شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل الرابع من آب، كانت كل المؤشرات تدلل أن البلد ذاهب إلى انفجار كبير.فالنظام الصحي وصل حافة الانهيار بعد ارتفاع معدل الإصابة بفيروس كورونا، وتتدرجه صعوداً وفق متوالية حسابية.والأزمة المعيشية تفاقمت بشكل لم يعد ممكناً احتواء تداعياتها، بعدما ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية أضعافاً مضاعفة، والأخطر من كل ذلك تخطي عدد الذين أصبحوا تحت خط الفقر نسبة الخمسين بالمئة وفق تقرير لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا ( الإسكوا ).

في ظل هذا الواقع المأزوم على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والصحية، حصل الانفجار الكبير الذي أقل ما يقال فيه أنه زلزال، ضرب بيروت بقوة تدميرية قدرته بعض مراصد الزلازل بقوة ٤،٧درجات على مقياس "ريختر".

هذا الانفجار الزلزال أسفر حتى كتابة هذه الأسطر عن مئتي ضحية وآلاف الجرحى وعشرات الألوف من المشردين الذين باتوا تائهين في البحث عن أمكنة إيواء، بعدما تحولت الأحياء البيروتية وخاصة المواجهة للمرفأ إلى أشلاء متناثرة.ومن يقف على مشهدية الدمار الذي ضرب أحياء بكاملها في الوسط التجاري والأشرفية والكرنتينا وزقاق البلاط والأحياء المتاخمة لها يعي قوة الانفجار، فكيف بالذين وقعوا تحت تأثير الصدمة المباشرة?، وفيها ظن كل من كان في بيروت ساكناً أو عاملاً أو موجوداً بمحض الصدفة، أن الانفجار وقع بجنب منزله أو مركز عمله أو في سيارته أو تحت الأرض التي يمشي عليها.

وقبل أن تخرج الناس من تأثير وقع الصدمة التي نتجت عن الانفجار، كثرت التقديرات وتعددت وجهات النظر حول الأسباب، سواء كانت نتيجة فعل مخطط، بقصف جوي أو تفخيخ، أو نتيجة حدث عرضي، وكثيراً ما كانت تتم مقاربة الأسباب بخلفيات سياسية.وكما تنوعت الآراء والاستنتاجات حول الأسباب، لم يكن الأمر افضل حالاً بالنسبة لنوعية المواد التي تفجرت وكميتها وملابسات وصولها إلى لبنان وتخزينها منذ مدة تقارب سبع سنوات.وبعد التفجير دار سجال حاد حول التحقيق، بعضهم ذهب إلى المطالبة بتحقيق دولي لانعدام الثقة والقدرة والإمكانات الفنية بالتحقيق الذي تجريه الأجهزة اللبنانية، وبعض آخر ذهب إلى اعتبار التحقيق مسألة سيادية ولا يجوز إحالتها إلى مرجعيات دولية لن تكون بعيدة عن الضغط الدولي والتسييس.وفي النهاية استقر التحقيق على مرجعيته اللبنانية مع إمكانية الاستعانة بالخبرات الدولية.

هذا الجدل الذي دار حول الأسباب والتحقيق، كان انعكاساً للاضطراب السياسي الذي يخيم الوضع، كما أعطى صورة عن الارتباك الداخلي وضعف الجهوزية في تلقي نتائج حدث كانت تداعياته شديدة الوطأة على الواقع الوطني برمته.

لقد شكل الاستنفار الشعبي، "بدل عن ضائع" عن الاستنفار الرسمي لمواجهة الانعكاسات التي تولدت عن الانفجار، وتسارعت المبادرات الخارجية للمساعدة في أعمال الإغاثة وتقديم المساعدات العينية من مواد طبية وغذائية ومعدات لضرورات العمل اللوجستي، وهذه المبادرات تحصل عادة في كل مرة يتعرض بلد لحدث يكون زلزالاً أو بحجمه.لكن ما ميز المبادرات تجاه لبنان عن غيرها، أنها لم تقتصر على المساعدات المادية والإغاثية وحسب، بل انطوى التحرك على مبادرات سياسية من مواقع دولية تم خلالها إطلاق مواقف، قاربت الأزمة بجانبها السياسي بمثل ما قاربته بجانبها الإنساني.وهذا ما أعاد تصويب البوصلة باتجاه الواقع الفعلي الذي تشكلت في ظله كل العوامل التي ساهمت في حصول الكارثة التي لم ير اللبنانيون مثيلاً لها.
قد يستمر التحقيق في أسباب الانفجار طويلاً، وقد ينجز في وقت معقول تحت ضغط الرأي العام، لكن مهما كانت النتائج التي سيخرج بها التحقيق، ستكون دون قيمة تذكر إن لم تؤد إلى إحداث زلزال سياسي، يكون بمثابة المواساة الفعلية للمتضررين من الانفجار على المستوى الفردي كما على المستوى الجمعي والمقصود بذلك المستوى الوطني.

إنه بغض النظر عن الطريقة التي وصلت فيها المواد المخزنة والقابلة للاشتعال والتفجير إلى المرفأ، ومن هي الجهة البائعة أو الشاحنة، ومن هي الجهة المشترية، والجهة الوسيطة، ومن هي الجهة المخزنة هذه المواد لمصلحتها، فإن الثابت أن هذه المواد وصلت إلى مرفأ بيروت وخزنت في معابره، ولم تخرج منه إلا بعدما أخرجت مرفأ بيروت من الخدمة وأخرجت نصف سكان العاصمة من منازلهم وأماكن عملهم.وأنه بغض النظر عن المسار القضائي الذي سيسلكه الملف، وما سيخرج به من خلاصاتٍ قضائية، فإن الأهم من كل ذلك هو المسار السياسي الذي يحدد المسؤولية السياسية.وهذه ليست من صلاحية القضاء العدلي الذي وضع يده على الملف.

مما لا شك فيه أن إهمالاً إدارياً قائماً، وهذا يطال كل المنظومة الإدارية التي تولت إدارة المرفق العام.كما أن ثمة وضع ملتبس يلف وضع الضابطة الجمركية.كما أنه يوجد ترهل وضعف في أعمال الهيئات الرقابية.وكل من هؤلاء بحسب موقعه الإداري وتراتبية المسؤولية المناطة به يعتبر مسؤولاً.لكن هل الإهمال المتعمد أو العرضي والالتباس في وضع الضابطة الجمركية واستقالة الهيئات الرقابية من ممارسة دورها طوعاً أو قسراً، كان ليحصل لو لم تكن هذه المنظومة تمارس وظائفها متظللة بمنظومة سياسية تدير البلد على قواعد المحاصصة في الانتفاع من المرافق العامة وتطوع العام لمصلحة الخاص، وهي التي باتت ثابتة من ثوابت النظام اللبناني، وتندرج تحت عنوان الفساد بعناوينه السياسية والاقتصادية والقضائية والإدارية والمالية وكل ما له علاقة بإدارة المرفق العام.
في ظل الفساد نشأت الظروف الموضوعية التي فجرت الحراك الشعبي في السابع عشر من تشرين الأول ٢٠١٩.وبالمقياس ذاته فإن الفساد بكل أشكاله هو الذي وفر الظرف الموضوعي للانفجار - الزلزال، والذي ما كان ليحصل لو لم يكن هناك فساد سياسياً انغمست فيه المنظومة السلطوية من أعلى هرمها إلى أدنى مسؤول في إدارتها.

إذاً، إن المسؤولية عن هذا الانفجار الذي ولد الكارثة هو السلطة السياسية كون هذه السلطة هي ولي النعمة وهي السلطان التي أكل من خبزها، من هم في موقع التابع للمتبوع، وعليه فإن شاغلي المواقع الهرمية في السلطة هم المسؤولون بالدرجة الأولى، وعملاً بمسؤولية الرئيس عن أعمال مرؤوسيه.ولهذا فإن المحاسبة يجب أن تسير على ثلاثة مسارات.

مسار إداري بجرم التقصير والإهمال وعدم مراعاة الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء.

مسار قضائي بجرم التسبب بالفعل الجرمي ليطال المنفذين والمشاركين والمتدخلين وكل ذي صلة.

مسار سياسي بجرم الفساد الذي وفر المناخات للانفجار الاجتماعي الاقتصادي في تشرين الأول وللانفجار الزلزال في الرابع من آب.

وإذا كان مسار المساءلة الإدارية والقضائية يفضي إلى عقوبات مسلكية وإدارية وقضائية بحق من تثبت عليه مسؤولية تقصيرية أو قصدية، فإن المسار السياسي يجب أن يفضي إلى محاسبة سياسية للمنظومة السلطوية بكل أطرافها، من الذين نهبوا المال العام من خلال صفقاتهم المشبوهة، وسمسراتهم ومحاصصاتهم وزبائنيتهم، إلى من مارس التعطيل لدور المؤسسات الشرعية ومنعها من تأدية وظيفتها الأساسية في بسط الدولة لسيادتها الشرعية على المرافق العامة وضبط الحدود والمعابر واتخاذ لبنان منصة لإدارة مشاريع إقليمية بما يتناقض والمصلحة الوطنية.
من هنا فإن الجريمة التي ارتكبت بحق شعب لبنان والتي كانت مشهدية الانفجار في الرابع من آب الأشد إيلاماً، هي جريمة موصوفة بكل المقاييس والمعايير، وهي جريمة ضد الإنسانية بحكم ما نصت عليه أحكام القانون الدولي الإنساني، لأنها لم تستهدف شخصاً بعينه بل استهدفت مجموعات بشرية بكل طيفها الاجتماعي، وبالتالي فإن المحاسبة والمقاضاة والعقوبات يحب أن تكون بمستوى الأضرار المادية والمعنوية التي أصابت لبنان في صميم أمنه بكل مضامينه الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية.وإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية وهي صاحبة الاختصاص للنظر في الجرائم ضد الإنسانية، غير ممكن وضع يدها على جريمة المرفأ، لأن لبنان غير منضم إلى النظام الأساسي للمحكمة، ولأن المدعي العام لم يبادر إلى إجراء تحقيق بالحادث، ولأن مجلس الأمن لا يمكنه الإحالة إلا بموجب الفصل السابع وهو الغير متوفر في ظل معطى القضية، فلا يبقى إلا أن تتم المقاضاة وفق قواعد الاختصاص اللبناني وعلى قاعدة التناسب بين الضرر والعقوبة الموازية.

إن جريمة بحجم التي عاش اللبنانيون عامة وقاطني بيروت خاصة هولها بعد عصر الرابع من آب، لا تشكل إجراءات التأديب الوظيفي ولا الأحكام القضائية وهي حاصلة لا محالة، عقوبة على قدر التناسب مع الضرر الحاصل، بل لا بد من إجراءات تقضي بجعل الذين أوصلوا البلد إلى هذا المستوى الخطير من الانهيار يدفعون الثمن بالسياسة وحتى لا تكرر عملية دفع الأثمان الباهظة.

هذه الإجراءات تندرج تحت ثلاثة عناوين أساسية :

العنوان الأول، إقرار الآليات التي تمكن من إعادة تكوين السلطة استناداً إلى قانون انتخابي جديد تنعكس من خلاله إرادة التمثيل الشعبي وبهدف إعادة إنتاج سلطة جديدة تعيد بناء البلد على قواعد المساواة في المواطنة.

العنوان الثاني، إعادة الاعتبار للدولة باعتبارها دولة ذات وظيفة حمائية على مستوى الأمن الوطني، وذات وظيفة اجتماعية على مستوى الأمن الاجتماعي.

العنوان الثالث، إقامة الحكم الرشيد، وإعادة الاعتبار للمؤسسات الرقابية وإعمال مبدأ الثواب والعقاب على كل العاملين في إدارة المرفق العام، وتطبيق قواعد الحوكمة والشفافية في إدارة القطاع الخاص، وتفعيل آليات المقاضاة لكل من يتطاول على المال العام.

إن خارطة الطريق للبناء السياسي الجديد ممرها الإلزامي مسارات العناوين الثلاثة المشار إليها، لأنه بدون ذلك تكون تضحيات اللبنانيين قد ذهبت سدىً، لان الفاسد يبقى على فساده، والعامل خارج مشروع الدولة يبقى مرتبطاً بمشروعه الخاص غير ابهٍ بالنتائج المترتبة عن التثقيل الأمني والسياسي الذي أضعف مقومات الدولة وجعل لبنان ساحة تصادم بين الاستراتيجيات الدولية والإقليمية المتقابلة.

هذا الحل الإنقاذي لا تنتجه المبادرات الخارجية دولية كانت او إقليمية، لأن هذه المبادرات ولو سلمنا جدلاً بحسن نوايا حامليها، إلا أنه لا يمكن الركون إليها، لأن الدول التي تطلق مبادرات تبقى محكومة بمقتضيات مصالحها، وهي إذا تطرقت إلى رزمة الإصلاحات المطلوبة فلأن فساد المنظومة السلطوية بلغ حداً من التغول لم يعد باستطاعة أحدٍ تجاوزه أو القفز فوقه.

وعلى هذا الأساس فإن الانفتاح على العناصر الإيجابية من مبادرات الخارج وخاصة التي أشرت بوضوح على الفساد لا يكون بديلاً عن العامل الوطني، لأن العامل الأساس في المحاسبة التي تفضي إلى إسقاط المنظومة السلطوية الحاكمة وإنتاج منظومة جديدة، هو العامل الداخلي والتي شكلت الانتفاضة رافعته الشعبية التي حققت الإسقاط الأخلاقي للسلطة دون الإسقاط السياسي، وقد حان وقت الإسقاط السياسي لهذه السلطة وكنتيجة حتمية لما حصل في الرابع من آب.

صحيح أن العنبر ١٢ انفجر مخزونه عبر مشهدية التفجير المادي الذي أحدث تدميراً مروعاً، لكن الأصح أن التفجير حصل فيعنبر النظام الممتلئ مخزونه بالفساد السياسي المتراكم، وبالتالي فإن التدمير يجب أن يطال المنظومة السياسية بكل رموزها ولا يمكن لاحد أن يتنصل مسؤوليته مهما علا موقعه وشأنه، ولا يستطيع أي مسؤول أن يتنصل من المسؤولية لعلة أنه لم يكن يعلم.
لقد أخرج الانفجار مرفأ بيروت من الخدمة، والعقوبة الطبيعية التي تشفي غليل الضحايا من عقم هذا النظام وفساده، هو إخراج المنظومة السلطوية الحاكمة من الخدمة، وهذا هو الثمن السياسي الذي يطلبه الشعب المنتفض على الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، هذا هو المدخل الفعلي لتجديد الحياة السياسية بقوى جديدة تحمل مشروعاً وطنياً للتغيير والبناء الوطني.هذه القوى التي شكلت الانتفاضة الشعبية واحدة من تجليات تراكماتها النضالية التي تفجر احتقانها في ١٧تشرين الأول، واستعادت نبضها في سبت الغضب الشعبي كيوم مجيدٍ بحق وحقيقة، عانق يوماً مجيداً آخر في السابع عشر من تشرين الأول، نصبت قوس نصر للحراك الشعبي الذي غصت به الساحات والميادين ولاقى الحراك الشعبي الذي تشهده العديد من الأقطار العربية تحت شعار الشعب يريد إسقاط النظام.

هذا الحراك يبشر بميلاد جديد للحركة الشعبية العربية في نضالها ضد الاستلاب الاجتماعي الذي يتكامل مع النضال ضد الاستلاب القومي وكل أشكال الارتهان والتبعية للخارج الدولي والإقليمي وأهميته باستمراريته وحماية خياراته الوطنية والتمسك بسلمية حراكه وعدم استدراجه إلى العسكرة وحراك لبنان سجل نقاطاً لصالحه ضمن هذه الثوابت وعليه يتم التأسيس انطلاقاً إلى مرحلة أرقى.






الخميس ٨ محرم ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / أب / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب افتتاحية طليعة لبنان الواحد عدد اب ٢٠٢٠ نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة