شبكة ذي قار
عـاجـل










في ضوء أحداث الثلاثين من آب 2022

القضية العراقية الراهنة وموقعها المرحلي والاستراتيجي

حسن خليل غريب

 

تمهيد

بين المرحلي والاستراتيجي علاقة لا يجوز إغفالها، وذلك لأنه ما من ثوابت استراتيجية تم تنفيذها دفعة واحدة، فالتغيير من حال إلى حال يتم على مراحل من جهة، ولكل مرحلة شروطها وظروف حصولها التي لا يمكن القفز عليها من جهة أخرى.

وإذا كانت شروط التغيير نحو الأعلى تقتضي وجود من يفقه التغيير ويشكل حصانة له ضد الانحراف، قد تتوالد مراحل معينة تقودها نخبة لا تمتلك رؤية استراتيجة، بل قد تُسهم في إنجاح مرحلة بشكل جزئي، وتلك فرصة لايجوز إهدارها على قاعدة (ما لا يمكن الحصول عليه كله دفعة واحدة، فاعمل لتحصل على جُلِّه).

 

ولأن لكل مرحلة مهما بلغت من الرسوخ والثبات والقوة لها تناقضاتها بين القوى المشاركة فيها، والتي تعجز قوى التغيير الاستراتيجي عن التصدي لها بقوتها وحدها، يمكن لقوى التغيير هذه أن تستفيد من تناقضات القوى التي تعيق التغيير وتتصدى له.

 

القضية العراقية بعد الاحتلال، وتفكك القوى التي شاركت فيه:

رباعية هي القوى التي شاركت باحتلال العراق: أميركا، تحالف القوى الدولية، بعض الدول في النظام العربي الرسمي، نظام ولاية الفقيه في إيران. وقد شارك كل منها بحواضن عراقية من الطائفيين والخونة واللصوص، وافقوا على الانخراط بـ(العملية السياسية) في العراق، بحيث شكلت غطاء لكل أنواع الاحتلال. وكانت تنفذ إملاءات دولية أو إقليمية أو عربية، وتقتطع حصتها من سرقة ثروات العراق. وقد أُتخم الجميع، ولحق بالعراقيين الجوع والقتل، وتفريخ الميليشيات التي حلَّت فيما بعد محلَّ الدولة العراقية الجديدة، وتحوَّلت معها إلى دولة الميليشيات الطائفية، وبها فقدت دولة العراق كل معالم وحدتها وسيادتها وبناها التحتية.

 

بعد مرور سبعة عشر سنة من الاحتلال الأميركي، وأحد عشر سنة من الاحتلال الفارسي بشكل مباشر. وقبل انطلاقة ثورة الشباب في بغداد وجنوب العراق، أحتل العراق المركز الأكثر تخلفاً بين دول العالم. إذ كشفت تلك الثورة أمام أنظار العراقيين كل أسباب التخلف، وظهر ما كان مخفياً على العراقيين من الجرائم الاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية، إذ عرَّتها من ألوان التجميل ومساحيق الزينة التي أخفت صورة الجرائم المخيفة، وخاصة الطائفية و زيف القشور الديموقراطية والعدالة الاجتماعية .

 

ولكن الوجوه البشعة التي أصبح عليها العراق ترافقت مع صور مشرقة رسمتها المقاومة الوطنية العراقية المسلحة بحيث استطاعت إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي. كان تحالف القوى الدولية قد سبق قوات الاحتلال الأميركي بالهروب من العراق خلاصاً من نار جهنم، التي عبَّر عنها توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، قائلاً: (إن نار جهنم فُتحت علينا في العراق). ولم تستمر قوات الاحتلال الأميركي طويلاً، فهربت بدورها في أواخر العام 2011. والذي أخَّرها تلك الفترة على الرغم من أنها كانت تدفع الثمن الفادح من المال والارواح، كان تفتيشها عن وسيلة لتسليم العراق إلى يد أمينة تثق بها أميركا، فكان نظام ولاية الفقيه في إيران هو تلك اليد.

 

وإن كانت بفترات متفاوتة بالسنين، يصحُّ القول أن استلام النظام الإيراني مسؤولية إدارة العملية السياسية في العراق، كان متغيراً أساسياً في توالد التناقضات بين فرقاء التحالف الرباعي المذكور أعلاه. وقد عبَّرت عنها الوقائع التالية:

المشروع الاستراتيجي الإيراني سبَّب تناقضات حادة بين حلفاء الأمس:

لأن للنظام الإيراني مشروعاً استراتيجياً في تأسيس (حكومة عالمية إسلامية) متخلفة عن عصرها ألفاً وأربعمائة سنة، وصلت درجة غيبيتها وتخلفها إلى أن القائمين بها زعموا أنهم مأمورون إلهياً بتأسيسها. فوجدوا في الهزيمة الأميركية فرصة ثمينة للبدء في تنفيذ مشروعهم الغيبي، واستغلوا ثروات العراق لتمويل مشروعهم في سورية ولبنان واليمن وفلسطين. وتوظيف الساحة العراقية منصة إعلامية وجغرافية وأيديولوجية واقتصادية لتهديد أمن الوطن العربي بشكل عام وشامل، وأمن دول الخليج العربي بشكل خاص.

وباختصار شديد، كشف تنفيذهم للمشروع حقيقة خطورته على الامن العالمي أولاً، وعلى الطرف العربي الرسمي ثانياً. وهذا السبب أدى إلى خلق تناقضات رئيسية مع المشروع الغيبي الإيراني.

 

تداخل التناقضات وتعقيدها مكسب غير منظور للمقاومة العراقية وحركة التحرر العربية:

وإذا كان الاتفاق جاء استكمالاً للعلاقات الإيجابية بين إيران وأميركا بحيث يُسجَّل العام 2015، العام الذي وقَّعت فيه (أميركا أوباما) الاتفاق النووي الإيراني، إلا انه كان في نفس الوقت بداية تاريخية لولادة تناقضات اخرى. وأما السبب فيعود إلى أن بروز التناقضات بين دول الخليج العربي والنظام الإيراني بسبب المخاطر التي أخذت تهدد أمنها، وبعد أن كانا متوافقين على احتلال العراق، قبل ذلك التاريخ، فقد ولَّدت تناقضاً بين تلك الدول وأميركا.

لقد أساء توقيع الاتفاق إلى العلاقات الخليجية – الأميركية، بحيث أعلنت دول الخليج العربي منذ توقيع الاتفاق، رفضها لذلك التوقيع لما يشكل من خطورة كبيرة على أمنهم القومي. وهذا السبب دفع بـ(أميركا ترامب)، للتراجع عن الاتفاق لأنه كان سبباً في زعزعة علاقات الصداقة التاريخية بينهما. وخشية من ذلك، ابتدأت بعض التناقضات الأميركية – الإيرانية تظهر للعلن خاصة في تلك المرحلة بالذات.  وكان السبب الذي أجَّج الحرارة فيها كان إصرار المملكة العربية السعودية على الحصول على ضمانات تحمي أمن دول الخليج العربي. ويأتي في الصدارة منها تقليص النفوذ الإيراني في العراق أولاً، وقطع الإمدادات عن ميليشيات النظام الإيراني في الوطن العربي ثانياً.

 

وفي الوقت الذي ندين قوى التحالف الأربعة بسبب ما فعلته من جريمة الاحتلال وما كشفه من قصور استراتيجياتها عن الحصول على نتائج استراتيجية طويلة الأمد، وذلك بفعل المقاومة العراقية البطلة ووعي الشعب العراقي وشبابه الثائر، لكن لا بُدَّ من وضع تلك التناقضات التي طفت على السطح في خلال السنوات القصيرة الماضية، في مكانها المرحلي الذي لا يخلو من إيجابية. وهذا، وعلى قاعدة تفسخ استراتيجية القوى المتحالفة على احتلال العراق، نعتبر أن مجرد حصول التناقض فيما بينها يصب في مصلحة القضية العراقية خاصة والقضية العربية عامة.

 

التناقضات الإيرانية مع الأميركيين والعرب تنعكس تناقضات بين قوى العملية السياسية من العراقيين:

من جمع قوى (العملية السياسية) قبل الاحتلال وبعده، كان إجماع القوى المشاركة فيه. وأي متغير في قواعد التحالف فيما بينها سينعكس سلباً أو إيجاباً على قوى تلك العملية. لهذا أخذت التناقضات الجديدة، في مرحلة (أمريكا ترامب ) تنعكس سلباً على القوى العراقية، فأخذت التناقضات فيما بينها تتصاعد أيضاً، وتتعمَّق مرحلة بعد مرحلة، إلى أن بلغت مستوى الصدام المسلح في الثلاثين من آب الماضي، ولكنه ومهما بلغت حدته، وأياً كان البادئ فيها، فقد كانت مرحلة تؤسس لتعميق التناقضات لاحقاً. هذا استنتاجاً إلى أن خطورة الوضع بعد إسقاط المليشيات الطائفية الإيرانية في الانتخابات التي جرت قبل ثمانية أشهر مضت من جهة، وزخم ثورة الشباب في تشرين الأول من العام 2019 الرافض للوجود الإيراني والنظام الطائفي السياسي من جهة أخرى، كانت مؤشرات تشكل خطورة على الوجود الإيراني في العراق، لأنه كلما تصاعدت ستعني أن المشروع السياسي الإيراني الغيبي أصبح على طريق الزوال.  ولهذا، وعلى منهج ديكتاتورية الولي الفقيه في القمع الدموي لحراكات الشعب الإيراني، كان من المنطقي أن يلجأ النظام الإيراني إلى مواجهة ما يجري في العراق بأساليب دموية.

 

إن مقياس تقييمنا لاختبار ثبات هذا المتغير هو المزاج الشعبي العراقي، خاصة في محافظات الجنوب، التي كان يعتبرها الوجود الايراني الحاضنة الشعبية الأهم له في العراق. ولأن هذا المتغير ابتدأ يطل برأسه منذ ثلاث سنوات على وقع شعارات الثورة وهتافاتها، وتأتي أهميتها من أنها كانت صادمة لكل أطراف (العملية السياسية) بمن فيهم التيار الصدري الواقف في المواجهة الآن. وإن تلك الثورة الشبابية نالت التنكيل والقمع من قبل الجميع فعملوا على قمعها ووأدها.

وإضافة إلى كل ذلك، انعكست التناقضات بين أطراف العملية السياسية من العراقيين تناقضات في مواقفهم من النظام الوطني السابق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي بعض تلك المواقف التي أعلنتها شخصيات سياسية ودينية من داخل العملية السياسية، تضمَّنت تمجيداً بإنجازات الدولة في العهد الوطني. وأما في مواقف البعض الآخر، خاصة منها تلك التي صدرت عن عملاء إيران من اللصوص الكبار، والتي فيها دأبوا على التخويف من عودة العراق إلى ما يسمونه ديكتاتورية صدام حسين. وتلك التناقضات أسَّست إلى تعاطف شريحة واسعة من الشعب العراقي مع العهد الوطني قبل الاحتلال، وأعلنوا رفضهم لـ(العملية السياسية)، وتأييدهم لعودته إلى حكم العراق. وهذا ما أسس لاندلاع ثورة تشرين، التي لم تمر أحداثها على ضعف إمكانياتها، من دون ارتدادات واسعة لا تزال أصداؤها تنتشر باستمرار وتؤسس لإحداث تناقضات أخرى بين أطراف العملية السياسية.

 

استنتاجاً، كانت ثورة تشرين ذات أبعاد استراتيجية، وتحولت بعض أهدافها إلى أهداف مرحلية لـ(التيار الصدري) الذي هو جزء من قوى العملية السياسية لأنه يعمل لاستقطاب التأييد الشعبي لمصالحه الخاصة، وينتفع من حالة الرفض الشعبي في الاستفراد بالحكم. وهذا ما ظهر عملياً في نتائج الانتخابات التي جرت قبل ثمانية أشهر. وإن كانت الأطراف الصدرية، التي تقودها مجموعة من السياسيين والتجار ورجال الدين، الذين يزعمون: رفضهم سرقة (المرجعية الشيعية) من قبل الفرس، وعملهم على إعادة (تعريبها).

 

وإن كانت تلك الحركة الشبابية في تشرين قد أعلنت أهدافها في قطع العلاقات مع الخارج الفارسي، ستبقى محافظة على صفائها الاستراتيجي بفعل الوعي الشبابي الثوري وبقاء ذلك الوعي مستمراً ببنيته الثورية، فانه سوف يشكِّل البوصلة التي تصوِّب مسارات التحولات المرحلية وتحول دون حرفها عن مساراتها الاستراتيجية. ولا يعيبها أن بعض أطراف العملية السياسية قد اجتزأ منها ما يصب في مصلحتها، بل على ثورة الشباب الاستفادة منها حيثما اقتضت المصالح الشعبية الاستراتيجية.

 

القضية العراقية في مرحلتها الراهنة بين التكتيك والاستراتيجية:

لقد بدأ التناقض بين أطراف (العملية السياسية) منذ إيصال مصطفى الكاظمي إلى رئاسة حكومة المنطقة الخضراء. فبعد أن كانت تلك العملية بحالة استسلام كلي للقرار الإيراني، تحول اللون الإيراني الواحد إلى لون رمادي، بحيث أخذت العملية السياسية تسبح منذ تلك الفترة بين الفضاء الإيراني تارة، وفي الفضاء الأميركي والعربي الرسمي تارة أخرى.

 

وعالمياً فإن وصول النخب الديموقراطية الأميركية، ومعها القوى الديموقراطية العالمية، إلى اعتبار احتلال العراق (قضية معيبة)، كما ورد في (تقرير تشيلوك)، تشكل بداية إدانة سياسة التوسع الامبريالي وحلفائه من الدول الإقليمية، وهذا ما تتم ترجمته بحصول التناقضات داخل صفوف القوى التي تحالفت لاحتلال العراق. اما وطنياً فإن الشعب العراقي رفض الاحتلال وعمليته السياسية وهذا ما تتم ترجمته بالحراكات التي حصلت، ولا تزال تحصل، على أرض الواقع في العراق، ابتداء من الثورة الشعبية التي حصلت في مناطق وسط وغرب العراق في العام 2014، مروراً بثورة الشباب في تشرين العام 2019، وصولاً إلى أحداث أواخر شهر آب من العام 2022.

ولأن التحالفات الشاذة التي سبقت احتلال العراق، واستمرت بعده إلى المرحلة الراهنة، انكشفت جرائمها أمام الرأي العام العالمي والعربي والعراقي، فإنها لن تتراجع إلى الوراء لأنه أصبح من المستحيل إعادة رأب الصدوع التي حصلت بين أطراف التحالف الدولي – الإقليمي – العربي.

 

ولأن التحالفات الشاذة بين أطراف العملية السياسية، شوَّهت إنجازات العهد الوطني السابق منذ ما قبل الاحتلال وما بعده. ولكن مواقفها، في هذه المرحلة، أخذت تفترق بالتقييم، فإنها لن تتراجع بل سوف تتعمَّق بمرور الأيام، ولن يستطيعوا رأب الصدع بينهم لأن عامل الثقة فيما بين أطرافها قد انكسر، وكل منهم دخل نفق الدفاع عن نفسه.

وإنه استناداً إلى هذه الاستنتاجات، نرجِّح أن الصراع بين أصحاب الأهداف والمصالح المشبوهة القصيرة النفس وأصحاب الأهداف الثورية الاستراتيجية الطويلة الأمد، سوف تستمر ببطء أحياناً، وأحياناً بسرعة ملحوظة، وسوف تولد على طريقها تناقضات أخرى قد تأتي كل منها بمتغيرات جديدة تصب في مصلحة قوى الثورة العربية، وكذلك في مصلحة قوى المقاومة العراقية.

 

وأخيراً، ولكثرة الرافضين للعملية السياسية والذين يشكلون اليوم غالبية الشعب العراقي، من الذين لا يرون حلاً من غير إسقاطها، نرى أنه مهما بلغت خصوصيات مواقف كل منهم، وهي خصوصيات مرحلية إذا ما قِيست بمصلحة العراق الاستراتيجية في إسقاط عملية السطو السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسيادي، عليهم أن يضيِّقوا مساحة التناقضات الثانوية بينهم والانخراط في ورشة عمل جبهوي استراتيجي يحافظون بواسطتها على رأس العراق من القطع، ومن بعدها يمكنهم أن يتباروا ويتنافسوا على أفضل طريقة لتزيينه.






الاحد ٨ صفر ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة