شبكة ذي قار
عـاجـل










اللبنانيون بين العتمة والضوء، واشكالية الجناحين والوجهين

نبيل الزعبي

 

يكاد لبنان أن يكون الدولة الوحيدة في العالم التي لها من اللبنانيين في بلاد الانتشار، أضعاف من يعيشون في الداخل، ولطالما شكلّت هذه الـ "دياسبوراه" اللبنانية، سر عظمة هذا البلد الذي قدّم مع الأبجدية للعالم، خيرة أبنائه وهم يتولُون شتى المواقع النافذة في القارات الخمس، في السياسة والعلوم والأدب والاقتصاد والفن، ما شكلّ شبه انفصامٍ حقيقي ولكنه حميد، بين لبنان الداخل والخارج.

لبنان الداخل الغارق في ملهاة الطوائف والمذاهب الى درجة الجوع، ولبنان الخارج المتصدّر للحضارة وثقافة المدن والساعي دائماً إلى تحقيق الذات بالعلم والمثابرة والانتصار على الذات.

هما أنموذجان صارخان حملهما هذا الـ" لبنان "  ليل ونهار الرابع عشر من شهر أيلول لهذا العام ، بصورتين متناقضتين تماماً ، في الشكل والمضمون والهدف ، تناقض اللون بين الأبيض والأسود ، والعتمة والضوء ، تخللهما: سوادُ هائل بدخانه الملتهب يصدر عن مكب النفايات في طرابلس ، وسمومُ تنبعث لتلحق الضرر بالمدينة والجوار ، وبياضٌ بنقاء الثلج يطل على شاشات العالم تجسدُه فرقة لبنانية تحوز على أرفع جائزة عالمية بفنها الراقي وعمقها الحضاري فتنال الإعجاب ، ليس في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية وحسب ، وإنما يمتد إلى القارة العجوز والفضاء الأسيو- أفريقي وأوقيانيا التي تعجُ بدورها بلبنانيين لا يجمعهم مع لبنانهم الآن سوى الحنين.

وفي الوقت الذي كانت صبايا فرقة " ميّاس اللبنانية " ينتظرن إشارة الفوز بالجائزة الأولى لحدث فني عالمي، كانت اللبنانية سالي حافظ على المقلب الآخر من لبنان تخاطر بحياتها وهي تقتحم مصرفاً سرق وديعتها المالية وجنى عمرها للحصول ما أمكن من مالها المنهوب لتنكب على معالجة شقيقتها من سرطانٍ في الجسد، وبات يفتك بما هو أكثر، أي بمجتمعٍ عن بكرة أبيه، ما عاد يفكّر سوى بقوته اليومي وإن اقتصر على رغيف الخبز أياماً، أو البحث عنه في القمامة لمن عجز عن امتلاك الثمن.

وفيما كان اللبناني الآخر رامي شرف الدين يحذو حذو مواطنته سالي حافظ للحصول على ما أمكن من وديعة منهوبة له أيضاً، كان هنالك لبنانيٌ آخر ينتظر ثمرة ما جنته عبقريته الفنية من إبداع ليحصل على جائزة قيّمة في معناها ووازنة في قيمتها، وتَمّد أمامه السجادة الحمراء لينطلق بفرقته "المياس" إلى العالم ناشراً الإبداع والجمال وفن الاستعراض الراقي.

 هو لبنان، ذو الوجهين والثقافتين المختلفة الواحدة منها عن الأخرى ، ثمة من ينشر الفرح هناك ويوزعه على العالم لينال الإعجاب والتقدير والجوائز ، وثمة من يزرع الحزن هنا وينبش القبور ويوشحّنا بالسواد على شبابٍ يموتون كل يومٍ ، ونوبات ثأرٍ وانتقام يلُف الدساكر والقرى ، فمن ينجو من رصاص الغدر ، يطالعه الرصاص الطائش ، إلى الأنواع الأخرى من الموت ، الانتحار هرباً من ثقل المعيشة ، أو مشاريع الموت غرقاً في القوارب المهرَبة من على شواطئ المتوسط ، ومن ينجو بجلده ، كُتِبَت له الحياة في العالم الآخر ، ومن يرحل ، فالموت واحد والمصير سيّان بين هنا وهناك .

بين الأمل كمشروع حياة، والداخل المظلم كواقع موت ومرض وفناء، ما أجملهم أبناؤنا على المسارح العالمية، وهم يرسمون الأرز الشامخ وبياض الجبل الناصع وزرقة سماء لبنان الصافية بأجسادهم، وما أبشع من ينتهكون كرامتنا كل يوم بالحط من إنسانيتنا وتحويلنا إلى قطيع لا يملك حق العيش سوى في حظيرة فسادهم وموبقاتهم.

يُملون علينا موازنةً تزيد في جوع اللبنانيين جوعاً، وتمعن في إفقارهم إلى درجة الإملاق، لا جوازات سفر متاحة لهم اليوم سوى الجواز إلى الأبدية، علّها تُريح المعذبين على هذه الأرض، بينما " والي" جهنّم يتفاخر بما جنت يداه، ولا يجد ما يكافئ به شعبه العظيم سوى بالمزيد من وعود القهر والعذاب، ويبخل عليه، ولو بكلمة اعتذار.

تحية إلى كل من يزرع فينا الأمل، وإلى الجحيم لكل من أودى بنا إلى التهلكة، ولتكن جهنّم مثواه ولا رحمة لمن دمّر البلد وًجوّع شعبه.






الخميس ١٩ صفر ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٥ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة