شبكة ذي قار
عـاجـل










في ذكرى الرَّد العراقي على العدوان الإيراني

انتَصَرَت إرَادَة الخَيرِ والحَقّ

وتَقَهْقَرَت إرَادَة الشَّرِ والبَاطِل

الجزء الأول

 

د. محمد رحيم آل ياسين

 

تُمثِّل قادسية العرب الثانية سِفراً عِراقيَّاً خالداً، بعد السِّفر العربي الخالد في قادسية العرب الأولى، ففي الأولى قاتل العرب المسلمون الكفر والشِّرك والزرادشتية وعبادة النار، وفي الثانية قاتل العراقيّون نيابة عن العرب جميعاً الأفكار الظلامية والضلالية، وتشويه دين الله القيِّم وتزويره. ففي لحظاتٍ استثنائية فارقة من تاريخ العراق الحديث، استدعى العراقيون الغيارى كل تاريخهم المجيد وبطولاتهم وانجازاتهم الوطنية، واستحضروا أيَّامهم الخوالد وعبق تاريخهم الممتدّ في أعماق التاريخ، وسفرهم الزاخر والمُشرِّف منذ آلاف السنين حيث حضارات بابل وسومر وآشور، وحيث بغداد الرشيد (مدينة السلام) عاصمة الدولة العربية الكبرى.

استدعى أبناء الرافدين الأُباة صفحات من تاريخهم الزاخر وملاحم تصدِّيهم بادراكٍ ووعيٍّ تامَين للتحديات والمخاطر المصيرية التي مرَّت بهم خلال تاريخهم المُشرق. فاستطاع هذا الشعب العظيم في ملحمة القادسية الثانية، أن يثبت انتماءه الوطني وولاءه للعراق والعروبة، وأن يبرهن على صدق هذا الانتماء وعلى أصالة هويته الوطنية الراسخة. وقدَّم دليلاً ساطعاً على وحدته الوطنية وتآلفه في التصدّي للعدوان الإيراني الفارسي، الذي كان يستهدف وجوده وكيانه ومستقبله، ويروم خاسئاً نزع هويته الوطنية، وتفتيت لحمته الوطنية، وقطع صلته بالأمة، فأثبت قدرته على التعايش مع أصعب الظروف التي تجابهه مهما كانت قسوتها وضراوتها. قدَّم أبناء العراق الأماجد أرواحهم الغالية قرابين للوطن، وفداءً لترابه الطهور في مواجهة العدو الفارسي المتغَّطرس لثمانٍ من السنين، في حربٍ ضروسٍ شرسةٍ على امتداد جبهة شاسعة تمتدّ لأكثر من 1500كيلومتر، حتى اندحر هذا العدو اللئيم، وانهزم شرّ هزيمةٍ منكرةٍ، يقول تعالى:(أُذِنَ للَّذينَ يُقاتَلونَ بأنَّهُم ظُلِمُوا وإنَّ اللهَ علَى نَصرِهِم لَقَديرٌ) الحج39. لقد كانَ رِهانٌ تاريخيٌّ وُضِع فيه العراقيّونَ مُجبَرين لا مُختارينَ، لكنَّهم كسبوا الرهانَ بكلّ قوَّةٍ واقتدار، نعم كانَ رهانٌ في امكانية شعب الرافدين الأبيّ على مواجهة التَحدّيات التاريخية الكبرى، كما هو دَيدنهم منذ فجر التاريخ.

 

ما بَينَ الخِطَاب العِرَاقيِّ والخِطَاب الإيرَانيَّ 

قد يتصوَر البعض من المُراقبين والباحثين في الشأن العراقي والإيراني، أنَّ ما جرى من عدوان ايراني في اليوم الرابع من أيلول من عام1980م، والرَّد العراقي الجسور في الثاني والعشرين من شهر أيلول لذات السنة، ليس أكثر من خلافٍ جيوسياسي بين الجارتين، تطوَّر الى نزاعٍ عسكريٍّ وحربٍ شاملةٍ دامت لأكثر من ثمانٍ من السنين.

والحقيقة فهذا التصوّر ليس صائباً على الاطلاق، فما كان بين العراق وإيران لم يكن مشكلةً في الحدود، أو خلافاً في قضية على الأرض بين البلدين حسب، بل كان أبعد من ذلك بكثير. فليس كلّ خلافٍ من هذا النوعِ يؤدي الى نزاعِ عسكريٍّ شاملٍ كما جرى بين البلدين الجارين. انَّ ما جرى هو خِلافٌ فكريٌّ وعقيديّ، وهو صراعٌ بين نمط التفكير العقلاني المُتَّسم بالحكمة والنضج، والنوايا الحسنة، وروح التسامح والمحبة، والقيَم والمبادئ العربية والإسلامية الأصيلة، وبين نمطِ التفكر الظلامي الضَّال، والنوايا الخبيثة، والتشويه في مبادئ الإسلام، تتبعها أطماعٌ امبراطوريةٌ فارسيةٌ عنصرية.

إنَّ أيّ خلافٍ بين دولتين يمكن معالجته من خلال الحِوار بين الجانبين، يَتبعه مرحلةٌ من الاتِّفاق والتوافق على اكمال المسَار التَفاوضي عِبر الطرق الدبلوماسية المُتَّبعة بين الدول.

غير أنَّه عندما يكون هناكَ خِلافٌ حادٌّ بمستوى الخلاف بين العراق وإيران، يستعصي معه أيّ حوارٍ مُثمرٍ يَنتجُ عنه تَفاهماتٍ مُعيَّنةٍ يَتوصَّل الطرفان من خلالها الى اتفاقٍ وتراضٍ لتسوية الأمور الخلافية بين البلدين. فعندما يكون الطرف الآخر ممثَّلاً بإيران (الخميني) مُصاباً بداء الاستكبار والعنصرية والعنجهية، ويرى نفسه هو خليفة الله في الأرض، والآمر والناهي في حياة الناس الدنيوية والرُّوحية، وعندما يطرح مشروعه الاستعماري القديم الجديد في الوطن العربي تحت غطاء " تصدير الثورة" ، ويَتحوَّل هذا الطرف الى مصانع لإنتاج الحقد والكراهية لتقسيم الامة العربية، وتستشري ثقافة الكراهية هذه في النظام السياسي الحاكم باسم الولي الفقيه، ويسري هذا الخطاب الخبيث في المجتمع الإيراني المغلوب على أمره، فالمسألةُ هنا مُختلفةٌ كلّ الاختلاف.

فهذا الخطاب يُحرِّض على البغضاء، وبطبيعته فهو منغلق على نفسه، مفارقاً للواقع، من هنا كان الخميني يرى واهماً أنَّه سينتصرُ نصراً حاسماً على العراق، الذي وجده في مخيِّلته وخيَاله أنَّه سهل المَنال، خصوصاً وأنَّه راهن على الطائفية المقيتة، وكان يتصور أنَّ أبناء الرافدين، لن يستطيعوا معه صبراً!، ولن يستمروا في المطاولة، وسيكون رضوخهم واستسلامهم حتمياً لا محال، وأنَّ العراقيين سيفتحون له الأبوابَ على مصراعيها! لذلك وجدناهُ يراهن على اطالة أمد الحرب، غير أنَّه كان رهاناً خاسراً، حيث اندحر العدوان الفارسي فما كان منه إلَّا أن يَتجرَّع كأس السُمّ الزعاف، بعد أن وافق خانعاً خاضعاً لوقف هذه الحرب التي كان ينفخُ فيها النار كيما تستمر طويلاً.

إنَّ النزعة العدوانية وثقافة الكراهية التي تملكت نظام الولي الفقيه وتَسبَّبت في رفض الآخر (العراق)، ومن ثمَّ تحوَّلت الى ثقافة القتل لإقصاء الطرف الآخر والهيمنة عليه بالقوة، فالاختلاف في العقيدة وبالاتِّجاه المُشوَّه والضلالي، يقود الى حسم الاختلاف بطرق عدوانية غاشمة. وهكذا اجتمعت الثقافتان، الكراهية والتَعصّب لتَنتهي الى ثقافة القتل، فالتَعصّب بكلِّ أنواعه وأشكاله المختلفة الدينية (المُسَيَّسة) والمذهبية (الطائفيَّة) والقومية (العنصرية)، يؤدي الى رفض الآخر. وكلّ هذه الأشكال من التَعصّب توافرت بعمق في نظام خميني وأتباعه في النظام الإيراني العدواني. ومن هذا الاتِّجاه المظلم انطوى ذلك التَعصّب فاستحال الى مرحلة التكفير للآخر!، وهو يمثِّل أقصى حالات العداء للعراق بشعبه الابي ونظامه السياسي الوطني والقومي. انَّه الجهل والطغيان اللذان رافقا خميني ونظامه وهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، فالجهلُ بيئة خصبة للطغيان والاستبداد، لأنَّ قلوبَهم في أكِنَّةٍ وعقولَهم مطموسة المدارك، قال عنهم سبحانه: (وَلَو اتَّبَعَ الحَقُّ أهواءَهُم لَفَسدَتِ السَّماواتُ والأرضُ ومَن فيهِنَّ) المؤمنون71.

 

لقد اعتمد نظام الولي الفقيه وأتباعه المنقادون والمَهووسون به الى تغذية هذه الثقافة الشرِّيرة في المجتمع الفارسي، ومَن كان يدفع بهم الى جبهات القتال، لم يكونوا سوى مجاميع مسلوبي الارادة، تَعرَّضوا لعملياتٍ من غسيلِ الأدمغةِ مِن خلال وسائل الدعاية والتَّحشيد الطائفي من قبل أصحاب الفكر الشيطاني، وبسبب التقليد والانقياد والطاعة العمياء. فجيَّش مئات الالوف من المغلوبين على امرهم الى التجاوز على حدود الغير وترابه وحياته وأمنه واستقراره، بالقياس الى الشعب العراقي المتسامح والمرن، والمتزن في علاقاته مع الآخرين. 

 

الرَّد العِرَاقيّ الجَسُور في القَادِسيَّة الثانِية

وهكذا كانت المنازلة الكبرى في معركة قادسية العرب الثانية، والتي قام فيها العراقيون بالتصدِّي للعدوان الإيراني الفارسي، في هذه المعركة الخالدة صُورٌ ومواقفٌ وأفعالٌ وبطولاتٌ فيها من الاقدام والاقتحام والبسالة والتضحية، ما تعجز عنها الأوصاف، وممَّا يعجب لها العجب، وتَهتَزّ لها المشاعر والعواطف لكل عراقي شريف وعربي أصيل. في هذه المعركة تَتجلَّى صور البطولةِ والشَّهامةِ والنَخوة العِراقية الشامِخة دائماً والتي شارك فيها المقاتلين العرب بكل بسالة، انَّها المنازلة الكبرى بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشرّ. بل هو صراعٌ بين الحياة والوجود، وبين الموت والفناء، انَّها حكاية الأبطال من رجالِ العِراق والامة العربية الشُّم، الذينَ عرفوا طريق النصر والمجدِ والبطولة، وكانوا واثقين من قدراتهم الفذَّة وغير المحدودة. فقد اعتمرت صدورهم بالإيمان بالله والوطن وبأمَّتهم العربية، وبأنَّ الله تعالى ناصرهم على المعتدين:(لَن يَضرُّوكم إلَّا أذىً وإن يُقاتِلوكُم يُوَلُّوكُم الأدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ) آل عمران111.

 

وهكذا توَكَّلوا على الله الواحد الأحد، فاندفعوا ببأسٍ شديدٍ، وحملوا بأياديهم سيوف الحقّ والعدل، وهكذا خَطُّوا بتضحياتهم بأرواحهم ودمائهم الزكيَّة أروع نماذج التضحية والفداء فحموا استقلال وطنهم والامن القومي العربي، ونسَجوا بأفعالهم ومواقفهم البطولية وتضحياتهم السَخيَّة ملحَمة القادسية الخالدة، في سفرٍ مجيدٍ عبر الدهور، تُعدُّ مفخرة لكلَّ العراقيين والعرب. فكانت القادسية تمثِّل ارادة شعبٍ لا يُقهَر، فالشعبُ العِراقيُّ لم يكن فقيراً بموارده البشرية والاقتصادية والعسكرية، فالعراقُ خيراتُه كثيرةٌ وفيرةٌ، وعلومُه وثقافته ومعارفه مزدهرةٌ بعد ثورة السابع عشر من تموز المجيدة في العام 1968م. يضاف الى ذلك ما كان لهذا الشعب من باعٍ طويلٍ في القتال ضدّ الغزاة والمستعمرين، ومنها الحرب الطويلة مع العدو الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين العربية.

 

الشَّخصيَّة العِراقيَّة.. وَطنيَّة النَشأة عَربِيَّة الانتِمَاء

من الضروري هنا أن نحدِّد المسافة الفضائية الشاسعة بين شعب الذرى والمفاخر، شعب الرافدين، وبين بني فارس في ظل حكم الملالي المتخلّف. وفي البدء نقرأ الشخصية العراقية قبل الحرب وفي أثنائها، لنتَبيَّن ميزاتها وسماتها الأساسِيَّتين، وندخل الى أعماق هذه الشخصية ومكوّناتها من البيت والعائلة، حيث تُولد شخصيَّة الفرد العراقي وتنمو وتزدهر وتَترَعرَع، بحيازتها على اتِّجاهها الأساسي في الحياة. ثم المدرسة والمعهد والجامعة التي يُفتَرض أن تَتَّسع من خلالها وفيها آفاق الحياة والفكر، ومن ثم تُبان الشخصيَّة في حريَّةٍ كاملةٍ...حيث ينطلق الفرد الى مجالات العمل الذي ينتظره بعد استكمال تَخصّصه وتعليمه، فيجد نفسه مع أبناء مجتمعه الآخرين الذين يشاركونه في العمل والانتاج. فلا بؤس ولا شقاء ينتظره بسبب البطالة التي لا وجود لها في عهد الثورة، وبالتالي فالإنسان العراقي لم يكن يحرق وقته في اللهو وارتياد المقاهي أو الملاهي على اختلاف أنواعها بسبب الفراغ، فلا وقت فائض لكل أفراد المجتمع، فللشباب هناك مراكز الشباب البحثية والرياضية والثقافية التي تستقبلهم يومياً، ولمن هم فوق ذلك من العمر، فلديهم العمل المثمر الدؤوب والجمعيات الغير حكومية والتي تُمثّلها النقابات والاتحادات وغيرها في كافة التخصصات على تعدّدها للتعبير عن قضاياهم ومصالحهم وتطويرها. فلا يجد الانسان العراقي فائضاً من الوقت ليَتسلَّى به، بل هو في عملٍ وانتاج مستمرَين، تغذيه ثقافةٌ وطنيَّةٌ خالصةٌ، وثقة واطمئنان بالمستقبل الواعد القادم، وبحياةٍ مزدهرةٍ آمنة مُرَفَّهة.  فالكلُّ منشغلٌ بين مدرسته وكليَّته، ومعمله ومصنعه، وفي كلّ المؤسسات والدوائر الانتاجية منها والخدمية والتعليمية، ولم يكن لدى الانسان العراقي فراغاً فكرياً أو عقيدياً كما هو الانسان الإيراني آنذاك.

 

وبطبيعة الحال فالشخصيَّة الانسانيَّة لا يمكنها أن تَتَّجِه الى أمام وتَتقدَّم وتَنتج وتُبدع دونما ايمان شامل وعميق، وارادة قويَّة ووعي وطني ومعرفي عالٍ. يضاف الى هذا الإيمان، ايماناً قد يكون دينيَّاً (على أصوله) أو وطنيَّاً أو قوميَّاً أو عقيدياً (فكريَّاً). وأيَّاً كان نوع هذا الإيمان، فإنَّه ضرورة بالتأكيد، فمن شأنه أن يقوم بتَوجيه وتَسيِّير الشخصيَّة واعطائها القوَّة اللازمة للاندفاع الى أمام. وكان هذا النموذج هو الانسان العراقي في العهد الوطني، فهو مؤمن في طبعه، زِد على ذلك ايمانه بهويته الوطنية وانتمائه القومي العروبي، في حين نجد المواطن الإيراني لديه أزمة عقلية، لأنَّه يعيش بين التَديّن والتَمذهُب العدائي والمشوَّه على الطريقة (الخمينية)، مما جعله في حالةٍ من الازدواجية مع نفسه، فهو غير متصالح معها، ما أدَّى الى تَحجّر العقول، بل وإلغائها، مقابل التأليه للشخوص، وبالتالي الانقياد التام والتقليد الأعمى، وهذا تسبَّب في تهديد استقلالية الشخصية الفارسية، لتَتحوَّل الى شخصية عفوية، غير فعَّالة. من هنا كان هناك نموذجان متناقضان، شخصية عراقية ناضجة، حيويَّة فعَّالة، منتجة، مدركة وواعية، مواكبة للعصر، وشخصية فارسية قلقة، مزدوجة، غير منتجة، غائبة عن زمنها وعصرها...

 

ويبقى بعد ذلك كلّ هذا العبق التاريخي المُعطَّر بأريج الصفاء والتيّقظ والشَمَم، فيه التوثّب العربي والشهامة والنخوة العراقية الأصيلة، في وقتٍ كان فيه الشعب الإيراني يعيش بؤساً ما بعده بؤس، وقد حُرِمَ من نعمة الحياة المستقرة الآمنة، ليلتحق بالشقاء والمعاناة.

 

يتبع لطفاً..






السبت ٢٨ صفر ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د.محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة