسار أي دعوة للتجديد والنهضة والتفاعل مع روح العصر.

وفي النهاية فانه علينا الفرز بين شيئين مختلفين تماماً ، بين الانفتاح على العصر والرؤية التنويرية من جهة وبين هدم الارادة عبر الغاء الثقة بالنفس التي تشكل اهم مقومات مواجهة التحديات والانتصار عليها.

وفي الوقت الذي نؤكد فيه ان على لا نهضة للامة من دون مواكبة العصر والانفتاح على المستقبل، ولكن .. لا نهضة لها ايضا من دون قواعد راسخة تنطلق منها لتحقيق النهضة المنشودة.





الاحد ٢١ ذو القعــدة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / تمــوز / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة