شبكة ذي قار
عـاجـل










 

هل يمكن للانقلاب أن يتحول إلى ثورة؟

أ.د. مؤيد المحمودي

 

 

الثورة والانقلاب كلاهما يعملان على تغيير الإطار القانوني القائم للنظام السياسي ولا سيما الدستوري منه، لكن الثورة تهدف الى التغيير الشامل والجذري للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذا النظام. وهي بذلك تختلف عن مفهوم الانقلاب، الذي يهدف فقط إلى الاستيلاء على السلطة وقلب نظام الحكم ليحل محله نظام حكم جديداً. وما يميز الثورة أنها تقترن في أحد مفاصلها بوجود استراتيجية واضحة المعالم تأخذ على عاتقها إحداث التحولات الجذرية المطلوبة في المجتمع. لذا فإنها غالبا ما تكون مدعومة بمجموعة من المفكرين والاختصاصيين من ذوي الخبرة في التخطيط أو تتبناها أحزاب عقائدية وطنية ذات رؤى مستقبلية منفتحة على احداث الاصلاح الشامل في جميع المجالات البنيوية للبلاد.

والانقلابيون عادة جماعات تحمل صفة رسمية وتعمل لدى الحكومات مثل العناصر من أفراد الجيش أو الشرطة التي تقوم باحتلال مبانٍ للدولة ورئاسة الحكومة بشكل مفاجئ وسريع لفرض واقع سياسي ودستوري جديد في البلاد. وخلال النصف الأول من القرن العشرين اشتهرت دول أمريكا اللاتينية بتعدد وسرعة حدوث الانقلابات العسكرية فيها. أما في الوطن العربي فأن أول انقلاب عسكري كان قد حصل في العراق عام 1936، عندما قام مجموعة من الضباط بزعامة بكر صدقي في إرغام الملك غازي على الاستجابة لمطالبهم بأبدال حكومة ياسين الهاشمي بوزارة جديدة يرأسها حكمت سليمان. وتوالت الانقلابات بعدها في العراق، ففي العام 1941 حصل انقلاب رشيد عالي الكيلاني بصحبة أربعة ضباط كبارهم صلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب. وكان الوصي عبد الله هو الحاكم الفعلي للبلاد أنداك بسبب صغر سن الملك فيصل الثاني، وعلى أثرها هرب الوصي الى خارج البلاد ثم عاد لاحقا ليعمل على افشال هذا الانقلاب. ثم شهد العراق تغييرا من النظام الملكي الى النظام الجمهوري في انقلاب 14 تموز عام 1958 بقيادة عدد من الضباط على رأسهم عبد الكريم قاسم. والذي استمر حكمه حتى 17 تموز من عام 1968 عنما أطيح به في انقلاب عسكري اخر. ويعتبر ما حدث في 2003 من غزو عسكري أمريكي للعراق هو بمثابة انقلاب خارجي غير مبرر على النظام الشرعي الوطني الذي كان قائما أنداك.

 

وشهدت سوريا ثمانية انقلابات عسكرية بدأت عام 1949 وانتهت بتسلط حكم عائلة الأسد على البلاد عام 1970. كما حصل في السودان حتى الآن 7 انقلابات منذ العام 1957 وحتى عام 2019 والتي انتهت بالانقلاب الأخير تحت قيادة عبد الفتاح البرهان ضد عبد الله حمدوك رئيس مجلس السيادة في السودان. ومن أشهر الانقلابات في البلدان العربية ما حصل في مصر عام 1952 عندما أقدم مجموعة من أفراد الجيش (الضباط الأحرار) على الإطاحة بالنظام الملكي وتحويله لاحقا الى نظام جمهوري عقب استلامهم للحكم تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر. وفي ليبيا قاد معمر القذافي حركة انقلاب على النظام الملكي عام 1969 فحول البلاد الى النظام الجمهوري.

والثورة على العكس من الانقلاب ليس من الضروري أن تكون عملية التغيير فيها معتمدة على توفر القوة العسكرية. فالعديد من الثورات توصف بالبيضاء لأنها تحصل نتيجة لانتفاضة شعبية مدنية خالية من العنف ولا يصاحبها مشاركة القوات المسلحة فيها. لكن ذلك لا يمنع من دعم القوات العسكرية لها ومناصرتها في أحد مراحل الثورة اللاحقة كما حصل من تعاطف للجيش المصري بقيادة السيسي للثورة الشعبية البيضاء التي نجحت في اجتياح مصر عام 2013. كما شهدت تونس هي الأخرى ثورة بيضاء خلال نفس الفترة التي عرفت بالربيع العربي.

يتفق الكثيرون على أن أهم معيار لنجاح مسيرة الثورة هو قدرتها على انجاز مشروع تنمية حقيقي ومثمر يشمل جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. ويعمل هذا المشروع على استغلال الثروات الوطنية والطاقات البشرية المتوفرة وفق خطة بعيدة المدى ذات افق زمني محدد ومدروسة بشكل حيد. وفي حالة نجاح هذه الخطة فإنها ستؤدي الى إنعاش النمو الاقتصادي في البلاد والذي ينعكس ايجابا على مستوى دخل الفرد فيها. أما المعايير الأخرى المهمة لنجاح الثورة فهي تتمثل في اقامة نظام سياسي مدني يقوم على الديموقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وصياغة دستور يصون احترام حقوق حرية الافراد والاقرار بالمساواة التامة ويكرس مفهوم المواطنة على حساب كل الولاءات الاخرى ،مثل القبلية والطائفية والدينية والقومية ويرفض الولاء لأية جهة أجنبية ويحصر جميع موارد البلاد بيد الدولة ويحارب الفساد وينشئ قضاء مستقل يضمن خضوع الجميع لحكم القانون والمحافظة على الوحدة الترابية للوطن واجهاض جميع الأفكار أو الخطوات التي تشجع على التقسيم أو الانفصال.

ان معظم الانقلابات في الوطن العربي غالبا ما تنتهي بالفشل في تحقيق أي تغيير ايجابي ملموس بالمجتمع، بل تصبح بمرور الزمن مصدرا رئيسيا لإقامة الدكتاتوريات واثارة الانقسامات الداخلية وخلق الأزمات الخانقة. وبدلا من تخليص الوطن من نظام فاسد سابق تتحول حكوماتها الى عبئا ثقيلا عليه لانغماسها في نفس الدوامة من الفساد. والسبب في هذا الفشل يعود بالدرجة الأولى الى عجز تلك الحركات الانقلابية من الارتقاء لتحقيق معايير الثورة.  ويستثنى من ذلك الحالات القليلة في الوطن العربي التي شهدت هذا النوع من التحول الى حالة الثورة الناجحة كما حصل في انقلاب مصر عام 1952 الذي نتجت عنه ثورة يوليو التي قامت بتأميم قناة السويس وبناء السد العالي ونهضت بالزراعة والنواحي الاقتصادية الاخرى. وفي العراق أيضا قاد حزب البعث العربي الاشتراكي حركة التحول من انقلاب 17 تموز الى ثورة 30 تموز من نفس العام 1968. وهذه الثورة حققت نهضة عظيمة للعراق لم يشهد مثيلها الوطن العربي تمثلت في تأميم النفط العراقي واقامة سدود الري الكبيرة والقضاء على الأمية وتوفير التعليم المجاني من المرحلة الابتدائية وحتى الدراسة الجامعية وتأمين نظام صحي مرموق شبه مجاني واقامة العديد من الطرق والجسور والموانئ المهمة وحققت ازدهار كبير في القطاعين الزراعي والصناعي وتم منح الحكم الذاتي للأكراد في أول ممارسة من نوعها لأقلية قومية في البلاد. وقد تحققت جميع هذه الانجازات العظيمة على الرغم من التحديات الخارجية التي واجهتها تلك الثورة بدءا بالحرب الايرانية على العراق التي دامت 8 سنوات ثم الحصار الجائر الذي فرضته أميركا وحليفاتها من الدول على العراق. وكانت نتائج الغزو الأمريكي البربري عام 2003 وخيمة على منجزات النهضة التي حققتها ثورة 30 تموز وبسببه أصبح العراق بعد19 سنة يعاني من أزمات حادة لم تكن موجودة سابقا كالنقص في الطاقة الكهربائية وشحة المياه وانهيار القطاعين الزراعي والصناعي وتراجع الوضع الصحي ورجوع الأمية وظهور حالة من الانفلات الأمني وفقدان الأمان وانتشار المخدرات وفساد مؤسسات الدولة بما فيها القضاء واختلاس الأموال العامة فلم يتبقى منها شيئا تصرفه على حالة التنمية في البلاد. اذ حتى المشاريع الحيوية التي انطلقت في زمن الحكم الوطني قبل عام 2003 مثل سد مكحول في كركوك وسد بادوش في الموصل والذي تحقق 30 الى 40 % من انجازها في ذلك الوقت، لم تجد دعما كافيا من حكومات ما بعد الغزو لتكملة انجازها بحجة عدم توفر التخصيصات المالية الكافية لها.

 ومن هنا يمكن الاستنتاج، إذا دعت الضرورة للجوء الى الانقلاب العسكري لإزاحة نظام سياسي فاسد كان متعنتا وغير مستعد للإقرار بأحقية الشعب في تغيير نظام الحكم لصالحه بالطرق السلمية، فان هذا الانقلاب يمكن أن يتحول لاحقا الى ثورة إذا ما حقق المعايير المطلوبة لذلك التحول. 

 

 

 

 

 






الثلاثاء ١٨ محرم ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / أب / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة