شبكة ذي قار
عـاجـل










في الساعات الثمانية واربعين التي سبقت اليوم الانتخابي الطويل في طرابلس في ١٧ / ٤ / ١٩٧٢،
كانت المواجهة الاعلامية بين قائمتي الراحلين الدكتور عبدالمجيد الرافعي والشهيد رشيد كرامي قد احتدمت الى درجة ان الماكينة الاعلامية لكلا الطرفين لم تهدأ من ضخ البيان والبيان المقابل على مدى النصف ساعة بين البيان والآخر طوال ذاك النهار الحامي الذي يسبق اليوم الاخير المخصص للراحة قبل اليوم الانتخابي ،
حيث كان البيان هنا وهناك يقتصر على الشعارات التي يرفعها كل طرف دون التطرُق الى اي تجريح او ابتذال واسفاف كلامي المرفوض من الجميع ؛
ومع قرب غروب ذلك اليوم ،وفي طريقه الى القيام بواجب التعزية في منطقة حارة البرانية ، صودف لقاء الدكتور الرافعي بالرئيس كرامي على الدرج الاسمنتي العريض الذي يؤدي الى الحارة ،

الاول صعوداً والآخر نزولاً ليفاجأ من حضر اللحظة بالإثنين يرفعان ذراعيهما الواحد للآخر فيحتضنا بعضهما البعض وكأنهما في قائمة واحدة وحلف واحد لا في قائمتين وخصومة في السياسة ،
متمنياً احدهما للآخر النجاح والتوفيق.

ولدى عودة الحكيم المجيد الى بلده ومدينته في العام ٢٠٠٣ بعد تهجير قسري فرضته عليه الاوضاع الامنية والسياسية لما يقارب العقدين من السنين ،
كان في عداد المهنئين ، من هاجم البيت الرافعي في ابي سمراء ايام استفحال الموجة الظلامية على المدينة ،
فعبث وخرّب في اعمال لا مجال لذكرها اليوم تجنباً لنكأ جراحٍ دُمِلَت،

فوجئ الحضور بالحكيم يستقبل هذا الشخص برحابة صدر وليسأله عن احوال والديه الذي كان طبيبهما يوماً ،مستفسراً ومطمئناً عنهما ،

حين فاجأه بعض الحاضرين بالسؤال بعد مغادرة الاخير :
الهذا الحد من الطيبة والتسامح والقلب الكبير انت عليه يا حكيم !

وليجيب الحكيم سائليه على الفور :
انما كبير القوم من لا يحمل الحقدا.
هكذا كان حكيمنا المجيد الذي نستذكره في ذكرى رحيله الرابعة ونستذكر معه خلاصة نظرته للحياة التي لخصها في احد الابيات الشعرية لزهير بن ابي سلمى فيرددها على مسامع القريب والبعيد :
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْـلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِـهِ
عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْـنَ عَنْـهُ وَيُذْمَـمِ.
وفي واحدة من ايام الذكرى السنوية للراحل الشهيد رشيد كرامي ،

كان للدكتور الرافعي كلمة تأبينية بالراحل الكبير تعتبر قمة ادبية واخلاقية في فهم الخصومات السياسية التي ما كانت لتتعدى الامور المحلية والشؤون الخاصة بالمدينة دون ان تغفل ان "الرشيد كان قامة وطنية ما كنا لنختلف معه يوماً حول القضايا الوطنية والقومية الكبرى "، كما جاء في كلمة الحكيم.

ويوم وفاة الرئيس عمر كرامي قطع الحكيم اجازته السنوية مع بدء العام الجديد ليطلب من كل الرفاق المشاركة في التشييع ثم ليُفاجئوا انه في مقدمة المشيعين مصرّاً على البقاء حتى اللحظة الاخيرة من الوداع مقدماً التعازي لعائلة الراحل.

تلك عيّنة لثقافة كرسها مناضلون كبار في هذا الوطن لم يضيعوا البوصلة الوطنية يوماً في نضالهم اليومي واهتماماتهم بالشأن العام ، فلم يدمجوا الخاص بالعام ولم يجعلوا للمواقف الشخصية طريقاً لالحاق الاذى بالبلد ومصالح الناس ،ولم يتوانوا عن تقديم هذه المصالح على كل ما يخصهم من خصوصية وذاتية ،
وهذا ما نفتقده هذه الايام وللاسف في ظل وجود ساسة لم يرتقوا الى مستوى هؤلاء القادة ولم يتعلموا كيف يُساس البلد ،
وأبت مصالحهم الضيقة الا ان تُبقيهم داخل الاطار السياسي "قصير الأفق" الذي آثروا ان لا يغادروه ،

ولو ادى ذلك الى انهيار البلد وضرب المؤسسات العامة وتجويع الناس في سابقة تاريخية لم يشهد لبنان مثيلاً لها الا على ايدي حديثي نعمة السياسة ،
الذين يستحيل عليهم ان يتمثلوا بالقادة او يتعلموا من الكبار ،
مفضلين ادنى السفوح على اعتلاء القمم ،
بينما الايام القادمة الحبلى بغضب الناس وعذاباتهم ،
لن تجعلهم يفرحون بما جنت اياديهم ،
بعدما خسروا انفسهم وخسروا ثقة الناس ومحبتهم معاً.





الجمعة ٢٩ ذو القعــدة ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / تمــوز / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة