شبكة ذي قار
عـاجـل










 

قوة الحق في مواجهة حق القوة: قصة معركة الوزير ناجي صبري ضد الجبروت الأمريكي

بقلم: السفير سعيد الموسوي

 

أكتب الوقائع أدناه ليس رداً على ادعاء متهافت لعميل يحاول أن ينال من قامة عراقية شامخة هي وزير خارجية حكومة جمهورية العراق الشرعية الدكتور ناجي صبري، بل من أجل الحقيقة والتاريخ ولتوثيق جهاد أبناء العراق الأصلاء. أكتبها من واقع معاش فقد تشرفت بصفتي رئيسا لدائرة المنظمات والمؤتمرات الدولية في وزارة الخارجية بالعمل تحت قيادة الوزير ناجي صبري في جهاده من أجل وطنه وأمته والإنسانية منذ استلامه وزارة الخارجية في أواسط عام 2001 وحتى نجاحه في تجريد الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق من الشرعية الأممية.

 

عُيّن الدكتور ناجي صبري وزيراً للدولة للشؤون الخارجية في نيسان 2001 ثم تولى حقيبة الخارجية في آب 2001. في تلك الفترة كان العراق يواجه تحديا حاسما بعد وصول بوش الابن الى السلطة وقيام اليمين الأمريكي المتحالف مع الصهيونية العالمية بإعداد الخطط لغزو العراق بهدف إسقاط حكومته الوطنية وإقامة حكومة عميله لها فيه. وكانت الولايات المتحدة تراهن لتحقيق هذا الهدف على ثلاثة أمور أساسية : الأمر الأول هو الحصار الشامل المفروض على العراق منذ السادس من آب 1990 والذي كان من بين آثاره إضعاف القدرات العسكرية العراقية ونضوب القدرات المالية واللوجستية التي تعطي القدرة على المطاولة في القتال، والثاني هو استغلال أكبر عملية تزوير في التاريخ المعاصر قبل ان تتكشف الحقائق، ونقصد بذلك تمرير الغزو وسط حملة شيطنة العراق وقائده، والثالث، وهو الأهم، استثمار رفض العراق عودة مفتشي الأسلحة الذين غادروه منذ 15/12/1998 والحصول من مجلس الأمن على قرار يدين انتهاك العراق لالتزاماته ويعيد إحياء التخويل الوارد في قرار مجلس الأمن 678 (1990) باستخدام القوة ضد العراق. وحال استلامه لمهماته، وضع الوزير ناجي صبري خطة متعددة المسارات تقوم خلالها الدبلوماسية العراقية بالتصدي لهذا المخطط العدواني الأمريكي. وكانت أهم حلقة في تلك الخطة هي منع الولايات المتحدة من استخدام الأمم المتحدة غطاء لعدوانها على العراق وذلك من خلال تنشيط التعاون مع الأمم المتحدة عبر استئناف أعمال التفتيش في العراق كخطوة أولى لتنفيذ التزامات الأمم المتحدة تجاه العراق بدءا برفع الحصار وإنهاء جميع الإجراءات القسرية الأخرى. وكانت تلك مهمة عسيرة تقف أمامها صعوبات جمّة داخلية وخارجية.

 

الصعوبات الداخلية يقف على رأسها المزاج الرسمي والشعبي العراقي الذي يحمل مرارة تجربة التعامل مع فرق التفتيش التي كانت تستخدمها أمريكا لانتهاك سيادة العراق وأمنه وكرامة شعبه وإدامة الحصار عليه. أما الصعوبات الخارجية فتتمثل بانفراد الولايات المتحدة بزعامة النظام الدولي وانكماش دور دول عدم الانحياز والدول المتحررة بشكل عام لدرجة أن كثيرا منها أصبح يسبّح بحمد أمريكا ويشتم العراق وقيادته لاعتقاده أن ذلك خير جواز مرور الى قلب أمريكا!

 

واعتمد الوزير ناجي صبري في إنجاز مهمته على دعم الرئيس صدام حسين له، واستند إلى إيمانه الراسخ بأن الوقت قد حان لإن تأخذ الدبلوماسية العراقية زمام المبادرة في تصدّ اقتحامي لا يعتمد على ردود الأفعال، كما استند الوزير على صفاته الشخصية من دبلوماسية هادئة وخبرة واسعة وصبر ومطاولة، وعلى فريق عمل مثابر في وزارة الخارجية وفي دائرة الرقابة الوطنية المعنية بالتعامل مع فرق التفتيش. ووضع الوزير ناجي صبري خطة للتعامل المبدئي المرن مع ممثلي الأمم المتحدة في الملفات كافة: التعويضات، الحدود، حقوق الإنسان، المفقودين والممتلكات الكويتية، برنامج النفط مقابل الغذاء، والملف الأهم والأخطر هو ملف أسلحة الدمار الشامل المزعومة. وقد اقترنت تلك الخطة ببرنامج سياسي للانفتاح على دول العالم، وفي مقدمتها الدول العربية، كفعل اساسي مطلوب لإحباط محاولات أمريكا فرض العزلة على العراق. وبينما كانت الخطوات الأولى لهذه السياسة تعلن عن نفسها في الساحة الدولية حصل حدث خطير جعل مهمة الوزير ناجي صبري أكثر صعوبة، ونقصد بذلك هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك. هذه الهجمات جعلت امريكا تشعر، للمرة الثانية في تاريخها بعد هجوم اليابان على بيرل هاربر، أنها ضحية عدوان خارجي غير مبرر وأن عليها الرد بقوة.

 

وإذا كان من نتائج الهجوم على بيرل هاربر دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية واستخدامها الأسلحة النووية لأول مرة في التاريخ، فإن أحداث الحادي عشر من أيلول أطلقت الهياج الجنوني لليمين الأمريكي بكل طاقته التدميرية. وبدأت أمريكا تضع الخطط للانتقام ممن اعتبرته العقبة الكأداء الوحيدة أمام هيمنتها على العالم وهو نظام الحكم الوطني في العراق بقيادة الرئيس صدام حسين. وكان أول ما تحدث به بوش في اجتماع خلية الأزمة الذي عقد في البيت الأبيض يوم 12 ايلول 2001 هو كيف تعدّ أمريكا الخطط العملية لغزو العراق. ومع أن أحداث الحادي عشر من أيلول جعلت مهمة الوزير ناجي صبري أكثر صعوبة وتعقيدا، لكنها، بالمقابل، زادت من عزيمته لمواجهة هذا التحدي. أتذكر اجتماعنا صبيحة يوم 12 أيلول 2001، وحديثه عن ضرورة استباق النوايا العدوانية الأمريكية من خلال إرسال برقية تعزية الى الشعب الأمريكي بهذه الخسارة الفادحة وتذكير الإدارة الأمريكية بإن معركة الإنسانية ضد الإرهاب والتطرف واحدة وعليهم أن يستوعبوا هذا الدرس ويسعون للسلام مع الشعوب بدلا من العدوان عليها. وللأسف لم ينل هذا المقترح موافقة الأغلبية في القيادة، وكان للرافضين أسبابهم المنطقية في عدم الموافقة على توجيه هذه البرقية. ورغم الأجواء المتوترة ونذر الحرب استطاع الوزير ناجي صبري إقناع القيادة بضرورة تحريك ملفات علاقة العراق بالأمم المتحدة من أجل نزع غطاء الشرعية الزائف عن سياسات أمريكا العدوانية ضد العراق، واستند في ذلك الى حقيقة أن الولايات المتحدة استخدمت الأمم المتحدة غطاء لارتكاب ابشع جرائم الحرب وجريمة العدوان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة ضد شعب العراق منذ عام 1990، وأنها استطاعت الإفلات من المساءلة الدولية عن هذه الجرائم بالادعاء أنها كانت تنفذ قرارات مجلس الأمن، والأنكى من ذلك أنها أجبرت كثيرا من دول العالم على دعمها عسكريا وماديا بادعائها الدفاع عن (الشرعية الدولية) وعن (قيم العالم الحر). وأعطى الوزير ناجي صبري الأولوية لملف نزع السلاح الذي كان مجمدا منذ عدوان (ثعلب الصحراء) في كانون الأول 1998. وكانت سياسة العراق في هذا الملف منذ ذلك التاريخ تقوم على مبدأ: (نقبل التفتيش إذا رفع الحصار ولكن لا نقبل التفتيش والحصار معا). وحاول الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في مطلع عام 2001 تحريك هذا الملف من خلال إجراء حوار مع العراق من أجل عودة المفتشين، ووافق العراق على الحوار وقدم الوزير الأستاذ محمد سعيد الصحاف في جلسة الحوار مع الأمين العام يوم 26/2/2001 عرضا تفصيليا لجوانب تنفيذ العراق لالتزاماته بموجب قرارات مجلس الأمن وعرضا لوقائع إيغال المجلس وبعض أعضائه الدائمين في ممارسة كل أنواع الظلم والعدوان ضد العراق، وطالب الأمم المتحدة بتنفيذ التزاماتها المقابلة من خلال رفع الحصار واحترام سيادة العراق ووقف جميع أشكال التدخل في شؤونه الداخلية وكذلك تعويض العراق عمّا لحق به من أضرار.

 

وسعى ناجي صبري بعد استيزاره لاستئناف الحوار بين العراق والأمانة العامة للأمم المتحدة معتمدا مقاربة أكثر مرونة وواقعية يصعب على الامانة العامة رفضها، وعقد ثلاث جولات بعدة جلسات لكل منها : في نيويورك في 7/3/2002 وفي 1-3/5/2002 ثم في فيينا في 4/7/2002. تقول المقاربة الجديدة : العراق لا يعترض على تنفيذ التزاماته المتبقية في قرارات مجلس الأمن وذلك ضمن أطار الاتفاق على أرضية مشتركة تجمع العراق والامم المتحدة لتنفيذ جميع متطلبات هذه القرارات فيقوم العراق بتنفيذ ما عليه ويقوم مجلس الأمن بتنفيذ ما عليه من التزامات في مقدمتها البدء بتخفيف الحصار باتجاه رفعه كليا واحترام سيادة العراق واستقلاله ووحدة وحرمة اراضيه. وقد شجّع هذا الموقف المرن الامين العام على مواصلة الحوار مما وفر وقتا كافيا للفريق الدبلوماسي والفني العراقي لسبر اغوار موقف لجنة التفتيش (انموفيك) والوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد انقطاع دام حوالي أربع سنوات وللتعرف عن كثب على ادق تفاصيل ما تسجلانه على العراق من نقاط معلقة وما يقف وراءها وما تطلباه من العراق وسبل معالجته.

 

وأعطى ذلك للفريق الدبلوماسي والفني العراقي ميزة وفائدة كبيرة ساعدته على اسقاط الذرائع وغلق الثغرات وسرعة التعامل الحاسم مع فريق التفتيش عندما بدأ مهمته في العراق من جديد يوم 27/11/2002. وكان الوزير ناجي صبري في هذه الأثناء يواصل خطوات تنشيط التعاون مع الأمم المتحدة في بقية الملفات وبالذات في ملف إعادة الأرشيف الكويتي والبحث عن المفقودين وتجاوز الصعوبات في تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء. لكن الحوار مع الأمين العام وصل الى نقطة انعدام المردودات في نهاية جولة فيينا في 4/7/2002 بعد أن أعلن الأمين العام عن فشله في الحصول على أجوبة من مجلس الأمن على أغلب أسئلة الوزير ناجي صبري التسعة عشر التي قدمها في جولة الحوار الأولى المعقودة في 7/3/2002 والتي طلب فيها ضمانات بشأن حيادية ومهنية المفتشين وبشأن التزام مجلس الأمن بتعهداته المقابلة برفع الحصار واحترام أعضاء المجلس، وخصوصا العضوين الدائمين الولايات المتحدة وبريطانيا، لسيادة العراق ووحدة أراضيه وانهاء منطقتي حظر الطيران غير الشرعيتين. ومن بين الأسئلة التسعة عشر كان السؤال الأكثر استقراء لما سيحصل في الأشهر التالية ولم يجب عليه الأمين العام ولا مجلس الأمن هو: (كيف يمكن تطبيع العلاقة بين العراق ومجلس الامن في ظل السياسة الامريكية المعلنة الحالية التي تسعى الى غزو العراق وتغيير نظامه السياسي الوطني بالقوة، وهل تضمن الامم المتحدة ان لا تقوم الولايات المتحدة بالعدوان على العراق في اثناء استمرار عمليات التفتيش). ولقد كان عرض هذه الأسئلة المشروعة والمخاوف التي ثبت صحتها أمام الأمين العام أحد الأسباب التي دعته لإعلان موقفه الصريح بأن الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. وبالمقابل، كان الامين العام يريد وعدا من العراق بالنظر في عودة المفتشين الى العراق لكي يقف بوجه الضغوط الاميركية ويواصل المفاوضات مع العراق، لكن القيادة العراقية لم تكن قد وصلت الى القناعة بعودة المفتشين، لذلك لم يعلن الامين العام عن انتهاء المفاوضات لكنه لم يتفق مع الوزير على موعد جديد مما يعني انه لن تكون هناك جولة رابعة. وجاءت سفرة الوزير ناجي صبري الى موسكو ثم الى الأمم المتحدة في ايلول 2002 لتضع النقاط على الحروف. وخلال محادثاته مع الوزير إيفانوف في موسكو أخذ تعهدا من القيادة الروسية بعدم السماح بتمرير أي قرار من مجلس الأمن يخول الولايات المتحدة استخدام القوة ضد العراق إذا تعاون العراق مع فرق التفتيش.

 

ومن موسكو انطلق الى نيويورك. وحال وصوله إليها بدأ اجتماعات مكثفة مع وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن وحركة عدم الانحياز والمجموعة العربية والدول المعنية الأخرى، وكان يعرض عليهم الحقائق فيما يتعلق بتنفيذ العراق لالتزاماته بموجب قرارات مجلس الأمن ويطلب منهم ممارسة نفوذهم لحمل مجلس الأمن على التعامل مع العراق بعدل وإنصاف وعلى أساس تنفيذ الالتزامات المتقابلة للطرفين. وفي نيويورك وصلته معلومات مؤكدة بأن وزير الخارجية الاميركي كولن باول ومجموعة من المستشارين الاميركيين والبريطانيين قد بدأوا العمل في صياغة مشروع قرار جديد تنوي الولايات المتحدة وبريطانيا تقديمه الى مجلس الأمن حول موضوع التفتيش يقدم للعراق إنذارا شديدا ومهينا ويفرض عليه مهلا زمنية قصيرة وشروطا يصعب قبولها وذلك لإجازة الحرب على العراق بدون الرجوع ثانية لمجلس الامن مما يضفي الشرعية الدولية تلقائيا على مخطط الغزو الاميركي البريطاني، فأبرق من نيويورك الى الرئيس صدام حسين طالبا موافقته على اعادة المفتشين بدون ابطاء لقطع الطريق على المسعى الاميركي البريطاني.

 

وقد اقتنع الرئيس صدام حسين برأي الوزير ناجي صبري ووافق على طلبه السريع، فباشر الوزير بلقاءات مكثفة مع الأمين العام للأمم المتحدة بمشاركة الأمين العام لجامعة الدول العربية للاتفاق على صيغة لعودة المفتشين في إطار السعي لضمان الاستجابة لمطالب العراق المشروعة، وأعد رسالة بهذا المعنى وجهها الى الأمين العام مساء يوم 16/9/2002 تعلن سماح العراق بعودة المفتشين كخطوة اولى نحو حل شامل يتضمن رفع الحصار الشامل عن العراق واحترام أمنه الوطني وتنفيذ بقية متطلبات قرارات مجلس الأمن. وقام الأمين العام بإبلاغ الإعلام بهذه الرسالة ونقل نصها الى مجلس الأمن. وكانت تلك الرسالة نقطة تحول كبرى لإجهاض مخطط أمريكا لغزو العراق تحت غطاء (الشرعية الدولية)، خاصة وأنها أتت بعد أربعة أيام من كلمة بوش في الأمم المتحدة التي أعلن فيها تفاصيل المشروع الأمريكي لتغيير النظام السياسي في العراق. وقد شرحت صحيفة غرين ليفت (اليسار الأخضر) الأسترالية في مقال تحليلي مفصل يوم 25/9/2002 ابعاد قرار العراق عودة المفتشين وتأثيره البالغ في احباط الاستعدادات الأمريكية البريطانية لإصدار قرار يجيز الحرب على العراق باسم الامم المتحدة قائلة: (ان قرار العراق المفاجأة بقبول عودة مفتشي الامم المتحدة كان آخر ما يريده الرئيس الاميركي جورج بوش. فقد جرد القرار ادارته من ذريعة اساسية للمشروع الاميركي لغزو العراق، وشتت التحرك العراقي جهد واشنطن لإلباس الهجوم الذي تهدد بشنه على العراق بلبوس تحرك متعدد الاطراف (اي حرب باسم الامم المتحدة).

 

وقالت الصحيفة إن مشروع القرار الامريكي البريطاني قد صيغ على نحو مقصود لاستفزاز العراق ودفعه لرفض مطالب المجلس مما يتيح المجال للولايات المتحدة وبريطانيا شن الحرب باسم الامم المتحدة على العراق، حيث كان يتضمن شروطا شديدة الاذلال للعراق والانتهاك لسيادته الوطنية وعلى نحو يستحيل قبوله من جانب الحكومة العراقية. وقد زلزل التحرك الدبلوماسي العراقي السريع والفعال أركان الإدارة الأمريكية، فرفض البيت الابيض قرار العراق بالسماح بعودة مفتشي الاسلحة التابعين للأمم المتحدة وشنّ هجوما على الوزير ناجي صبري واتهمه بالكذب والخداع والتزوير. وأعلن جورج بوش نفسه رفضه للقرار. وأصدر السكرتير الصحفي للبيت الأبيض بيانا قال فيه ان إعلان الوزير ناجي صبري عن قبول عودة مفتشي الامم المتحدة بدون شروط هو خدعة، وإنه يعني في الحقيقة أن العراق سيضع عراقيل في وجه المفتشين ويفرض عليهم شروطه، وانه محاولة للالتفاف على قرارات مجلس الامن. وفي يوم 19/9/2002 ألقى الوزير ناجي صبري كلمة العراق امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحدث فيها عن اتفاقه مع الامين العام على اعادة المفتشين في إطار السعي لتنفيذ العراق والامم المتحدة التزاماتهما التي تضمن للعراق احترام سيادته وامنه الوطني واستقلاله وحرمة اراضيه وترفع عن شعبه الحصار الظالم. ونقل في كلمته رسالة من الرئيس صدام حسين تضمنت عرضا لجوانب الازمة في علاقة الامم المتحدة بالعراق نتيجة هيمنة الولايات المتحدة على مجلس الامن، وأوضح اسباب استهداف أمريكا للعراق قائلا (تريد الولايات المتحدة أن تدمر العراق من أجل أن تسيطر على نفط الشرق الأوسط وبالتالي تسيطر على سياسة العالم كله) وأعلن الرئيس صدام حسين عدم امتلاك العراق أسلحة محظورة بقوله (ها أنا ذا أعلن أمامكم أن العراق خال تماما من جميع الأسلحة النووية والكيمياوية والبيولوجية، وإذا كان أحد بينكم لا يزال يشعر بالقلق من احتمال أن تكون الاختلافات التي يعلنها المسؤولون الأمريكيون عن العراق صحيحة، فبلدنا على استعداد لاستقبال من تختارونهم لتمثيل أي من بلدانكم من الخبراء العلميين ومن يصحبهم من السياسيين ليخبرونا بالأماكن والمنشآت العلمية والصناعية التي يرغبون في رؤيتها، ولاسيما تلك التي اختلق المسؤولون الأمريكيون القصص الكاذبة عنها). وبعد الخطاب رد الناطق باسم البيت الابيض اري فلايشر بتصريح غاضب قال فيه: (إن قول العراق انه لا يملك اسلحة نووية او كيمياوية او جرثومية هو كلام كاذب برمته). وظهرت في اليوم التالي صحيفة (نيويورك بوست) مخصصة صحفتها الأولى لصورة كبيرة للوزير ناجي صبري وقد امتد أنفه تشبيها له بالطفل الكذاب "بينوكيو" في قصة الروائي الإيطالي "كونومري"، وتحت الصورة كتبت ثلاث كلمات بالخط العريض هي (كذاب.. كذّاب.. كذاب). وتوالت الحملات على الوزير ناجي صبري لأنه بزيارته هذه إلى نيويورك أصاب من الإدارة الأمريكية مقتلاً.

 

والجدير بالذكر أن الأمريكان حاولوا إجهاض مهمة الوزير ناجي صبري في نيويورك بوسائل عديدة منها استفزازه في مطار موسكو من قبل رجال الأمن الأمريكان الذين يفتشون الركاب والحقائب المتجهة الى أمريكا ومنها إحاطة الوفد العراقي في نيويورك بعدد هائل من رجال المخابرات الأمريكية يتربصون بهم ويستفزوهم ويغرونهم بالعمالة، ومنها إرسالهم وزير خارجية إحدى الدول ليسدي النصيحة للوزير ناجي صبري بقوله (لا توافقوا على عودة المفتشين بدون ثمن، والأفضل أن تصعدوا الأزمة حتى تحصلوا على ثمن مقابل عودة المفتشين)، وكان الوزير ناجي صبري يستمع اليه ويضحك في سرّه فقد كانت اللعبة الأمريكية مكشوفة أمامه : إنهم يدفعون العراق للتزمّت ليسهل لهم تنفيذ مآربهم العدوانية. وخلال سفرة نيويورك، ومن أجل إلقاء الحجة على الجميع، وجه الدكتور ناجي صبري أن نلتقي أنا واللواء المهندس حسام محمد أمين مع مندوب بريطانيا الدائم في الأمم المتحدة السير جيريمي غرينستوك. وعقد اللقاء في مقر البعثة البريطانية في الأمم المتحدة يوم 20/9/2002 وفيه نقل لنا السفير غرينستوك تعليمات بلير وجوهرها إن بريطانيا ترحب بقرار العراق عودة المفتشين وتريد منه تعاونا كاملا معهم وأنها لا تريد غير نزع أسلحة العراق المحظورة وتعارض سياسة (تغيير النظام) الأمريكية وتسعى لإقناع أمريكا بالتخلي عن هذه السياسة. (اتضح فيما بعد أن بلير كان يكذب حتى على سفرائه فلقد كان قد اتفق مع بوش قبل هذا التاريخ على سياسة تغيير النظام في العراق كما كشفت ذلك شهادات لجنة تشيلكوت). وبعد عودته من نيويورك عمل الوزير ناجي صبري على تهيئة مستلزمات عودة المفتشين واتفق يوم 1/10/2002 مع لجنة (الأنموفيك) والوكالة الدولية للطاقة الذرية على ترتيبات عودة المفتشين، وكان في هذه الأثناء يواصل خطوات نشيط التعاون مع الأمم المتحدة في بقية الملفات وبالذات في ملف إعادة الأرشيف الكويتي والبحث عن المفقودين وتجاوز الصعوبات في تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء.

 

وما أن شعر الأمريكان أن مخططهم لغزو العراق تحت غطاء الأمم المتحدة أصبح مهددا، حتى أعلنوا أن عودة المفتشين يجب أن يسبقها قرار من مجلس الأمن يضع شروطا إضافية على العراق، وقدموا مشروع قرار الى مجلس الأمن تضمن صلاحيات تدخّلية هائلة للمفتشين ومطالب تعجيزية من العراق كما تضمن فقرة تقول إن عدم تعاون من العراق مع المفتشين أو إغفاله تقديم بيانات كاملة وشاملة ودقيقة ووافيه أو امتناعه عن الامتثال لمطالب المفتشين سوف يؤدي الى الإطلاق الآلي للتخويل الوارد في القرار 678 (1990) باستخدام القوة ضد العراق. وهنا بدأت معركة دبلوماسية كبرى قادها الوزير ناجي صبري باقتدار، فقد كثف اتصالاته بنظرائه الروسي والفرنسي والصيني وببقية أعضاء مجلس الأمن من خلال سفرائهم في بغداد لتنبيههم الى أن مشروع القرار هذا هدفه إعطاء أمريكا صكا دوليا على بياض لغزو العراق تحت أية ذريعة مهما كانت متهافتة، مثل إهمال تقديم معلومة أو ادعاء مفتش أن الجانب العراقي منعه من أداء مهماته. واستمرت هذه الاتصالات والمشاورات لأسابيع نجح العراق في نهايتها في أن يصدر القرار 1441 في 8/11/2002 بدون (الآلية التلقائية لاستخدام القوة) وبتخفيف بعض الإجراءات والشروط التعسفية المطلوبة من العراق رغم أن الكثير منها بقي في نص القرار مثل الادعاء بعدم تعاون العراق في السابق ومنح المفتشين صلاحيات تدخليه واسعة وإجراءات تعجيزية على العراق تنفيذها من بينها ما يسمى بإثبات النفي، اي إثبات عدم حيازته على أسلحة وبرامج محظورة. وبعد صدور القرار بدأت أمريكا تخطط لخلق مشاكل في التنفيذ تقود إلى إقرار مجلس الأمن بعدم تعاون العراق وبما يقود الى إصدار قرار جديد باستخدام القوة.

 

وهنا أيضا بدأت معركة جديدة، وعمل الوزير ناجي صبري بالتعاون مع الفريق عامر السعدي واللواء حسام محمد أمين على الاستجابة السريعة لمتطلبات القرار 1441 وفي مقدمتها تقديم التقرير الشامل والنهائي عن برامج العراق السابقة خلال أقل من شهر، واستقبل الوزير ناجي صبري رئيسا لجنة التفتيش (أنموفيك) والوكالة الدولية للطاقة الذرية (بليكس والبرادعي) في بغداد يوم 18/11/2002 وكان جوهر حديثه معهما أن يعملا بمهنية واستقلالية بعيدا عن الأجندة الأمريكية وأن لا يتعسفا في تفسير صلاحيتهما بموجب القرار 1441 ووعدهما بإن يقدم الجانب العراقي كل التعاون الممكن لإنجاز مهمتهما. وبدأ المفتشون أعمالهم في العراق يوم 27/11/2002، وفي يوم 7/12/2002 قدّم العراق التقرير الشامل والنهائي المتضمن جميع ما يتعلق ببرامجه السابقة وبأكثر من عشرين ألف صفحة. وواصل الوزير ناجي صبري الإشراف اليومي على العلاقة مع الأنمونيك والوكالة الدولية للطاقة الذرية واستقبل البرادعي وبليكس في زيارتين تاليتين في 19-20 كانون الثاني 2003 وفي 8 - 9 شباط 2003. وقد أثمرت هذه الجهود المترافقة مع جهود الفنيين العراقيين بإشراف الفريق عامر السعدي واللواء حسام محمد أمين عن تجاوز عقبات ومشاكل كثيرة.

 

ورغم خضوع بليكس والبرادعي لإملاءات أمريكا وسعيهما للتقليل من قيمة إعلانات العراق ومن تعاون الجانب العراقي معهما ورفضهما إقرار حقيقة خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل ومعداتها، إلاّ أنهما لم يستطيعا في النهاية إخفاء حقيقة أن مسحهم الميداني للعراق من شماله الى جنوبه وبأحدث أجهزة الكشف لم يستطع أن يقدم دليلا واحدا على وجود أسلحة أو برامج محظورة وأن الجانب العراقي لم يضع عراقيل أمام مفتشيهم. وقد تزامن التعاون الكامل مع فرق التفتيش مع تعاون كامل مع جميع أجهزة الأمم المتحدة الأخرى. ففي مجال حقوق الإنسان وجهت الخارجية العراقية الدعوة الى مقرر حقوق الإنسان الخاص بالعراق السيد "مافروماتيس" لزيارة بغداد وأجرت معه حوارا معمقا وأطلعته على وضع حقوق الإنسان في العراق وكيف أن الحصار هو الانتهاك الحقيقي لحقوق الإنسان في العراق، وقدم مافروماتيس تقريرا الى الأمم المتحدة طالب فيه أن تكون انتهاكات الحصار لحقوق الإنسان ضمن ولايته، وكان ذلك انتصارا كبيرا للعراق. كما جرى تنشيط التعاون مع رئيس لجنة المفقودين والممتلكات الكويتية السيد فورنتسوف وجرى الاتفاق معه على مجموعة إجراءات لإحراز التقدم في هذا الملف وانعكس هذا التعاون في تقاريره الى مجلس الأمن. وكثفت الخارجية من تعاونها مع الصليب الأحمر حول موضوع المفقودين العراقيين والكويتيين، كذلك جرى تعزيز التعاون مع فريق مراقبي الأمم المتحدة بين العراق والكويت (اليونيكوم) وأشاد الفريق بتعاون العراق وأكّد في تقاريره أن الخرق الوحيد للمنطقة منزوعة السلاح يأتي من جهة الكويت من خلال طائرات مجهولة الهوية تخرق أجواء العراق يوميا (المقصود طلعات الطائرات الأمريكية والبريطانية ضمن منطقة حظر الطيران غير الشرعية)، ونفس التعاون أبداه العراق مع ممثلي برنامج النفط والغذاء ومع لجنة التعويضات، وهذا جعل من الصعب على الولايات المتحدة ادعاء نقيض هذا التعاون الجلي. وترافق هذا التعاون مع الأمم المتحدة مع سياسة الانفتاح التي عمل عليها الوزير ناجي صبري مع الدول العربية ودول المنطقة وبقية دول العالم لوضع زمام المبادرة بيد الدبلوماسية العراقية.

 

وأعطى لتطوير العلاقة مع الدول العربية اهتماما كبيرا، وسعى للتواصل مع الأشقاء العرب وتقديم المعلومات والوقائع لهم لمواجهة الحملة السياسية والدبلوماسية الأمريكية الظالمة، وزار العديد من البلدان العربية واستطاع تحقيق خرق دبلوماسي تمثل بزيارة نائب رئيس الجمهورية السيد عزت الدوري لعدد من دول الخليج، وهي أول زيارة على هذا المستوى لدول الخليج منذ عام 1990، كما ساهم في تضمين البيانات الوزارية والرئاسية العربية مواقف تدعم العراق في معركته العادلة، ومن بين ذلك إعلان قمة بيروت (2002) الذي حسم موقف القمة العربية الى جانب العراق في مواجهة التهديدات الاميركية، وكانت آخر إنجازاته المشاركة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الطارئ بعد أربعة ايام من الغزو الأمريكي للعراق ونجاحه في أن يصدر المؤتمر أقوى إدانة لهذا الغزو واعتبره عدوانا وانتهاكا لميثاق الأمم المتحدة ولمبادئ القانون الدولي وخروجا على الشرعية الدولية وتهديدا للسلم والأمن الدوليين وتحديا للمجتمع الدولي وللرأي العام العالمي. لقد حرم هذا التحرك الولايات المتحدة من التأييد العربي الرسمي الذي كانت تعول عليه، وفشلت امريكا في تحقيق ولو عشر معشار ما استطاعت تحقيقه عام 1990. أما على المستوى الإقليمي والدولي، فكانت الدبلوماسية العراقية في قمة نشاطها وتواصلت زيارات الوزير ناجي صبري الى عواصم عديدة: من طهران الى بكين الى مقر الاتحاد الأوربي في بروكسل، وأثمرت عن تحقيق انفراج في علاقات العراق الخارجية وكسر العزلة الدولية التي كانت الولايات المتحدة تسعى لتشديدها على العراق. وإزاء هذه الانتصارات التي حققتها الدبلوماسية العراقية اضطرت امريكا إلى التخلي عن البحث عن غطاء أممي لغزوها، وكشفت عن اهدافها العدوانية وطلبت من جميع موظفي الأمم المتحدة في العراق، بضمنهم فرق التفتيش وفريق مراقبة المنطقة منزوعة السلاح بين العراق والكويت، مغادرة العراق وغادروه يوم 18/3/2003 وبذات غزوها للعراق بعد ذلك بيومين في عدوان صريح وانتهاك فاضح للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

 

لقد نجحت الخارجية العراقية بقيادة الوزير ناجي صبري في منع الولايات المتحدة من استخدام مجلس الأمن غطاء يعطي الشرعية لغزوها واحتلالها للعراق، وكانت تلك الخطوة الأولى الأساسية والقاعدة التي استندت عليها المقاومة العراقية في جهادها لهزيمة المحتل الأمريكي في العراق وهزيمة مشروعه في المنطقة وهزيمة نظام القطب الواحد برمّته. لقد حلّ الوزير ناجي صبري عقدة مستعصية كانت تعاني منها الدبلوماسية العراقية. عقدة سببها مزيج من مبدأيه مثالية وإيمان بالحق المطلق وخشية من ثلم العزة والكرامة وشجاعة تقترب أحيانا من التهور ونزعة مفرطة في قبول التحديات أياً كان مصدرها ومكانها وشكلها وزمانها. لقد استخدم الأمريكان وغيرهم هذه العقدة أو الثغرة في عمل العراق السياسي والدبلوماسي سنين طويلة للإيقاع بالعراق، لذا لا نستغرب أن يبلغ حقد الأمريكان على الوزير ناجي صبري مداه لأنه تجاوز العقدة وفهم اللعبة وانتصر بدبلوماسيته المبنية على الحق والصراحة والاقتحام المدروس على الدبلوماسية الأمريكية العدوانية الغاشمة. للوزير ناجي صبري كل الحق أن يفخر بحصته الكبيرة في هزيمة أمريكا ونظامها الدولي وانهيار إمبراطوريتها وغروب قرنها الحادي العشرين قبل بزوغه، وعليه أن يتوقع من أمريكا وعملاء أمريكا المزيد من استهدافه والسعي لتشويه صورته.

 

والله المستعان

 

الخميس١٧ محرم ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٣ / كانون الاول / ٢٠١٠م

 






الاربعاء ١٦ شعبــان ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / أذار / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب بقلم: السفير سعيد الموسوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة