شبكة ذي قار
عـاجـل










الإعلام في العراق بين الفساد والمفسدين

الأستاذ الدكتور عبد الرزاق محمد الدليمي

 

قال الفيلسوف العربي ابن رشد: ((إذا رأيت الخطيب يحث الفقراء على الزهد دون الحديث عن سارقي قوتهم فاعلم أنه لص بملابس واعظ).

 تذكرت هذا القول وأنا أتابع ما نشر من تعليقات على صفحة السيد أحمد الملا طلال على الفيس بوك، وتنوعت بين من يستغفر الله وبين من يهاجم الفساد والمفسدين دون تحديد من هم هؤلاء؟ ومن دون جميع التعليقات تجرأ شخص واحد ووجه اللوم ولا أقول الاتهام إلى الملا طلال، بما يعني أنه شريك لهم (أي الفاسدين والسراق) ما لم يفضحهم بما لديه من معلومات دقيقة.

نعلم جميعاً أن العراق منذ احتلاله، حدثت فيه فواجع بدأت وما تزال مستمرة وستستمر ما لم يصح الشعب، سيما المغيبون منه بسبب مورفين الدين، والشعائر والهرطقات التي جاءتنا من شعوب أخرى لا علاقة لها بالإيمان بالله ولا بدياناته المعروفة.

 فمنذ 9 نيسان 2003 بدأ الاحتلال الأمريكي البريطاني الصفوي الصهيوني بتنفيذ الخطط الموضوعة مسبقاً لتحويل نسبة مهمة من العراقيين إلى عبيد لبعض الطقوس التي لا تشبع الجوع ولا تروي العطش، ولا توفر الكهرباء، ولا تشفي الآلام والأمراض، ولا توفر فرصة العيش الكريم للعراقيين.

 أنا لست ضد أي ممارسة طائفية، بغطاء الدين، وهذا حق لقناعات الناس شرط أن لا تستغل من الفاسدين الخونة عملاء للاحتلال، في تخدير إرادة المواطنين وتغييب وعيهم إزاء المخاطر التي تعتري حياتهم وتهددها بالفناء القيمي والأخلاقي التي جاءت من أجلها جميع الأديان.

الفاسدون لا يبنون دولاً بل يبنون أنفسهم

 

تعاني مختلف المؤسسات العراقية خاصة الحكومية من تفشى الفساد بها، سيما بعد جريمة احتلال العراق في نيسان 2003  ما دفع العراقيين إلى الثورة الكبرى والنزول للشوارع، وذلك وفق تقرير مجمع لمؤسسات دولية، أبرزها البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية. ومنذ بداية الأيام الأولى للاحتلال، تشهد أغلب المحافظات العراقية احتجاجات ومظاهرات عنيفة أودت بحياة آلاف العراقيين، وإصابة الآلاف بحسب مؤسسات حقوقية، نتيجة قمع قوات الجيش والشرطة والميليشيات المنفلتة للمواطنين الرافضين للفساد، وتفشي الفقر والبطالة. وتقدم المعلومات الرسمية حقائق وأمثلة عن أشكال الفساد في عديد المؤسسات الحكومية والسيادية داخل العراق، خلال الفترة منذ 2003، الفساد والمحسوبية يضربان مفاصل الاقتصاد العراقي، وترى منظمة الشفافية الدولية على سبيل المثال أن فساد الرواتب مثل "الموظفين الشبح" و"قشط الرواتب" أصبح أمراً شائعاً في العراق؛ إذ تتأثر قرارات التوظيف بالمحسوبية والرشوة وأحياناً لموظفين غير موجودين. 

كان من المرجح أن يكون مستخدمو الخدمات العامة قد دفعوا رشوة عند اتصالهم بالمسؤولين الحكوميين لخدمات الأراضي بنسبة 39% والشرطة 35% وخدمات التسجيل والتصاريح 27%. علاوة على ذلك، من بين 12 مؤسسة عراقية وأجنبية داخل البلاد، كان تقييم الأحزاب السياسية على أنها الأكثر فساداً.

 

فساد في الإعلام أم إعلام فاسد

قال الثائر تشي جيفارا: (عندما تتبول السلطات على الشعوب يأتي دور الإعلام ليقنعهم أنها تمطر)..

أتذكر هذه العبارة البليغة كلما قرأت أو سمعت أو شاهدت ما تقوم به وسائل الدعاية الحكومية أو المناصرة لها أو المؤطرة لخدمتها مقابل ثمن، وهذا للأسف أصبح ديدن كثير من وسائل الاتصال في عالم اليوم، فهذه الوسائل (من الصحافة الورقية إلى الإذاعات إلى القنوات التلفزيونية إلى مضامين الانترنيت ومنها شبكات التواصل الاجتماعي)، أصبحت سلعة تباع في مجتمعات كثيرة لمصلحة من يدفع أكثر سيما، بعدما رفعت كثير من الدول يدها الداعمة لهذه الوسائل داخل مجتمعاتها، أو تلك التي يتم تجنيدها في خارجها إلا أن البديل عن الحكومات، هي أطراف متنفذة وميسورة مادياً تعمل بالتنسيق والتوافق مع الأنظمة الحاكمة في إطار تبادل الأدوار، والخدمات وبما يحقق مصلحة الطرفين بمعنى استمرار وجود النظام وديمومته وتحقيق، غايات اصحاب رأس المال في تعظيم نفوذهم الاقتصادي والسياسي مقابل الخدمات الدعائية للدفاع عن النظام العميل والفاسد وتلميع صورته وتبرير أخطائه.

وهنا نطرح سؤالاً منطقياً، هل يمكن لإعلام نزيه أن يمارس دوره (بشكل موضوعي؟!)، علماً أنني أتفق تماماً مع من يقول بصعوبة وربما استحالة ممارسة وسائل الإعلام دوراً حيادياً منصفاً لسبب بسيط، وهو أن من يحدد أجندة الوسيلة هم مالكوها، وهؤلاء يسخرون كل ما يمتلكونه وفي المقدمة منها أسلحتهم المدمرة المتمثلة بوسائل الاتصال التي هي أكثر فتكاً من جميع الأسلحة الأخرى بما فيها الأسلحة البيولوجية، كالفايروسات المعدلة جينيا مثل (كورونا 19) أو غيرها التي ستظهر لاحقاً.

 

يلاحظ أيضاً أن هناك تزايد طردي محموم في تسخير وسائل  الإعلام لأغراض تنفيذ الأجندات الاقتصادية والسياسية من قبل الأحزاب المتأسلمة والفاسدين من السياسيين، وهذا ما بدا واضحاً فيما حققته هذه الوسائل من دور خطير وناجح في تمرير سيناريوهات سابقة وأخرى جاهزة مما خططت له الحكومات التي فرضها الاحتلال، ورغم أن كثيرين من الناس قد لا يعلمون  أن أغلب وسائل الاتصال في العراق مملوكة بشكل مباشر أو غير مباشر لهذه الأحزاب والشخصيات الفاسدة، الأمر الذي جعلنا متأكدين أن وسائل الإعلام على الأغلب قد فقدت استقلاليتها.

 يعتقد كثيرون أن التكنولوجيا الجديدة وفرت فرص غير مسبوقة سواء في الوصول إلى المعلومات أو في انتشارها، إلا أن قوة الحكومات العميلة ومقاومتها للحق في الوصول إلى المعلومات العامة ما تزال المعيق الأول أمام قيام وسائل الإعلام الشريفة (رغم قلتها ومحدودية امكانياتها) بدورها في كشف الفساد ناهيك عن ظاهرة اختطاف الإعلام والعاملين فيه من قبل الأجندات السياسية، وهي ظاهرة لازمت وسائل الإعلام منذ الاحتلال وازدادت حدتها في الأعوام الأخيرة مما يجعلنا نتجاوز الحديث عن الشفافية وعن دور الرقيب الإعلامي.

 

الفساد في وسائل الاعلام

لقد أصبحت قوى الفساد والاستبداد بارعة في استعمال ما تملك من أدوات وأموال (خاصة إبان الحملات الانتخابية) تحت ستار حرية التعبير، لتضليل الشعب العراقي ودفعه نحو مزيد من الحيرة والتخبط وفقدان البوصلة، لينتهي به الأمر محبَطاً وعاجزاً عن تبيّن طريق خلاصه.

جميع ما يطرح حول دور وسائل الإعلام في العراق المحتل، تصب في مدى نضوج المهنية والجودة في قيام وسائل الإعلام بوظيفتها الرقابية والتوعوية للشعب، باعتبارها الممثل للمجتمع والرأي العام وتتحمل مسؤولية أخلاقية في الدفاع عن مصالح المواطن العراقي المغلوب على أمره، وتزداد أهمية ذلك في البيئة الرقمية للإعلام وبمدى حصانة وسائل الإعلام من الاختراق، وما يوفره من فرص أكثر لوسائل الإعلام للقيام بوظيفتها الرقابية من جهة، وما يوفره من إمكانيات لاستخدام بعض وسائل الإعلام أداة لنشر المعلومات المضللة حول الفساد.

إن نجاح الطبقات الفاسدة المهيمنة على المشهد في العراق، سيما مسألة اختراق وسائل الإعلام وعملها على تسطيح المهمة الصعبة للإعلام في الكشف عن الفساد هو نجاح كبير في حرف الإعلام عن أهدافه، في الأصول المهنية يقوم الإعلام بتوفير قناة حرة لتدفق المعلومات التي تتيح أمام المجتمع التدقيق في أعمال الحكومة والمؤسسات والأعمال والمصالح الخاصة، كما توفر وسائل الإعلام منبراً حراً للنقاش العام المتعدد الذي يؤسس الحكم الجيد واستدامته، وكلما ازدادت الاختلالات في النظام المتهرئ في العراق أصبح الأساس الوظيفي لوسائل الإعلام وللحريات المرتبطة بهذه الوظيفة في خطر، حيث يزداد صراع القوى الفاسدة المستفيدة فيما بينها للسيطرة على وسائل الإعلام، وهذا ما يحدث في العراق اليوم، ولا نملك أية قدرة عدا أن نراقب!.

 

إعلاميون فاسدون (من البيضة)

معروف أن هناك تباين في الأدوار التي يؤديها الإعلاميون في أي مجتمع مقارنة عن سواهم من أفراده، ومثلما يحاول كثيرون التكسب بشكل شرعي أو غير شرعي مستغلاً مهنته أو منزلته أو صلاته...إلخ، يلاحظ انعكاس هذه الظاهرة السلوكية الشائنة على بعض الإعلاميين عبر استغلالهم غير الأخلاقي وغير المشروع لمهنته الشريفة وللوسيلة التي يعمل فيها عن طريق إثارة بعض القضايا والوقوف في جانب معين دون الآخر لتحقيق منافعه الشخصية!! مع ملاحظة أن ما يرتكبه الفاسدون من أعمال وممارسات غير أخلاقية في المجالات الأخرى قد لا يكون واضحاً للعيان وقد لا يؤثر بشكل سلبي على المجتمع، كما هو الحال بما يقوم به الإعلامي الفاسد (وهم كثر للأسف) بتسخير قلمه أو عمله في المؤسسة الإعلامية لخدمة هذا الطرف أو ذاك على حساب الحقيقة وتجاوزاً على شرف المهنة المقدسة.

إن لوسائل الإعلام كما هو واضح وجلي قدرات هائلة في التأثير على أفراد المجتمع. والسؤال الذي فرض نفسه اليوم أكثر من أمس ماذا سيحصل في المجتمع إذا فسد فيه الإعلام والإعلاميون، وليتخيل القارئ أن الوضع سيتحول من تصدي الإعلام لمحاربة الفساد إلى المعاناة من الإعلام الفاسد الذي تتسخر أقلامه وميكرفوناته المأجورة لخدمة أشخاص أو جهات معينة بدلاً من فضحها أمام المجتمع.

أصبحت أغلب وسائل الإعلام للأسف الشديد في مجتمعنا المنكوب، مثل باقي أجزائه ينخرها الفساد بسبب وجود بعض القائمين على إدارته أو العمل في مؤسساته، (وهنا نشير إلى وجود الظاهرة ولا يمكن تعميم ذلك على جميع الوسائل الإعلامية أو العاملين فيها بشكل عام).

إنها فعلاً كارثة كبيرة تصيب قلب المجتمع العراقي وضميره وخط الدفاع الأول عنه وعن مصالحه وحقوقه... ماذا سيحدث عندما تفسد الأقلام وتتلوث وتشوه الكاميرات الصور وتنقل الميكرفونات الأكاذيب .... إن من يقوم بهذه الجرائم للأسف الشديد  بعض المحسوبين على مهنة نقل الحقائق وكشف المفاسد، وهنا يتحول هؤلاء الإعلاميون إلى مجرد أصوات نشاز متناسين أن أغلب الناس بدأت تمل وتنفر من هذه الأصوات النشاز وطنياً، ولاحظنا أيضاً بروز ظواهر أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها، منها تقلب بعض الإعلاميين وقدرتهم على تغيير مواقفهم بسرعة فائقة مثل (!!!!؟؟؟؟؟)،وقيام آخرين  باستغلال وظيفتهم في تصفية حسابات شخصية له فيصبح أعداؤه فاسدين، يطاردهم ويتهمهم بالفساد، متناسياً بذلك أن وظيفته كإعلامي هدفها أولاً وأخيراً إظهار الحق والدفاع عنه، ولاحظنا كيف انتشرت في وسائل الإعلام المتصارعة من أجل هذا الطرف أو ذاك .. سيما عندما تتحول السلطة من هذا الطرف إلى نقيضه، حملات تستهدف أشخاصاً بعينهم يختص بعض الإعلاميين والصحفيين الذين امتهنوا عمليات التصيّد بكل ما يخص تلك الشخصيات، والإكثار من الحديث عنها وإظهار أخطائها والمطالبة بمحاسبتها، إن هؤلاء الذين اغتصبوا وسائل الإعلام ظلماً وبهتاناً لم ينبرِ أحد منهم ليطالب بمحاكمة المفسدين وإعادة ما سرقوه ومحاولة إصلاح ما تم تخريبه في البلاد، وقتلهم وتغيبهم للعباد من قبل المفسدين، وفي المقابل نجد إعلاميين آخرين من نفس الشاكلة يهبون لكيل المديح  لتلك الشخصيات وتحاول تبرير أخطائها وتجميل أفعالها وتلميع صورتها التي ما يلبث الغبار أن يغطيها فتصبح بحاجة إلى تلميع مرة أخرى.

المحزن بالأمر أن دور هؤلاء المحسوبين ظلماً وبهتاناً على مهنة الإعلام الشريفة لا يقتصر على التعامل السلبي مع قضايا الفساد، وإنما قيامهم بدور رئيس بالدفاع عن مظاهر الفساد، في حين يجب على كل وسائل الإعلام انتهاج الطرق السليمة  في توعية الأفراد بأهمية ازدراء الفاسدين، وخلق بيئة رافضة للفساد فالإعلام قادر على مخاطبة عدد كبير من الناس في وقت واحد، وهذا بدوره يوفر فرصة لاستنهاض الرأي العام والتأثير في أنماط السلوك، فقد يرفض المجتمع سلوكيات لم يكن له رفضها لولا أن الرسالة الإعلامية قد حملتها، وأظهرت سلبياتها.

 فالإعلام كما هو الحال بالنسبة لهيئة مكافحة الفساد معني بنشر الوعي الوقائي والأخلاقي حول أشكال الفساد، وآثاره السلبية على المجتمع وتسليط الضوء على الثغرات والفجوات التي يمكن من خلالها ارتكاب أفعال الفساد لمعالجتها ودرء مخاطرها.

 

 






الاربعاء ٢٢ ربيع الثاني ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / تشرين الثاني / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الأستاذ الدكتور عبد الرزاق محمد الدليمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة