شبكة ذي قار
عـاجـل










انسحابات الصدر الكارثية والدوافع الحقيقية من ورائها

أ.د. مؤيد المحمودي

 

بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وضعت إيران نصب عينيها هدفا استراتيجيا بعيد المدى تصبح من خلاله القوة الرئيسية التي تتحكم في الشأن العراقي. لكن هذا الهدف كان يصطدم بمعوقين رئيسيين هو قوة النفوذ الأمريكي المتعاظم بسبب تزعمها للهجمة العسكرية التي اجتاحت العراق وكذلك قوة المقاومة الوطنية العراقية التي برزت ضد هذا الاحتلال العسكري كتعبير حقيقي للانتماء الوطني الى تربة بلاد الرافدين. لذلك عمدت إيران منذ البداية الى تشكيل قوة ميليشياوية مضادة تابعة لمقتدى الصدر سميت بجيش المهدي، عملت غلى مدها بالمال والسلاح ودربتها على أيدي حزب الله اللبناني. وكان دور هذه المليشيات ظاهريا تقديم الحماية الأمنية للمراقد الدينية الشيعية، لكنها في الواقع أنشئت لمناهضة الوجود الأمريكي ومحاربة النزعة الوطنية العروبية في العراق. ورغم أن هذا الجيش الميليشياوي قد مني بخسارة عسكرية ثقيلة في أول مواجهة له مع الجيش الامريكي حصلت في النجف خلال فترة حكومة أياد علاوي. إلا أن الصدر خرج من هذه المواجهة الخاسرة بمكسب مهم نتيجة للوساطة التي قام بها الجلبي والتي نتج عنها تأكيد وجود مقتدى الشخصي على الساحة السياسية العراقية. أما جيش المهدي فقد أوكل إليه لاحقاً دوراً قذراً في الحرب الطائفية التي أشعلتها إيران عام 2006 أثر تفجير المراقد الدينية في سامراء. كما تعاون هذا الجيش مع قوات بدر في عملية التهجير الديموغرافي للسكان المحليين الذين يعيشون في أحواض ديالى وبغداد وبابل.  وكان جيش المهدي هو النواة لتفرع عدة مليشيات ولائية منه أمثال عصائب أهل الحق والنجباء وسيد الشهداء وغيرها بعد أن وجدت إيران صعوبة الاعتماد على ولاء الصدر لوحده بسبب تذبذب مواقفه السياسية وحاجتها الى مليشيات أخرى أكثر استعدادا للعمالة لها. كذلك ساهمت إيران بالتعاون مع المخابرات السورية والأمريكية في إطلاق حركة داعش الارهابية الى الوجود. ومعظم هذه المليشيات تحمل طابع عسكري فقط وتفتقر الى القاعدة الشعبية.، ما عدى التيار الصدري الذي نجح في ايجاد قاعدة سياسية له سميت لاحقا سائرون بعد أن أبقى على ميلشياته العسكرية تحت اسم جديد سماه سرايا السلام.

ولتأمين السيادة على العراق، وضعت إيران مخططا خبيثا أمنت بموجبه دور القيادة السياسية بيد طبقة جاهلة وضعيفة من حثالة المجتمع ممثلة بالكتل الحزبية الولائية وشجعت المليشيات التابعة لها للقيام بزعزعة الوجود الأمريكي في العراق. ثم قامت بتفكيك المجتمع العراقي من خلال اضعاف منظومة القيم فيه وتقويض الامن الداخلي ونشر الفساد والمخدرات وتشجيع الانقسامات القومية والمذهبية. بالإضافة الى قيامها بشل النشاط الاقتصادي وسرقة أموال البلد وتحويل الجزء الأكبر منها الى إيران. وكان للصدر مهمة خاصة في هذا المخطط الايراني تتمثل في لعب دور الشخصية المزدوجة، التي تارة ما تكون من أزلام العملية السياسية المتنفذين عندما يتعلق الأمر بتعيين حكومة فاسدة جديدة وتوزيع مغانمها من الوزارات والدرجات الخاصة. ثم ينقلب بعدها الصدر على تلك الحكومة التي ساهم في تعيينها ويقوم بسحب وزرائه المنضمين اليها بعد اتهامها بالفساد ويصبح من أشد المنتقدين لها عندما يدرك أن تلك الوزارة قد انتهت صلاحياتها وأوشكت على السقوط. لقد كرر الصدر هذا الدور الميكافيلي في فترات كل من حكومات المالكي والعبادي وعادل عبد المهدي. وكذلك اعتمد الصدر نفس هذه   الازدواجية في المواقف لامتصاص غضب الشارع العراقي على السلطة الحاكمة. فكان يستغل شعار محاربة الفساد لتصدر الحراك الشعبي ضد الحكومة ومن ثم يلجأ الى الانسحاب تاركا وراؤه رجال الحراك العزل عرضة للبطش من قبل جلاوزة النظام. لقد مارس الصدر هذه اللعبة البهلوانية المزدوجة لحد الان 8 مرات في الأعوام 2007 ،2013، 2014، 2016 ،2019، 2020، 2021، 2022. ولكن من أخطر الانسحابات التي قام بها الصدر تلك التي حصلت في الأعوام 2016، 2020، 2022. ففي العام 2016 كاد المتظاهرون يسقطون حكومة العبادي بعد أن اقتحموا المنطقة الخضراء واحتلوا البرلمان لولا تدخل الصدر في ذلك الحراك واصراره على إقامة خيمة في المنطقة الخضراء مع المعتصمين. بعدها أمر المتظاهرين بالانسحاب واعدا اياهم بتلبية جميع مطالبهم. ولكن تبين فيما بعد ان هذا الانسحاب مجرد خدعة هدفها ابتزاز العبادي لتحقيق مكاسب خاصة لتياره تمثلت في الحصول على ثلاث وزارات خدمية من حكومته، والذي تزامن مع تجاهل تام لمطالب المتظاهرين.

وفي العام 2020 أكمل حراك تشرين أكثر من سنة على بداية نشاطه محققا مكاسب جماهيرية كبيرة أغاضت الصدر لكونه لم يكن جزءا من ذلك الحراك. فزج بجماعته بين تجمعات المعتصمين في الحراك تحت دعوى تقديم الحماية لهم لكنه في الواقع عمد الى تضييق الخناق على نشاط المعتصمين بما في ذلك القيام بحرق خيمهم في ساحة التحرير وقتل عدد منهم في مناطق أخرى. كما حاول تشويه صورة الحراك التشريني مدعيا ولاؤه لأمريكا وانحرافه غن النهج السلمي لأنه رفع شعار "الصدر عدو الله" إثر تعريته واظهاره على حقيقته كشخص مخادع وقاتل وأهوج. وعندما وجد نفسه عاجزا لوحده في كبح جماح الحراك التشريني لجأ الصدر الى محاولة احياء البيت الشيعي الذي فقد شرعية وجوده مع وفاة مؤسسه الجلبي. وذلك من خلال النداء التالي الذي وجهه الى أركان البيت "في خضم التعدي الواضح ضد الله ورسوله من قبل ثلة من الصبيان لاوعي لهم ولا ورع تحاول من خلاله تشويه سمعة الثوار والاصلاح والدين والمذهب مدعومة من قوى الشر الخارجية ومن بعض الشخصيات في الداخل، أجد من المصلحة العامة الاسراع بترميم البيت الشيعي من خلال اجتماعات مكثفة لكتابة ميثاق شرف عقائدي واخر سياسي نرفع فيه راية لا إله إلا الله محمد رسول الله على ولي الله بمنهج إصلاحي وحدوي نزيه بلا فاسدين ولا تبعيين". وعندما وجد الصدر أن جميع محاولاته البائسة في اخماد ثورة تشرين قد فشلت لجأ الى الانسحاب من ساحات الحراك الشعبي لكنه في نفس الوقت قام بتحريض القوى الأمنية التابعة للكاظمي لكي تقوم بالانقضاض غلى ما تبقى من خيم المتظاهرين منهيا بذلك أطول حراك سلمي عرفه العراق ضد السلطة القائمة.

ان رفاق الأمس من البيت الشيعي الذين استنجد بهم الصدر لمواجهة ثوار تشرين.، صاروا اليوم من الأعداء الفاسدين الذين يرفض الجلوس معهم على طاولة واحدة أو الدخول معهم في حكومة محاصصة كما جرت العادة في السنوات السابقة. بل وجه الصدر أنصاره مؤخرا لاختراق المنطقة الخضراء والاعتصام أمام مبنى البرلمان لمنع هؤلاء الخصوم من تشكيل حكومة محاصصة طائفية. حتى وصلت الامور بين الأطراف المتصارعة الى مرحلة الصدام المسلح الذي شارك فيه بعض المنتسبين من الحشد الشعبي المتواجدين في الخضراء من جهة وأفراد من سرايا السلام من جهة أخرى والتي راح ضحيته حوالي 26 شخصا معظمهم من المتظاهرين الأبرياء. وكانت شرارة هذا الصدام قد بدأت بعد قرار الصدر الانسحاب التام من العملية السياسية كاستجابة فقهية لخطوة الاعتزال التي قام بها مرجعه الايراني كاظم الحائري. وإثر هذه الصدامات أقدم الصدر على القاء خطاب قصير متشنج طلب فيه من جميع المتظاهرين الانسحاب من المنطقة الخضراء بعد أن زعزعوا شرعية النظام السياسي وشلوا نشاطه بالكامل. وقد ساوى الصدر في هذا الخطاب بين الضحية والجلاد عندما اعتبر أن القاتل والمقتول في تلك المواجهة المسلحة يذهبون الى النار. بل انه امتدح سلوكية أفراد الحشد الشعبي القتلة واعتبرهم حمامات سلام لا يمكن لها أن تعتدي على المتظاهرين وكأن الضحايا قد سقطوا بمحض ارادتهم. 

البعض يفسر هذه المواجهة المسلحة في المنطقة الخضراء على أنها البداية لصراع شيعي- شيعي وان الأمور وصلت حد اللاعودة بين الصدر وخصومه من الاخوة الأعداء المنضمين تحت مظلة الإطار التنسيقي. الا أن هناك مؤشرات أخرى توحي الى أن هذا الصراع ربما يكون مجرد حرب استنزاف بين فصائل المليشيات المسلحة تكمن ورائها قوى خارجية لها مصلحة في اشعال هذا النوع من الصراعات. فالتقرير الأخير لمسؤول الحرس الثوري قاني الذي رفعه الى خامنئي وصف بأنه سلبيا ويتحدث عن تنمر المليشيات المسلحة وجشعها واهتمامها بمليء جيوبها من سرقات العراق أكثر من اهتمامها بالمصالح الايرانية. وبالتالي فان هذه المليشيات أصبحت عبئا على إيران وربما من الأفضل التخلي عن قسما منها كقربانا للتقرب الى أمريكا ومحاولة تشجيعها على تقديم بعض التنازلات في أي اتفاق نووي تعقده إيران معها. وهذا التفسير يتماشى مع تقرير موقع اكسوس الامريكي القريب من مصادر المعلومات في المخابرات الامريكية والذي توقع قبل فترة قصيرة بقرب حصول حرب شوارع بين المليشيات في بغداد. يضاف الى ذلك التحذير الذي أطلقه حزب الله اللبناني المقرب من إيران إلى أعضائه قبل أيام يحرم عليهم فيه زيارة العراق لتوقعه حصول صدامات داخلية فيه. ان مثل هذه الصراعات بين المليشيات الولائية لا تمانع فيها إيران كما صرح بذلك أحد المنشقين من حركة بدر المدعو عبد الرزاق الحيالي، وذلك من أجل أن يبقى مفتاح السيطرة على هذه المليشيات دائما بيد حكومة الملالي.

وقد يكون للصدر دور مهم في الخطة الايرانية الجديدة التي تستهدف تهميش نشاط المليشيات، يبرره ما قام به مؤخرا من خطوة جريئة للمطالبة باستبدال بعض القيادات في الحشد الشعبي وعلى رأسهم فالح الفياض وتحجيم نشاط الحشد الميليشياوي بشكل عام أو اخراجه من المنطقة الخضراء على أقل تقدير. وهذا التوجه الجديد للصدر لا يعني بالضرورة أنه أصبح وطنيا بين ليلة وضحاها ومستعد للوقوف ضد النفوذ الايراني في العراق كما يدعي مناصروه. فقد سعى أنصاره من الصدريين بين فترة وأخرى الى إطلاق إشاعات عن غضب إيران على الصدر وتصريحاته بشأن الميليشيات، الا أن أوامره بإفشال الحراك التشريني كشفت أن تلك الإشاعات كان الهدف منها خداع العراقيين والتغطية على علاقته الوثيقة بطهران. فمقتدى يعرف جيدا أن وقوفه بشكل حقيقي ضد إيران يعني اختيار نهاية له مشابهة لوالده الذي اغتالته المخابرات الايرانية ولم يكن لها في ذلك الوقت نفوذ يذكر في العراق.  أما الأن فان مقدرتها على القيام بمثل هذه المهمات القذرة أصبحت كبيرة جدا بعد تحكمها في كل مفاصل الدولة العراقية. وفي هذا الصدد لم تتردد الأيادي الايرانية من تصفية بعض رؤساء العشائر في الجنوب لمجرد أنهم أبدوا تحفظات بسيطة على الوجود الايراني في العراق. بل أنها طالت بعض المعارضين الايرانيين في أوروبا وأميركا وكادت أن تغتال مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، فلا يعقل أنها لا تستطيع الوصول الى مقتدى لو شعرت أنه بدأ يلعب بذيله ويتمرد فعلا على العلاقة المتينة التي تربطهما معا.  خاصة وان هذه العلاقة ليست وليدة الساعة بل بدأت منذ سنة 2003. وقد تخللها مكوث مقتدى فترة أربع سنوات متواصلة في مدينة قم الايرانية من 2007 الى 2011 بحجة الاجتهاد الديني على يد رجل اسمه سبحاني لا يجيد العربية. لكنها في الحقيقة كانت فترة لتطويعه وتهيئته للمهمة السياسية التي توكل له مستقبلا في العراق. ويعزى ارتباط مقتدى بإيران الى دوافع مذهبية كونه من مقلدي المرجع الشيعي الإيراني كاظم الحائري. علما أن والده قد خير أتباعه في وصيته اما بالولاء الى مرجع عراقي وهو الفياض أو اختيار الحائري كمرجع ايراني. ألا أن مقتدى فضل مرجعية الحائري على الفياض، ربما بسبب العلاقة القوية التي تربطه بخامنئي كونه أحد مستشاريه وفي نفس الوقت ليكون حلقة الوصل التي تربط المرجع الأعلى مع مقتدى. علما أن الحائري معروف كمرجع ديني دجال وعنصري لا يعترف بالحدود الجغرافية للعراق بل يعتبره تابع لإيران. وقد سبق وأن طرد كفقيه معين لحزب الدعوة عندما كان هذا الحزب في إيران بعد اكتشافه أن الحائري يسرق موارد الحزب ويثري بها حتى صار يمتلك سفينة تجارية وأملاك في شمال إيران.  وهذا الارتباط الوثيق بالحائري وتلقي التعليمات منه يفسر الزيارات المكوكية التي كان يقوم بها مقتدى الى إيران باستمرار تحت مسوغات مثل الاعتكاف أو التعليم ويحظى فيها بحفاوة خامنئي وسليماني قبل مقتله عام 2020. كما يوضح ايضا سبب استقالة الحائري الأخيرة والغير مألوفة بحجة المرض ربما لكي يعطي مقتدى مبررا بالانسحاب من المنطقة الخضراء بعد تحقيق الأهداف المطلوبة من الاعتصام فيها. فالمرض لم يكن يوما سببا لاستقالة خميني رغم علمه أنه مصاب بالسرطان المتقدم قبل شهرين من وفاته وأن خامنئي الذي هو في عمر الحائري لازال على رأس السلطة في إيران رغم اصابته هو الأخر بالسرطان. 

كل هذه المواقف المشبوهة والارتباطات الخارجية لمقتدى الصدر تلقي بظلال من الشك حول وطنيته وادعاء نهجه العروبي المستقل عن إيران كما يروج له في الإعلام. بل على العكس من ذلك جميع هذه المعطيات تؤكد على أنه أحد أذرع إيران المهمة في العراق، والذي توظفه لإداء مهمات محددة ثم تأمره بالانسحاب منها عندما تجد أن الأهداف من ورائها قد أنجزت.

 

 






الاثنين ١٦ صفر ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة