شبكة ذي قار
عـاجـل










لسبع سنوات خلت وقريباً جداً من مثل هذه الأيام الخريفية، فُجِعَ اللبنانيون برحيل العشرات من أبناء منطقة الشمال غرقاً على سواحل استراليا وأندونيسيا بعد واحدة من أكبر عمليات النصب والاحتيال التي انطلت على هؤلاء وهم يرومون إلى حياة أفضل يعيش فيها من يعيش ويموت من فضل الموت بشرف على سواحل البحار على أن يموت جوعاً وهو يرى أولاده يتضورون من الجوع.

إلا أنه ومن المؤسف تماماً أن يتكرر اليوم، ما حصل منذ سنوات في خريف العام ٢٠١٣ بصور اشد مأساوية وأبشع ضراوة عندما يفتك الموت بأطفال في وسط البحار، يموتون فتُرمى جثثهم في القاع خوفاً من أبقائها مربوطة على القوارب فتأكلها الجوارح أو تنتن رائحتها وكلاهما ميتتين أقل عذاباً من الجوع المستدام والتضوُّر على أيدي تجار الدم.

أما الأم الثكلى التي رمت بمولودها إلى حيتان البحار فقد ماتت لمرتين إن بقي في قلبها ما ينبض لتروي بدموعها رحلة الهرب الجماعي من حيتان البر الذين أغلقوا كل احتمالات الموت الاختياري أمام اللبنانيين ليتركونهم للجوع حيناً والتفجير حيناً أو وجعاً واليأس والقنوط أحياناً أخرى حيث لم يعد اللبناني يجد متسعاً للموت سوى في المغامرة على القوارب فيراهن على حياته كمن يراهن بكل ما يملك على طاولة القمار، فإما يخسر كل شيء وإما ينفذ بما تبقى له من أشلاء حياة يعيد تجميعها في أرض "اللبن والعسل" التي لطالما حلم بها.

ومع اقتراب الأيام الأولى لخريف العام ٢٠٢٠، تتكرر المأساة بأبشع وجوهها حين رمت خيرة أبناء الوطن على سواحل البحار خريف العام ٢٠١٣ في الطريق إلى اوستراليا، ولو كان من ذاكرة جماعية يلجأ إليها اللبنانيون وهم يبحثون عن مصير افضل لربما لم يتكرر ما حصل، لولا أن الذاكرة بحد ذاتها تنازع بدورها فلم تعد تميز بين الموت جوعاً أو غرقاً أو انتحاراً أمام ما يعترضها يومياً من أحداث لاهبة أحرقت كل مسام الحياة بحيث تمشي وتتحرك ولا تنطق إلا حين تشعر بالجوع، وأن شعرت فلا تجد ما يسد جوعها، لتموت فيها سلسلة الشعور بالألم بها وليموت بعدها كل شيء.

"لو لم نكن ميتين مادياً ومعنوياً لما لجأنا إلى الهرب من هذا البلد نفتش على عيشة أفضل" يقول أحد الناجين من قوارب الموت، فيما ناجٍ آخر خسر كل شيء في تلك الرحلة الرهيبة وبالرغم من كل ما قاساه من عذابات وآلام يقول : "لو تسنى لي تكرار التجربة مرة أخرى ومرتين وثلاث والى ما شاء الله، فلن أتوانى عن المغامرة لأن كل ما ينتظرنا من أهوال لا يقاس بالجحيم الذي نعيشه في لبنان".

ولو عدنا إلى أرشفة ما حصل في العام ٢٠١٣ لتبين لنا أن أكثر من ناجٍ آنذاك على سواحل أندونيسيا قد نطق بما ينطق به اليوم بعض الناجين في العام ٢٠٢٠،الحرف بالحرف، والكلمة بالكلمة.

إن ما تقدم وأن دلُّ على شيء فإنما يؤكد أن لا قيمة لحياة البشر في هذا البلد، والدولة من كل مواقعها تراقب ما يجري وكأنه على أرض محايدة وكأن من يموت ليس ممن يحمل جنسيتها وهويتها وهو الذي تعطيها القوانين حق استدعائه للدفاع عن الوطن عندما يتعرض للخطر، فأي سوريالية بعد ذلك، يعيشها اللبناني اليوم بعد أن نُزعت منه كل حقوق المواطنة وتراه صار يكفر بالوطن قبل كفره بأي شيء آخر.

ما الذي يجمع بين مأساتي العام ٢٠١٣ والعام ٢٠٢٠، سوى أن هنالك من شاخت ذاكرته ففرض عليها أن تتناسى ما حصل بالأمس ليكرر تجربته اليوم، عساه يجد مفراً من الجحيم الجهنمي الذي هو فيه حيث تقتطع حيتان البر الجزء الأكبر من حياته ويومياته وتسخرها لمصلحة من تمثل من تجار دم وطائفية ومذاهب وعقارات وحبة دواء ورغيف عيش، علّه يجد ما يحلم به إذا تخطى مصاعب ومتاعب البحار، وأن لم يجد فالأمل معقود على حيتان البحار التي ربما ستكون أرحم من مثيلاتها في البر اللبناني الكبير، وحتماً ستكون أرحم لأنها على الأقل لا ميليشيا مذهبية لها، ولا طائفة تحتكر الحديث باسمها، ولا سيد للبحار يهدد بجهنم، ويكفي في النهاية أنه سيموت ميتة واحدة لا عدة ميتات.





الاثنين ١٨ صفر ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / تشرين الاول / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة