شبكة ذي قار
عـاجـل










المُعلم ... من هالةِ القدسية، إلى مكانة الإذلال

ناصر الحريري

 

قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) }. صدق الله العظيم.

بهذه الدعوة كانت بداية الرسالة، كانت دعوة الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يقرأ ويتعلم، لأن المنهج الصحيح والقويم لمعرفة الحقيقة هو العلم.

فحين علم الله آدم الأسماء، أعطاه علماً وميزه عن الملائكة بالعلم، وما أرسل الله من رسول أو بعث من نبي إلا كانت الدعوة للعلم هي أساس رسالته.

فالعلم طريق يتبين فيه الإنسان حقيقة الكون، ويستوضح من خلاله مسببات خلقه وهدفه في هذه الحياة.

فبدأت رحلة العلم مع الإنسان الذي وهبه الله صفاتاً لا يمكن أن تتوفر في غيره من البشر لأن رحلة التعليم مسيرة حياة، ولا يمكن أن تتوقف في سن معينة.

فالمعلم ذلك الإنسان الذي وصفه البعض بالقديس، ومنحه آخرون صفة الرسول، فكان رسولاً قديساً، يشعل نفسه لينير للآخرين درباً محفوفاً بالعلم والأمنيات.

إن لهذا الإنسان فضلٌ عظيم في الأمّة، فهو الذي يُربّي الأجيال، وينشئ التنشئة السليمة على أساس متين قويم، فيعلّم القراءة والكتابة، يزرع القيم الإيجابيّة، يبين للتلاميذ والطلبة القيم السلبية ويغير أو يعدّل ما استطاع منها، وينشر بنور علمه العلم والمعرفة، فيمحو به ظلام الجهل، فيغدو الجيل واعياً متعلماً نافعاً لوطنه وقضيته وأمته، وقد أكرمه الشاعر أحمد شوقي عندما قال:

قُم للمُعلم وَفـه التبجيلا                      كاد المعلم أن يكون رسولا

كاد المعلم أن يكون رسولاً ، نعم إنّ رسالة المعلم من أعظم رسالات الأرض ، فهي رسالة الأنبياء جميعاً ،فالعالِم هو أكثر النّاس خشيةً لله  سبحانه وتعالى ـ فقال سبحانه : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28)، وهو أيضاً يتميّز عن الذي لا يعلم كما جاء في القرآن الكريم، فقد قال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)، كما أنّه يستحق استغفار الملائكة له، وحتى الحيتان في البحر تستغفر لمعلم الناس الخير؛ لما جاء في سنن أبي داؤود من قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنّ العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

وقد احتل المعلم في العصور الإسلامية مكانة مرموقة، وأفردت له منزلة لا يدانيها حتى الأمراء والسلاطين، تمثلت في إكرامه وحسن معاملته، وذلك تقديراً للدور العظيم الذي يقوم به.

ومن واقع الحال أستذكر وأنا أكتب عن المعلم إلى أننا "عندما كنا على مقاعد الدراسة، كنا نقضي شهرين أو ثلاثة شهور قبل حلول عيد المعلم ونحن نفكّر بالطرق الاحتفالية التي سنكرم المعلم بها، وهذا ما نفتقد إليه اليوم من قبل طلابنا".

إن مهنة التعليم لطالما كانت أهم مهنة في المجتمع لأنها تؤسس لكل الوظائف، ولكنها أمست اليوم المهنة التي يضعها الناس على هامش المجتمع، بسبب التطورات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.

كثيرة هي عبارات الثناء التي كُتبت بحق هذا الإنسان الذي يؤثر الآخرين على نفسه، ويقدم لهم كل محصوله المعرفي والعلمي، فقيل "من علمني حرفاً كنت له عبداً... ما أشرقت في الكون أي حضارة إلا وكانت من ضياء معلم...

 كثيرة هي الأقوال والأمثال والقصائد التي بجّلت المعلم وعظّمت من شأنه وأعطته جزءاً من حقه المعنوي، لكن السؤال اليوم، هل يحصل المعلم على حقه فعلياً؟ في خضم الأحداث والواقع العربي المرير، هل ما زال هذا الإنسان قادراً على العطاء رغم عدم توفر أبسط مقومات الحياة، وانعدام مقومات العملية التربوية والتعليمية.

يعيش المعلم العربي في الوقت الراهن أوضاعاً مأساوية وصعبة، يتمثل أهمها في انعدام الأمن المجتمعي والوظيفي، وكذلك الخلل الكبير الذي أصاب بعض الحكومات العربية التي تسلمت مقاليد السلطة وزمام الأمور في ظل احتلال أو في تفشي القيم السلبية لدى الساسة.

فبتنا نرى أن مسؤولي التربية والتعليم ومن يضعون مناهج الدراسة في بعض الأقطار لا يرتبطون بالعلم ولا بالمعلم، وإنما هم رعاع أراد استنزاف القيم العلمية والفكرية وتهجيرها، واغتيالها وفرض قيم ومبادئ جديدة لا يمكن أن تشكل إلا حرباً شرسة على العلم والكوادر العلمية والفكرية والمعرفية في المجتمع العربي.

ولنا في العراق مثال واضح: فكم من القامات العلمية والثقافية والكوادر التدريسية الجامعية والعلماء تم اغتيالهم، أو تم اعتقالهم أو تشريدهم، بسبب أنهم بناة حقيقيون، رفعوا درجة العلم وهامته عالياً، فكان للمحتل وأعوانه رأي آخر " يجب القضاء على العلم والعلماء، ويجب إنهاء العملية التربوية والتعليمية لأنها تشكل خطراً على وجودنا" هذا هو لسان حال الاحتلال وأعوانه. فتفشى الجهل والفقر، وازدادت نسبة الأمية في بلد كان الأكثر تعليماً وثقافة والأكثر تصديراً للمؤهلات العليا.

إن الواقع المرير الذي يعيشه المُعلم يضع على عاتقنا مسؤولية كبيرة، وهي السعي لتغيير هذا الواقع وتقديم كل العون في سبيل عودة الحياة للمعلم ولعمليته التعليمية، لأننا بالقدر الذي نرسي دعائم متينة وسليمة فإننا سنجد نتائج إيجابية تنعكس بصورة مشرقة.

حين كان المعلم سيد التعليم، كانت ألأسر تشعر براحة وطمأنينة، كانت تضع أبناءها في أيدٍ أمينة، وما زلت أتذكر قول والدي رحمه الله لمُدَرسيَّ:" لكم اللحم ... ولي العظم" وهو كناية عن حرية التصرف والثقة التي يمنحها الآباء في المعلم.

فكثير من المعلمين تركوا بصمات في حياتنا، كلٌّ حسب شخصيته، وكل معلم ترك في شخصياتنا جزءاً لا يمكن تعويضه، وفي سلوكنا مسحة من طبيعة فيها الخير والبركة، وفي عقولنا الكثير من العلم.

فلولا تلك الأسماء الشريفة لما كان أحدنا هنا، لولا تلك النفوس النقية التي زرعت فينا طلب الفضيلة والسمو فربما كُنَّا في أماكن مخيبة للآمال أو كانت نهايتنا قطاع طرق او مجرمين.

لولا تلك المشاعر النبيلة التي غرسوها ورعوها فينا لكانت قلوبنا قاسية أو أشد قسوة.

تحية تقدير وإجلال إلى نفوسٍ أبية ما زالت مصممة على تقديم العلم، والتضحية بكل شيء في سبيل الاخرين.

كل القدسية لكم أيها النبلاء الرسل، وقبلة على أيديكم الطاهرة المتشحة (بالطبشور).






الاحد ٣ شعبــان ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / أذار / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ناصر الحريري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة