شبكة ذي قار
عـاجـل










طرابلس وتراثها الثري التليد، من النعمة إلى النقمة

نبيل الزعبي

 

ليست هي المرة الأولى التي تتناقل فيها الأخبار عن انهيار مبنىً سكنياً في طرابلس على رؤوس ساكنيه فينتج عن ذلك سقوط قتلى وجرحى وتضعضع في أساسيات الأبنية المجاورة، وليست هي المرة الأولى التي تشغل فيها الأبنية التراثية في لبنان ، الرأي العام عندما تعلو الصرخة تلو الصرخة لإيجاد حلولٍ جذرية لوضع التراث العمراني اللبناني المتهالك الذي صار يشكّل كابوساً دائماً، متوازياً مع الاوبئة والامراض المستعصية وجلسات غسيل الكِلى التي باتت كلها مشروع موتٍ دائم يلازم حياة اللبنانيين ولا يوفر كبيرهم او صغيرهم هذه الأيام.

كان من المفترض للطفلة ابنة الخمسة سنين التي لقيت حتفها في البناء المنهار في ضهر المغر بطرابلس مساء الأحد ٢٦/٦ ، ان تكون مع والدتها ، في سوق البازركان بطرابلس لتشتري لها حاجيات عيد الأضحى الذي ينتظره كل أطفال المدينة، ليس لأنه العيد الكبير وحسب ، وإنما لأن الطفل اللبناني بات بحاجة إلى من ينتشله من البؤس والكآبة التي يعيشها ، ليفرح بثياب العيد وأرجوحة العيد وتكبيرات العيد ولو لأيام العيد المحدودة، ولأنه منذ تفتحت عينيه على الدنيا، لا يعرف أن للطفل في لبنان الحقُ في الفرح والنور والعلم والطبابة والرغيف ، فتأقلم مع العتمة والجوع وحياة الشارع والبيت المتصدّع الذي رأى فيه وطنه الصغير والملاذ الخاص به بعد ان تنكّر له الوطن وترك حاضره ومستقبله تحت سقف ٍ متهاوٍ واعمدة متهالكة ومصيرٍ محتوم.

هذا المصير، لم ينهِ حياة الطفلة الشهيدة جومانا لوحدها، وإنما يضع على قائمة الانتظار عشرات الآلاف من أطفال المدينة ونسائها وشيوخها القاطنين في مدينة تراثية كبرى اسمها طرابلس القديمة ، تضم ما لا يقل عن نصف مليون مواطن ومقيم، حددت لها وزارة الثقافة اسم ( تراثية ) فتركتها ل"عفن" السنين التي تفوح من حجارتها، والتآكل الذي يفتك فيها دون ان تقوم بكامل مسؤولياتها تجاه التراث واحترامه والتعظيم من شأنه ، اقله الترميم المطلوب وعدم التبادل في رمي المسؤوليات على البلديات، كما في رمي الاتهامات اليوم بين وزارة الثقافة وبلدية طرابلس، ومن المسؤول عن الكارثة قبل الآخر، سيّما أن الخطير في ذلك ما كشف عنه رئيس بلدية طرابلس عقب الحادثة الأخيرة حول التقرير الصادر عن وزارة الثقافة منذ عام ٢٠١٨ بعد معاينتها لأكثر من أربعمائة مبنى متصدع في طرابلس القديمة ، هي اليوم بمثابة قنابل موقوته ويحتاج ترميمها مبلغاً لا يتعدى الثلاثين مليون دولار فيما بقي التقرير في الادراج وبعد كل المراجعات المتلاحقة، اقرّ مجلس الوزراء مبلغ خمسة عشر مليار ليرة للترميم ، وهذا المبلغ الذي لا يتعدى في سعر صرف اليوم ، نصف مليون دولار لا اكثر ، لم يُصرف بدوره وبقي في الصناديق المقفلة ،

ليضيف رئيس البلدية ايضاً ان ابنيةً في منطقة البحصة القائمة على تلة جبلية مجاورة لضهر المغر مهددة بدورها جراء اي انهيار تسببه الامطار وانزلاق التربة ، والاخطر من هذا وذاك ما هو موجود لدى الجمعيات الرسمية المعنية بالآثار ، ان ستة عشر الف مبنى آيل ُ للسقوط في كل لبنان ، تحوي طرابلس لوحدها منهم اربعة آلاف مبنى متصدع فقط ،و ثمة ابنية آيلة للسقوط في المدينة حتماً ومنها ما هو بعشرة طوابق وما دون ، وفق دراسات هندسية اًُجرِيَت لها وحذرت من انهيارها في اية لحظة ، اما قاطنيها فلم يغادروها حتى اليوم ، ليس لسببٍ سوى لانهم لا يجدون ما يأويهم لو تركوها وينتظرون حتفهم لحظة بلحظة .

لذلك لا مجال للتذرِع بالمسح الفعلي للابنية المتصدعة ،وتحديد التدرج في خطورتها واولوية الترميم لها ، وكل ذلك متوفر سواء لدى مصلحة الهندسة في بلدية طرابلس ، او لدى مصلحة الهندسة الأخرى في بلدية مينائها المجاور ، والتي تعاني بدورها من وجود العديد من الابنية الآيلة للسقوط حيث ترفض مديرية الآثار هدمها وتضع شروطاً اعجازية لترميمها فكان ضحية ذلك احدى عائلات المدينة التي دُفِنت تحت منزلها المنهار في شهر كانون اول من عام ٢٠١٩ في حادثة اشبه بحادثة الامس في ضهر المغر والتي ستتكرر حتماً غداً في بناءٍ آخَر وستبقى الدماء تنزف في المدينة بانتظار من يُخرجها من كوابيس موتها المحتّم وخنوع مليارديريتها وجبنهم عن مد ايديهم إلى جيوبهم واسعافها ، وجلّ المبلغ المطلوب لذلك لا يتعدى كلفة احياء عرس الواحد من ابناء هؤلاء في الخارج ، والليالي الملاح التي تتخلله ، كما نسمع ونرى من وسائل الاعلام ، فيما دماء ابناء المدينة رخيصة إلى الدرجة التي لم تعد تعني هؤلاء ، تماماً كما هي جثث النساء والأطفال الراقدة في بحر المتوسط منذ أشهر ولم تتحرك "النخوة" لانتشالهم واحترام حزن ذويهم والتفكُر في عَظَمة الموت التي لن يجدوا فيها ، ورغم كل ما يمتلكون من ثروات ، من يترحم عليهم غداً.

 






الاثنين ٥ ذو الحجــة ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / تمــوز / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة