شبكة ذي قار
عـاجـل










هبوب العواصف الترابية في سماء العراق...أسبابها والحلول الممكنة

تتعرض سماء العراق لعواصف ترابية بشكل متكرر ، غالبا ما تستمر لعدة ساعات أو أيام وتنشط في بداية الربيع وتستمر حتى نهاية فصل الخريف. وحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة فان تعاقب حدوث هذه العواصف الترابية قد ازدادت في العراق مؤخرا من متوسط 24 يوما في السنة للفترة بين العام 1951 حتى عام 1990 مقارنة مع 122 يوما في السنة في العام 2013. ويتوقع أن يشهد العراق حولي 300 عاصفة ترابية سنويا في الأعوام العشرة القادمة ، اذا لم يتم اتخاذ اجراءات جدية لإيقاف دوامة هذه الظاهرة الخطيرة.

الأضرار الصحية والاقتصادية

كل عاصفة ترابية تجتاح المدن العراقية تعد كابوساً يهدد حياة السكان حيث تكتظ أقسام الطوارئ في المستشفيات العامة بمرضى الربو وحساسية القصبات الهوائية وأمراض الجهاز التنفسي ،التي غالبا ما يصاحبها حالات من  الاختناق والوفاة  جراء الغبار المتصاعد في الهواء. يضاف الى ذلك حوادث اصطدام السيارات المميتة التي يمكن أن تحصل بسبب انعدام الرؤيا. وفي محصلة لحدوث إحدى هذه العواصف ،  أعلنت وزارة الصحة العراقية عن تسجيل أكثر من 4243 حالة اختناق في معظم المحافظات وحصول 7  وفيات بمحافظة النجف وحدها بسبب سقوط جدران البيوت وأعمدة الكهرباء واقتلاع الأشجار.

أما عن الأضرار الاقتصادية، فيؤكد بعض الخبراء من المنظمات الدولية أن "العواصف الترابية تدمر المحاصيل الزراعية، وتجرف الطبقة العليا الخصبة لسطح التربة، مما يقلل إنتاجية القطاع الزراعي بسبب ضياع الكثير من الأراضي الخصبة في العراق ". وأضاف هؤلاء الخبراء أن "العواصف الترابية تتسبب أحياناً في انخفاض إنتاجية العمل، وتدني دخل الأسر بشكل حاد، بسبب عجز ملايين الأشخاص عن الذهاب إلى أعمالهم . ناهيك غن تعليق بعض الرحلات الجوية عبر المطارات العراقية وانقطاع التيار الكهربائي عن بعض المحافظات.  

الأسباب وراء زيادة معدل هبوب العواصف مؤخرا

 تعتبر مشكلة التصحر في العراق (تحول الأراضي الصالحة للزراعة الى جرداء  ضعيفة في زراعة  النباتات)  من أكثر العوامل التي تساعد على هبوب العواصف الترابية. و أسباب هذه الظاهرة تعود الى تأثيرات خارجية وداخلية. فالتأثيرات الخارجية مصدرها قيام الدول المجاورة تركيا وايران  بتقليل حصة العراق من مياه الانهر نتيجة لبنائها العديد من السدود الضخمة دون التنسيق مع العراق لتأمين احتياجاته المائية . مستغلين بذلك ضعف الحكومات الحالية وعدم قدرتها على الدفاع عن الحقوق المائية المشروعة  للعراق. وقد تزامنت هذه الشحة في الموارد المائية القادمة من الخارج مع تأثير العوامل الداخلية والتي تشمل على ما يلي:

  أ. التغيير المناخي الناتج عن انحسار مساحات شاسعة من المسطحات المائية من أنهر وبحيرات وأهوار وما صاحبه من جفاف وقلة الأمطار أوصل خبراء الأنواء الجوية الى الاستنتاج بأن تلك المتغيرات المناخية قد أدخلت الطقس  بالعراق في مرحلة الدوامة المفرغة. فالنقص الحاصل في هذه المسطحات المائية قد تزامن معه ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة الجوية مما زاد من كميات المياه المتبخرة وبالنتيجة أدى الى مضاعفة مشكلة تصحرالأراضي وتكون التربة الملحية الغير صالحة للزراعة.

ب. الإهمالِ المتعمد للقطاع الزراعي من قبل الدولة الحالية شأنه شأن القطاعات الاقتصادية الاخرى من أجل ابقاء العراق معتمدا على الواردات الاقتصادية الايرانية . وقد تزامن هذا الاهمال مع تقلص غابات النخيل في وسط وجنوبي العراق من 48 مليون نخلة في سبعينات القرن المنصرم لنحو 8 ملايين نخلة في الوقت الحالي بتأثير الحروب أو تمدد البناء العشوائي على حساب بساتين النخيل التي لم يتم تعويض المفقود منها.

ج. الفساد وغياب الجدية وانعدام التخطيط الجيّد وقلة التخصيصات المالية من قبل الحكومات الحالية ، أفشلت غالبيّة مشاريع اقامة مصدات العواصف الرمليّة لتدارك مشكلة التصحر في العراق قبل فوات الأوان. ففي الفترة من عام  2015-2020  أنفقت منظمة الأمم المتحدة 809 آلاف دولار على إعداد برنامج  تضمن إقامة ورش عمل في عمان وإسطنبول والمنامة، وتمخض عنها مقترح لتنفيذ 16 مشروعاً بكلفة 186 مليون دولار للتقليل من شدة وتكرار العواصف الترابية في العراق. شملت على خمسة مشاريع لتثبيت الكثبان الرملية في محافظات واسط وذي قار والنجف والمثنى والديوانية وصلاح الدين بكلفة 120 مليون دولار، فضلاً عن مشروع لإنشاء واحات في البادية بكلفة 15 مليون دولار. وكان من المفترض أن تنجز جميع هذه المشاريع قبل نهاية عام 2020، إلا أن شيئاً من هذه المشاريع  لم ينفذ لغاية الآن..

د لم تلتزم الحكومات العراقية المتعاقبة بتطبيق أكثر الاتفاقات المناخية والبيئية الدولية التي وقعت عليها ، في الوقت الذي كان مفترض لهذه الحكومات متابعة ظاهرة التغير المناخي واتخاذ الخطوات السريعة للتقليل من فداحة تأثيراتها وأضرارها الحالية والمستقبلية ونتيجة لهذا الاهمال أصبحت البيئة العراقية تواجه وضعا صعبا للغاية.

ه. الخلل في الإدارة المائية والبيئية على مستوى القطر المتأتي من تسلط السياسيون الجهلة على مراكز القرار المائي قد ساهم في تراجع المساحات الزراعية في العراق.

و. الوضع الأمني المتدهور الذي يجعل من الصعب اقامة مشاريع كبيرة لمعالجة التصحر في المناطق الصحراوية البعيدة خشية الهجمات التي تقوم بها داعش والسراق المتربصون بهذه المشاريع الاقتصادية.  

الحلول المقترحة للحد من مشكلة التصحر في العراق و تخفيف ظاهرة هبوب العواصف الترابية

في بلد مثل العراق كان يسمى قديما ب"أرض السواد" بسبب كثافة الأراضي الخضراء التي كانت تغطيه، لابد من اعادة  استرجاع تلك المناطق الزراعية السابقة، اذا ما أريد التغلب على أفة التصحر التي أخذت تزحف على أراضيه الخصبة. والمطلوب الأن وضع استراتيجية وطنية لتحقيق هذا الهدف يطلق عليها تيمنا "احياء أرض السواد"  يقوم بالإشراف على تنفيذها فريق من الخبراء في الزراعة والتربة والري والأعمال الانشائية ، ويمتلك صلاحيات استثنائية ويتعاون معه كوادر هندسية وفنية متخصصة.  يأخذ هذا الفريق على عاتقه التعامل مع ظاهرة التصحر المصحوبة  بالعواصف الترابية على أنها من المهمات الوطنية بالغة الأهمية لما لها من مخاطر كبيرة تمس حياة الانسان وصحته واقتصاد البلاد. ولا يمكن أن يعول على النظام الحالي بالعراق المعروف  بالفساد والفشل في تنفيذ مشروع استراتيجي وطني بهذه الأهمية , وعليه لابد من الانتظار حتى يتم وضع هذه القمامة السياسية في مزبلة التأريخ واستبدالها بنظام وطني جديد يمتلك كفاءات علمية مقتدرة. عندها تكون الفرصة مهيأة انشاء الله للانطلاق بمشروع احياء أرض السواد من أجل لتخلص من ظاهرة التصحر، وذلك عبر الخطوات التالية.   

1.الدخول في مفاوضات جدية مع كل من ايران وتركيا للوصول الى اتفاقية ثابتة تضمن اطلاق حصص مائية مناسبة في أنهر العراق مع احتمالية اللجوء الى المنظمة الدولية أو استخدام وسائل الضغط الاقتصادي في حالة ظهور تلكؤ من الدول المجاورة للتعاون مع العراق في هذا المجال.  

2. استصلاح الاراضي المتصحرة بشكل عام لتستعيد انتاجيتها ومعالجة ملوحة التربة بإنشاء شبكات بزل وغسل التربة وتحسين اساليب وطرق عمليات الري وتوزيع المرشات وطرق الري بالتنقيط ومعالجة مشكلة التعرية الريحية بزراعة اشجار المصدات . كذلك العمل على زراعة  معظم الأراضي الصالحة للزراعة والتي تبلغ حوالي  44 مليون دونم بينما لا يستفيد العراق  حاليا الا من زراعة 13 مليون دونم فقط من تلك الأراضي.

3.  منح استصلاح الأراضي في الصحراء الغربية من العراق خصوصية مهمة لأنها تعتبر المصدر الرئيسي لهبوب العواصف الترابية على البلاد. علما أن هذه الصحراء كانت في يوم من الأيّام من المناطق الخصبة في المنطقة وذات مردود اقتصاديّ هائل، لكنّها اليوم تحوّلت في غالبيّتها إلى أرض جرداء غير مستغلة زراعيا .لذا من الضروري انشاء أحزمة خضراء في هذه المنطقة بطريقة مدروسة علميا لكي  تعمل كمصدات للرياح القادمة من الجزيرة العربية. مع اعطاء الأولوية بشكل خاص لبناء حزام أخضر من النباتات المقاومة للجفاف يمتد من نقطة التقاء الحدود العراقية مع الأردن والسعودية حتى اخر نقطة  تنتهي فيها الحدود  العراقية على شط العرب . كذلك التوجه الى إنشاء المراعي الكبيرة في البادية والاكثار منها.

4.وضع دراسة جديدة لاحتياجات العراق من مشاريع الري بعد أن عمد النظام الحالي الى التخلي عن اقامة مثل هذه المشاريع المهمة خلال 19 عاما من الحكم. مع الاهتمام بشكل خاص في اقامة الخزانات المائية الكبيرة في الوديان المتواجدة بالجزيرة لتجميع مياه الأمطار وربطها بشبكة من الأنهر الاصطناعية بالإضافة الى حفر العديد من الآبار بتقنيّات حديثة .

5.تفعيل الاتفاقية الزراعية مع السعودية التي تتضمن قيام شركات زراعية سعودية باستصلاح بعض الاراضي الصحراوية في البادية وتحويلها الى مراعي لإنتاج الألبان واللحوم.  ان هذا المشروع الاستثماري الحيوي الذي سبق وان نجح في الأردن لتوفير الاكتفاء الذاتي في  بعض المنتجات الحيوانية واستقطاب الأيادي العاملة المحلية، يواجه اليوم تحدي الفشل في العراق بسبب الذيول الايرانية التي تقف بالضد منه وتصفه بالاحتلال السعودي للأراضي العراقية وذلك لكي يبقى العراق معتمدا على استيراد المنتجات الايرانية في هذا المجال.

6.الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي نجحت في التعامل مع مشكلة التصحر ، اما عن طريق طلب الاستشارة أو منح العمل لشركاتها في استصلاح أراضي الصحراء الغربية للعراق بطريقة التمويل الذاتي. فالسعودية التي تفتقر الى وجود الأنهر أو البحيرات و 95% من اراضيها صحراء جرداء ، نجحت في تحويل 24الف كم من تلك الصحراء الى اراضي زراعية خصبة. وذلك بالاستفادة من المياه الجوفية الموجودة في عمق الصحراء واستخدام طريقة الري المحوري حتى باتت تصدر بعض المنتجات الزراعية الى الخارج. و تعتمد مصر حاليا على امكاناتها المحلية لإنشاء نهر صناعي بطول 114 كم يخترق الصحراء الغربية لإحياء أراضي زراعية جديدة تصل الى حوالي 40 % من المناطق الزراعية الموجودة في البلاد. أما الصين فقد نجحت في تحويل 25 مليون كم من الصحراء الى غابات خضراء غنية بالأشجار العالية والمحاصيل الزراعية.  

ان انشاء مثل هذه المشاريع الزراعية الطموحة لا يعمل فقط على تقليص حالة التصحر في العراق، بل يساعد أيضا على تلطيف درجة حرارة الجو واقامة مناطق سكنية جديدة واستغلالها لأغراض سياحية .كما أنها تعمل على استيعاب العدد الكبير من الخريجين العاطلين عن العمل.

الكارثة في النظام السياسي الحالي أنه بدد أكثر من ألف مليار دولار خلال 19 عاما من الفساد والسرقة دون التمكن من انجاز مشروع اعماري واحد للبلد بما في ذلك معالجة مشكلة التصحر الخطيرة ، بينما احتاجت الدولة العراقية الى مبلغا مقاربا لذلك كي تبني كامل مؤسساتها و تنجز جميع مشاريعها الإعماريه منذ فترة تأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى وحتى عام 2003.

أ.د. مؤيد المحمودي

19/4/2022

 

 

 






الاربعاء ١٨ رمضــان ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / نيســان / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة