شبكة ذي قار
عـاجـل










يعيش التونسيون منذ عشر سنوات على وقع تكرار شعار جعله مطلقوه شعاراً مركزياً وهو محاربة الفساد، فمنذ انهيار النظام النوفمبري وفرار رأس النظام مطلع جانفي ٢٠١١، تعالت أصوات الغالبية الساحقة من النخب التونسية سواء السياسية أو الثقافية أو الإعلامية أو القانونية أو الاقتصادية مطالبة بضرورة قطع دابر الفساد في البلاد بعد اتفاق الجميع حول حقيقة لا غبار عليها ومضمونها أن مشاكل تونس والتونسيين جميعها إنما مردها حصراً للفساد ولمَ تولد عنه من تبعات وويلات.

ومنذ ذلك التاريخ، تسابق واشترك الفاعلون في الشأن العام وخاصة الأحزاب في رفع شعار محاربة الفساد واتخاذه محوراً نضالياً رئيسياً، ثم اختطفت أحزاب السلطة ذلك الشعار، ثم سلبته منهم السلطة ذاتها والحكومات المتعاقبة.
خاض الكل في تونس حرباً ضد الكل، واتهم الكلُّ الكلَّ بالفساد، وتناطح الفاسدون والمفسدون، وتشاكس وتناوش وتشاجر مقاومو الفساد فيما بينهم، وتعاظمت الادعاءات بالتصدي للفساد حتى غدا الأمر شيئاً شبه سريالي، يحاكي في طلاسمه الأساطير.
استمر الجدل في تونس حول الفساد وتعريفاته وحول طبيعة الفاسدين واستغرق زمناً طويلاً، وطال مع ذلك كله انتظار التونسيين لمألات هذه الحرب الطاحنة المزعومة، فاستبشر فريق منهم وعقد آمالاً عريضة ممنياً الأنفس بانفراج كرب جثم على الصدور ردحاً من الزمن، وتوجس فريق ثان من جدية الأمر وظل التشاؤم مستبداً به فيما يتعلق بهذا الوعد لانعدام كلي للثقة في المسؤولين وفي المؤثرين والمتحكمين بالشأن العام.

وفي هذه الأثناء، تواصل التركيز في الخطاب السياسي يميناً ووسطاً ويساراً، حكاماً ومعارضة، على ضرورة التوحد وتوحيد الجهود لمقارعة الفساد ومحاربته واستئصاله.

وبمرور الأيام، اكتشف المواطن التونسي المثقل والمرهق بفعل ما يعانيه من أزمات مركبة ومشاكل لا حصر لها، كذب ادعاءات الإصلاح والمصلحين، بعد أن أفاق على وقع صدمة كبرى وإثر ما تجرعه من مرارة الخيبة خاصة وأن كل الأحداث والتطورات أكدت بما لا يدع مجالاً للشك تنامي ظاهرة الفساد وتغول المفسدين وسيطرة

المارقين عن القانون على تلابيب الاقتصاد والخدمات وغالبية القطاعات الحساسة، فازدادت معاناة التونسي تفاقماً.

لقد كانت الطامة الكبرى الذي أذهلت جل التونسيين فأصابتهم بإحباط جماعي ونفرتهم من متابعة الشأن العام وعمقت لا مبالاتهم بكل ما يجري من حولهم، أن أعلى الأصوات التي يتبجح أصحابها بعزم فولاذي وصرامة حديدية وحزم هائل على الضرب بيد من حديد على أيدي الفساد والمفسدين، إنما هي أصوات أكثر الفاسدين إجراماً.

إن أغلب الحكومات المتعاقبة والمشكَّلة بعد ما سمي بالثورة في تونس، رافقتها فضائح فساد مدوية، وفاحت من بين ثنايا أعضائها روائح الفساد التي تزكم الأنوف والتي تخجل أبسط مواطن في تونس، فكان عشرات الوزراء من أصحاب السوابق الثابتة والمؤكدة بل ومن أهل الخبرة الواسعة في عالم الفساد.

ولم يتوقف الفساد عند حدود أعضاء الحكومات، بل إن من بين من رُشّحوا لرئاسة الحكومات فاسدين كباراً ومحترفين، بل ولم تتوقف المتاهة والمأساة عند هذه العتبات على فداحتها، بل إنها شملت فضاءات حساسة ومنظومات حيوية برمتها.


استشرى الفساد إذاً في تونس، وعم الميادين كافة، اقتصادياً وخدماتياً وأمنياً وقضاءً وإعلاماً وتربية ورياضة وصحة وثقافة.

استشرى الفساد، فطال الساسة مستقلين ومتحزبين، وطال المنظمات حزبية ومدنية وحقوقية.
إلا أنه وفي كل هذه الأثناء، ظلت الحرب على الفساد شعار الجميع، دون أن توقع هذه الحرب ضحايا ولا خسائر سواء في المعدات أو في الأرواح، فقط كان المواطن التونسي البسيط هو المتضرر الأوحد من الفساد، وظلت تونس هي الخاسر الأكبر جراء العجز عن التصدي المسؤول والشجاع لهذه الآلة المدمرة.

إن الفساد في تونس أكبر وأوسع من أن يقدر المرء ومهما أوتي من قدرات خارقة على التوثيق والإحصاء والمتابعة الدقيقة، على حصره وضبط أحداثه وجرد سجلاته.

ضرب الفساد الاقتصاد، فالتهبت الأسعار، واهترأت المقدرة الشرائية للمواطن التونسي، وشلت قطاعات استراتيجية عديدة ذات مردودية كبرى واستحوذت شرذمة من قطاع الطرق على ثروات المجموعة الوطنية، فسحقت طبقة بأكملها من طبقات المجتمع في تونس ليصبح موزعاً على طبقتين اثنتين لا وسطى بينهما على الإطلاق، طبقة من الأثرياء

واللصوص والمهربين ينعمون ويرفلون في حياة البذخ والرفاهية، وطبقة مسحوقة مطحونة من بقية الجماهير تكابد شظف العيش وتعاني الويلات مجتمعة.

ضرب الفساد الإدارة والخدمات، فساء النقل وانعدم أو يكاد، وانهارت البنى التحتية جميعاً، فلا طرقات ولا جسور ولا مشافي ولا مدارس ولا معاهد تليق بعالم القرن الحادي والعشرين.

ضرب الفساد قطاع الصحة، فانعدمت الخدمات الطبية وتخلى القطاع العمومي لحيتان القطاع الخاص وأرباب المصحات الخاصة، فصار التونسي مجرد سلعة ورقم بين الأرقام على السجلات وبين الدفاتر.

ضرب الفساد التعليم والثقافة، فانهارت الأخلاق، وفسدت الطباع، وشوهت القيم، فأدى كل ذلك إلى مجتمع هجين مسخ جاهل بلا ذوق ولا قيم ولا مبادئ ولا ثقافة إلا من رحم ربي.

ضرب الفساد الساسة والسياسة، فتسرب اللصوص والمتهربون من الضرائب والجهلة والرعاع إلى أعلى المراتب، فصار مجلس النواب باعتباره أعلى سلطة تشريعية في البلاد مرتعاً للمرابين والمحتكرين والمضاربين، وولج إليه أنصاف الأميين،


فغدا مبعث سخرية الساخرين، واستعصت فضائحه ومهازله على الحل.

نخر الفساد السياسة والأحزاب في تونس، للحد الذي لم تعد تقارير أعلى المحاكم المختصة قادرة على إيقاف نزيف الفساد، وحتى تقرير دائرة المحاسبات الأخير والذي يوضح جرائم مالية كبرى رافقت الانتخابات الماضية، ويتهم متصدرو المشهد السياسي والحزب اليوم في تونس صراحة بارتكابهم لانتهاكات جسيمة دستورياً ومالياً، فإنه - أي ذلك التقرير - بقي حبراً على ورق، وفي المقابل لم تعل حمرة الخجل أحداً من الساسة والأحزاب المشار إليهم، ولم يصدر عنهم ما يدل فعلاً على أن في تونس قانوناً وأعرافاً بوسعها ردع المنفلتين.

أما عن الإعلام في تونس، فله مع الفساد صولة أخرى، من عالم آخر، وبوتيرة مغايرة.
ويكفي للمتابع، أن يتصفح القنوات التلفزيونية في تونس ليتحسس بيسر كبير هول الكارثة التي تحدث بتونس السليبة.فلقد باتت هذه القنوات منابر للرداءة والسآمة والتخريب الممنهج للوعي وأدوات فتاكة لتدمير الناشئة ولمسح أدمغتها وبرمجتها وتوجيهها صوب الجريمة والمخدرات ومختلف الموبقات الأخرى التي باتت تقض مضجع التونسيين.بل إن مجرد التمعن في أسماء مالكي تلك القنوات، وتصفح جولاتهم في دنيا الفساد، سيهدي

ذلك المتابع لمدى سيطرة المنظومة الفاسدة المفسدة على دنيا السلطة الرابعة.

نخر الفساد الأمن في تونس للحد الذي بات فيه عون الأمن عدواً مرعبا للمواطن التونسي، فلا يكفي أن أعوان الأمن ووزارة الداخلية فوق المسألة وفوق النقد وممنوعة حتى من التناول في شأنها إلا في حدود يرسمها قادتها لمن يسمح له بالخوض فيها، ولكنهم لا يتورعون من التنكيل بالمواطن البسيط بموجب وبدونه بلا رادع أو حسيب، بل لم يعد ترويع المواطن وابتزازه، ولم يبق إكراهه على دفع الرشاوي وغيرها أكثر ما يدلل على فساد هذه المنظومة الأمنية القائمة، حيث تم تجاوز هذه المراتب ليبلغ تهديد الأمنيين لهيئات ومنظومات بحالها، ولعل حادثتي

محاصرة محكمة بن عروس أثناء مساءلة متورطين أمنيين في القيام بانتهاكات خطيرة للقانون وحقوق الإنسان وخاصة قضية المحامية التي تم الاعتداء عليها داخل مركز أمن عمومي بوحشية وثقتها أجهزة المراقبة، أكبر دليل على مدى تهور الأمنيين وغياب الحرفية في أداء واجباتهم.

وأما عن الفساد داخل أجهزة الديوانة، فتلك مصيبة كبرى.
طغى الفساد في تونس، وبات أكبر تهديد جدي لحاضرها ومستقبلها ولمصيرها حتى على المستوى الاستراتيجي، دون أن تلوح بيارق هبة صادقة شجاعة مخلصة ومسؤولية رسمية أو شعبية لإيقاف هذا الكابوس وصد ذلك الخطر.




الثلاثاء ٨ ربيع الثاني ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / تشرين الثاني / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة