بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

بعض ما ينبغي أن يُقال!
ملاحظات في موضوع " الجبهة الوطنيَّة والقوميَّة الإسلاميَّة "
( الحلقة الثالثة )

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

 

(1)

شهدت الطرق إلى دمشق تحوُّلات جوهريَّة تركت بصماتها على مسار التاريخ وتفاعلاته. من أشهر تلك التحولات، الرواية التي تقدِّمها لنا الأدبيَّات المسيحيَّة عن تجربة "بولس الرسول" أحد أهمِّ أعمدة الفكر المسيحي، إن لم يكن المهندس الأوَّل لأسس الديانَّة المسيحيَّة، وأهم مَن وقفوا وراء انتشارها.

بولس الإغريقي الأصل من مواليد مدينة تسالونيكي، كان ضابطًا وجاسوسًا رومانيًّا أنيطت به مهمَّة التغلغل في صفوف المتمرِّدين على سلطة الدولة الرومانيَّة في فلسطين ومحاولة شقِّها، ومهمَّة ملاحقة خلايا المنتمين إلى الدين الجديد لاحقًا، ولا سيَّما في مدينة دمشق  من أجل القضاء عليها.

تورد الأدبيَّات قصَّة "خروج بولس" إلى دمشق لتحريض حاكمها على المسيحيِّين الهاربين من بطش السلطات الرومانيَّة المحتلَّة فلسطين، ثمَّ تراجعه عن مهمَّته قبل الوصول إلى دمشق، وتحوُّله إلى أحد أهمِّ مصادر القوَّة المسيحيَّة حينذاك. فما الذي حدث؟

وفقًا للرواية، قبل وصول بولس إلى دمشق، فوجىء بنورٍ ساطع منطلق من السماء أعشى بصره مؤقَّتَا، وسمع صوتًا هادرًا يسأله: "لماذا تضطهد شعبي؟" هذه الحادثة أحدثت تحوُّلاً فوريًّا وجذريًّا في موقف بولس ليتحوَّل من جاسوس لسلطة قوَّة محتلَّة، وجلاَّد أتباع الدين الجديد إلى أحد أقوى المبشِّرين به.

من المؤسف أنَّ الطرق إلى دمشق لم تشهد تحوًّلاً جذريًّا في موقف نفرٍ من العراقيِّين ممَّن سبق وتعاونوا مع القوى المحتلَّة للعراق، التي حاصرت شعبنا ودمَّرت مؤسَّساته وصادرت سيادته.  لم يتحوَّل هؤلاء النفر من المتوجِّهين إلى دمشق لحضور ما أطلق عليه "اجتماع القوى المناهضة للاحتلال"، من عملاء قوَّة محتلَّة إلى مناصرين لشعبهم الضحيَّة.

 (2)

تناول القسم الثاني من هذه المساهمة دوافع إطلاق المبادرات، وتشكيل التجمُّعات السياسيَّة التي سعت وما تزال مصرَّة على طرح نفسها بديلاً من فصائل المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة، أو جناحًا سياسيًّا وجهازًا إعلاميًّا لها دون توفُّر شروط الأهليَّة التمثيليَّة لهم ومقوماتها، ودون أن يكلَّفوا بهذه المهمَّة من قيادة المقاومة. وكنَّا قدَّمنا عرضًا موجزًا لبعض محاولات الالتفاف على المقاومة التي انطلقت من ندوة بيروت 2005، وانتهت بتأسيس "التجمَّع العراقي للتحرير والبناء" في بيروت أيضًا، في حزيران المنصرم. والإعلان عن الهيكل التنظيمي والبرنامج السياسي للتجمُّع.

لن نثقل على القارئ بتفاصيل البيان الختامي للتجمُّع ومفردات برنامجه السياسي، لكنَّنا سنثبِّت بعض الملاحظات السريعة على أهمِّ ما ورد  فيها، على أن نعود لتحليل فقراته وأبعاده بشكل مفصَّل لاحقًا إذا اقتضت الضرورة.

الملفت في البرنامج السياسي، والتشكيل التنظيمي للتجمُّع يعكسان في شكل واضح ما تضمَّنته  مسوَّدة تجمُّع بيروت عام 2005 روحًا ونصًّا، ويستند على مبادرة خير الدين حسيب، وفكرة "الكتلة التاريخيَّة" التي بشَّر بها كحلٍّ لمعاناة الأمَّة العربيَّة، وآليَّة لتحقيق أهدافها وطموحاتها. ما يهمُّنا في البرنامج السياسي، الفقرات المتعلِّقة بأهداف التجمُّع والموقف من المقاومة. وكذلك تلك التي تُطرح، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن "التجمُّع"، ومَن سيتحالف معه كمرجعيَّة وطنيَّة موازية المقاومة مستقبلاً، أو كشريكٍ لها في حقوق المرجعيَّة الوطنيَّة!

يعرِّف البرنامج السياسي "التجمُّع" كـ: "أداة سياسيَّة لإبراز مشروع وطني يعمل على تحقيق أهدافه. وتقديم البدائل الجديدة في ميادين النضال."

تحمل العبارتان للوهلة الأولى قدرًا كبيرًا من البراءة. فتشكيل تجمُّع سياسي لا سيَّما إذا تبنَّى خطابًا وطنيًّا، ورفع شعارات تأييد المقاومة ودعمها يبدو أمرًا لا ضير فيه ولا اعتراض عليه. لكن عنصر البراءة سرعان ما يختفي إذا ما تمَّ ربط ألهدف من تشكيل "التجمَّع" بموقفه من المقاومة الوطنيَّة أوَّلاً، وعزمه على تأسيس مرجعيَّة وطنيَّة موازية، لا بل بديلة من مرجعيَّة المقاومة.

يعالج البيان السياسي للتجمُّع الموقف من المقاومة ومشروعيَّتها بشكل متناقض. فمن تضمين البيان فقرات نصت على "تأييد المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة ودعمها، واعتبارها حقًّا مشروعًا كفلته الأعراف السماويَّة والمواثيق الدوليَّة، وهذا موقف عام اتَّخذه الكثير من التنظيمات السياسيَّة العربيَّة والدوليَّة، إلى تجنُّب البيان الاعتراف بالمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة كممثِّل شرعيٍّ وحيد لشعب العراق خلال هذه المرحلة . وهذه إحدى أهمِّ نقاط الاختلاف مع أصحاب هذا المشروع منذ انطلاق مسيرته في بيروت عام 2005.

لماذا يرفض عرَّابو "التجمُّع العراقي للتحرير والبناء" وغيرهم الاعتراف بهذا الشعار الصائب والضرورة؟ جماعة ندوة بيروت لم يقدِّموا، على حدِّ علمي، تحليلاً نظريًّا مدوَّنًا لرفضهم الاعتراف بالشعار، والالتزام به كثابت وطني مهم. لكن من خلال حوارنا المباشر مع شخصيَّات لعبت دورًا في تأسيس هذا التجمُّع، وأرست منطلقاته النظريَّة، علمنا بأنَّ هنالك تحفُّظات من بعضٍ على قبول هذا الثابت الوطني والالتزام به لكونه شعارًا بعثيًّا يعبِّر عن الرغبة في احتكار العمل السياسي المناهض للاحتلال، والهيمنة على المقاومة وإنجازاتها، لا بل يعكس نوايا بعثيَّة في السيطرة على  أجهزة الدولة ومؤسَّسات المجتمع والانفراد بالسلطة بعد التحرير؟!

هذا الاستنتاج لا يشكِّل طرحًا ساذجًا فحسب، بل إنَّه لا يمتُّ للحقيقة بصلة، ولا يستند على أدلَّة وشواهد ووثائق. ويعكس قصورًا في فهم الموقف المُعلن لحزب البعث العربي الاشتراكي، وعجزًا عن تجاوز عقد التجارب السياسيَّة السابقة. والحقيقة أنَّنا نستغرب من صدور مثل هذه التبريرات  الساذجة عن شخصيَّات ذات تجربة سياسيَّة طويلة.

إنَّ التفسير المنطقي لعدم اعتراف هؤلاء بالمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة ممثِّلاً شرعيًّا ووحيدًا لشعب العراق، يكمن في أنَّ  تبنَّي هذا الشعار كثابت وطني والالتزام به يُغلق أبواب الفرص السياسيَّة والماليَّة أمامهم. فالاعتراف بهذا الثابت، يلغي شعار المقاومتين المسلَّحة والسياسيَّة المنحرف، وينهي جهود آخرين في طرح أنفسهم كتنظيم سياسي موازٍ أو بديل من المقاومة، وبالتالي المطالبة باستحقاقات سياسيَّة بعد التحرير.

هنا لا بد من تثبيت حقيقتين جديرتين بالملاحظة. الأولى أنَّ هذا الثابت الوطني لم يقِّدمه حزب البعث الاشتراكي والكتَّاب المحسوبون على نهجه حصرًا، بل طالبت به ودافعت عنه جميع الشخصيَّات والحركات السياسيَّة المؤمنه بالمقاومة وجدواها كخيار وحيد لتحرير الوطن. والحقيقة الثانية، أنَّ هذا الثابت لم يطرحه أو يطالب به  فصيل مقاوم واحد لغاية تاريخ نشر هذه المساهمة. 

الجانب المقلق الآخر في بيان "التجمُّع العراقي للبناء والتحرير" وخطط عرَّابيه، يكمن في تقديم "التجمَّع" كمرجعيَّة وطنيَّة أو جزء من مرجعيَّة وطنيَّة. وتشر فقرات البيان الختامي إلى ذلك بصورة جليَّة. وقد كشف الأمين العام للتجمَّع في أكثر من لقاء إعلامي عن عزمهم على تشكيل مرجعيَّة وطنيَّة، أو "مرجعيَّة وطنيَّة لا تستثني أحدً"! 

لا جدال أن في وسع إيِّ تشكيل سياسي أو مجموعة من الأشخاص تقديم أنفسهم كمرجعيَّة وطنيَّة. فما أكثر المرجعيَّات في زمن الاحتلال! لكن من الواضح أنَّ هنالك بونًا شاسعًا بين الرغبات والمحاولات، وبين امتلاك مقوِّمات المرجعيَّة الوطنيَّة.

إنَّ قضيَّة المرجعيَّة الوطنيَّة العراقيَّة مسالة محسومة. مَن يملك مقوِّمات المرجعيَّة الوطنيَّة خلال هذه المرحلة، هي فصائل المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة حصرًا. هذا المسلَّمة ليست طرحًا عاطفيًّا منطلقًا من حبٍّ للمقاومة وانحياز لها، ولا من موقف شخصيٍّ من العناصر التي تحاول تقديم نفسها كمرجعيَّة، بل طرحًا قائمًا على معايير الشرعيَّة الوطنيَّة.

 في ساحة الصراع العراقيَّة اليوم قوَّتان متناقضتان. هنالك سلطة احتلال وعملاؤها، تقابلها سلطة المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة. سلطة الاحتلال كما هو مسلَّم به، تفتقر إلى مستلزمات الشرعيَّة الوطنيَّة والدوليَّة، ولأسباب غدت معروفة لا جدوى من إعادتها. وحكومة المالكي العميَّلة أسوة بالحكومات العميلة السابقة، تفتقر إلى مقوَّمات الشرعيَّة الوطنيَّة أيَصا للأسباب المعروفة. هذه الحقيقية لا تلغيها نتائج الانتخابات غير الشرعية ومزوَّرة النتائج.

إذًا، مَن يملك الشرعيَّة الوطنيَّة، وبالتالي مقوِّمات المرجعيَّة الوطنيَّة في هذه المرحلة هي المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة. ولا مرجعيَّة غير مرجعيَّة المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة.

هذا الطرح لا يلغي أهميَّة العمل السياسي المناهض للاحتلال ودوره، ولا يقلِّل من أهميَّة مساهمة القوى السياسيَّة غير المصنَّفة كفصائل مقاومة. إلاَّ أنَّ دور تلك الحركات مع أهميَّته يبقى دورًا داعمًا للمقاومة وليس بديلاً منها في أفضل الحالات.

ومن من أكثر الأمور إثارة للاستغراب، هو طرح نفرٍ فكرة حاجة فصائل المقاومة إلى جناح سياسي يمثِّلها! لماذا يفترض هؤلاء عجز المقاتلين عن تقديم قضيَّتهم السياسية مباشرة؟ ويفترض آخرون أنَّ حاملي البندقيَّة يجيدون التعامل بالبندقيَّة فقط، وبالتالي فهم في حاجة إلى وصاية سياسية!

إنَّ نجاح المقاومة العراقيَّة في تعطيل مشروع الهيمنة الأمريكي على العراق والمنطقة، لا يُعزى إلى نجاحاتها العسكريَّة الناجمة عن قدراتهم العسكريَّة، وإلى شجاعة رجال المقاومة ونسائها وتضحياتهم فقط، بل نتيجة لقدرة قيادة المقاومة على فهم أبعاد مشروع الاحتلال سياسيًّا، والتعامل معه استراتيجيًّا. لقد برهنت تجربة المرحلة المنصرمة بكلِّ انتصاراتها ومرارتها والآمها على تقدُّم فصائل المقاومة سياسيًّا، وعجز الآخرين بمن فيهم سلطة الاحتلال على الحاق بها. وإذا ارتأت فصائل المقاومة بأنَّ ثمَّة ضرورة  لتشكيل جناح أو مكتب سياسيٍّ أو إعلاميٍّ يمثَّلها، فهي قادرة على تكليف مَن ترى فيهم القدرة والآهليَّة والصدق والإخلاص للقيام بهذه المهمة.

(3)

إثر إكمال الحلقة الثانية من مشروع "ندوة بيروت" بتاسيس "التجمَّع العراقي للتحرير والبناء"، كان لا بدَّ من التحرُّك  نحو تسويق "التجمَّع" حتَّى يتمكَّن من لعب الدور المامول.  

إشكاليَّة "التجمُّع" تتلخَّص في كونه يتألَّف من شخصيَّات لا تمتلك رصيدًا شعبيًّا داخليًّا، ولا تحظى برضى قيادات فصائل المقاومة وقواعدها. فكان لا بدَّ من مدِّ الجسور مع بعض الحركات السياسيَّة، وتوظيف شخصيَّات دينيَّة معروفة في مناهضتها للعمليَّة السياسيَّة تحت ستار: "بناء جبهة مرجعيَّة وطنيَّة لا ستثني أحدًا"!

من المؤكَّد أنَّ جماعة "ندوة بيروت"، حاولوا جذب شخصيَّات دينيَّة معيَّنة إلى برنامهم قبل الإعلان عن تاسيس التجمُّع العراقي في الثاني من حزيران المنصرم، إلاَّ أنَّهم فشلوا في تحقيق ذلك. لقد أصدرت "المجموعة"  في بداية شهر آذار المنصرم مشروعًا جديدًا قائمًا على نقاط مقتبسة من مبادرة خير الدين حسيب وذيَّلتها باسماء عدد من الشخصيات المعروفية بينهم  شخصيَّتين دينيَّتن معروفتين، أكد أحدهم  لكاتب هذه السطور بأنَّ اسمه قد أدرج بشكل ملتوٍ، حبث انه سبق وأنَّ  أبدى تحفُّظات على مسوَّدة المشروع، واشترط تعديله قبل الموافقة عليه. إلاَّ أنَّه فوجئ بنشر المسوَّدة الأوَّليَّة مذيَّله بتوقيعه دون التعديلات المقترحة. وأكَّدت الشخصيَّة الأخرى في مكالمة هاتفيَّة مع إحدى الشخصيَّات الوطنيَّة المعروفة، وبحضور كاتب السطور، عدم موافقته على المشروع، وأنَّه قد استُدرج بشكل غير سويٍّ.

مساعي مدِّ الجسور وتوظيف أسماء معروقة، رافقتها جهود حثيثة لتخريب تحالف جبهويٍّ قائم منذ عام 2005 بين حزب البعث العربي الاشتراكي والتحالف الوطني العراق، وتنظيمات سياسيَّة أخرى متواجدة فعليًّا داخل القطر. وهناك مساع بذلت لإزالة عوائق أخرى، كإبعاد كلِّ مَن يشكِّل تحدِّيًا إمام تنفيذ مشروع "ندوة بيروت" ومن يقف وراءها تحديدًا.

 أوَّل نتاج الجهد التخريبي، بانت ملامحه في الإعلان عن انبثاق "الجبهة الوطنيَّة والقوميَّة والإسلاميَّة" في مطلع شهر تمُّوز المنصرم، والاعلان عن تشكيل ما أطلق عليه "المكتب السياسي للمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة".

إعادة إعلان قيام الجبهة أثار استغراب الكثيرين، ولا سيَّما المطَّلعين منهم على تاريخ الجبهة المشكَّلة منذ أيَّار/مايس 2005، التي صدر عنها وعن ناطقها الرسمي المخوَّل، المناضل عبد الجبَّار سليمان الكبيسي أكثرمن بيان وتصريح.

لماذا الإعلان عن انبثاق جبهة" مشكلة منذ اكثرعامين ؟ من دون سرد تفاصيل قد يستثمرها أعداء العراق والمقاومة لخدمة أغراضهم الدنيئة. لا يمكن تفسير هذا الإعلان بسوى انقلاب مدبَّر على "الجبهة" وتحديد محاولة خائبة لإبعاد التحالف الوطني العراقي والقوى الأخرى المشاركة  في  الجبهة تنفيذًا لإملاءات قوى إقليميَّة، ولكسب رضى عناصر دخيلة، ولفسح المجال أمام عناصر انتهازيَّة للتسلُّل إلى صدارة العمل السياسي والإعلامي المناصر للمقاومة وقيادته، أو تلبية لحسابات غير مشخصة من قبلنا .

هذا التصرُُّف الخاطئ ولَّد إرباكًا يتحمَّل مسؤوليَّته الكاملة، إلى جانب جماعة "ندوة بيروت"، شخصيَّات أخرى لا نشكُّ في حرصها على قضيَّتنا الوطنيَّة وللمقاومة وإخلاصها لها. لكنَّنا نتحفَّظ على قدرتها في إدارة العمل السياسي المعقَّد خلال هذه المرحلة العصيبة بسبب نقص الخبرة والضغوط التي تتعرَّض لها بسبب مواقع إقامتها.

الاعلان عن انبثاق "الجبهة" وتشكيل ما أُطلق عليه "المكتب السياسي للمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة"، وما تلاه من تصريحات لأعضاء "المكتب"، عكست بدون أدنى شكِّ نصَّ مبادرة حسيب وخطتَّه وروحها، وعزم مجموعته على "التفاوض مع الأمريكان ودعوتهم  للجلوس معهم لإيجاد مخرج لمغادرة قوَّاتهم العراق." كما صرَّح السيِّد فاضل الربيعي، "الناطق الرسمي" باسم المكتب السياسي لصحيفة الشرق الاوسط  قبل أربعة أسابيع.

قد يكون من الضروري أن نثبت هنا بعض النقاط تجنُّبًا لإرباك القارئ، وتقديم موقفنا من موضوع تشكيل المكتب السياسي  للمقاومة الوطنيَّة وأهمَّيَّته.

لسنا ضدَّ فكرة إنشاء المكتب السياسي والإعلامي للمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة. على العكس من ذلك تمامًا، نحن نرى فيها ضرورة وطنيَّة لا بدَّ من تلبيتها في الوقت الذي تراه قيادة المقاومة مناسبًّا. لكن تشكيل "المكتب" والإعلان عنه لا يمثِّل إنجازًا بحدِّ ذاته ما لم تتوفَّر فيه عناصر النجاح ومقوِّماته. لضمان نجاح المشروع وعدم إثقال قيادة المقاومة في أعباء إضافيَّة، لا بدَّ من أن يتمَّ  تشكيل "المكتب" على أسس واضحة وسليمة. ولا بدَّ من أن يستند على معايير وطنيَّة وأخلاقيَّة صلبه. والأهم،  لا بدَّ من إدارته من عناصر وطنيَّة ذي سمات خاصَّة ومحدَّدة.

يحمل تشكيل "المكتب" أمرين: الأوَّل، ينحصر في أهداف "المكتب" ومشروعيَّة تمثيله. هذه المسألة يمكن حسمها من خلال تشكيل "المكتب" بتكلف مباشر من غالبية فصائل المقاومة الأساسيَّة، أو من قيادة "الجبهة الوطنية والقومية والإسلاميَّة". تكليف واضح، تُحدَّد فيه مهمام "المكتب" وهيكله التنظيمي.

الأمر الثاني، يتعلَّق بتركيبة "المكتب". من البديهي أن تتوفَّر في المرشَّحين صفات وسمات وطنيَّة لا غبار عليها. فإلى جانب الأهليَّة السياسيَّة والوطنيَّة، لا بدَّ من مراعاة معايير المصداقيَّة الوطنيَّة، ووضوح الموقف من المقاومة ومشروعيَّتها، والإيمان بخيار المقاومة المسلَّحة، والالتزام بالثوابت الوطنيَّة، وأهمُّها كون المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة الممثِّل الشرعي والوحيد لشعب العراق، والايمان بوحدة شعب العراق.

من غير المنطقي أو المعقول أن يضمَّ المكتب السياسي للمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة عناصر انتهازيَّة وقفت على الحياد خلال العامين الأوَّلين للاحتلال. ودعت لمنح مجلس الحكم الفرصة الكافية لإجراء التحوُّلات المطلوبة. ومن غير المعقول، لا بل من الخطاء أن يضمَّ المكتب عناصر شكَّكت في مشروعيَّة المقاومة وجدواها. لا بل رحَّب عدد منهم بالاحتلال كمخلِّص من الدكتاتوريَّة والاستبداد!

من غير المعقول أيضًا أن يتعاون المكتب مع مَن شكر جورج بوش على احتلال العراق، وتعاون مع منفِّذي مقاولة مشروع مطار "لكفل" أو مع الذين دخلوا مع قوَّات الاحتلال وساعدوهم في السيطرة على مدينة الموصل وقصباتها، أو مع أصدقاء حازم الشعلان وشركاء إياد علاَّوي وأحمد الجلبي وغيرهم من الخونة والانتهازيِّين والوصوليِّين.

عضويَّة المكتب يجب أن تقتصر على العناصر التي وقفت منذ الساعات الأولى لظهور نوايا احتلال العراق، وتصدُّوا  بصلابة لمشروع تدمير الدولة العراقيَّة وحكومتها الوطنيَّة الشرعيَّة.

إنَّ الإصرار على توفُّر هذه السمات في عضويَّة المكتب السياسي للممقاومة لا يجب تفسيره إقصاء لبعض الشخصيَّات أو الجماعات، بل كصمَّام أمان لضمان نجاح "المكتب" ومنع تسلُّل الانتهازيِّين والوصوليِّين، وهم أكثر أعداء المقاومة والمشروع الوطني خطورة.

(4)

رافق الإعلان عن تشكيل "الجبهة الوطنيَّة والقوميَّة والإسلاميَّة" ومكتبها السياسي، إعلانٌ عن إقامة مؤتمر موسَّع في دمشق في 23 من تمُّوز المنصرم من أجل تشكيل جبهة عريضة لمواجهة الاحتلال. إلاَّ أنَّ الاجتماع لم ينعقد، وعاد  بعض مَن حضروا الى دمشق مدفوعين بأحلام الجلوس مع ممثِّلي العم سام خائبين إلى قواعدهم.

ما هي الأسباب الحقيقية لإلغاء الاجتماع؟

لقد فشل الاجتماع لأسباب غير تلك التي طرحها بعض مَن ساهم في التخطيط له، ولا سيَّما ما صدر عن أحد أعضاء "التجمُّع العراقي للتحرير والبناء" بأنَّه هو مَن أفشل الاجتماع! الحقيقة أنًّ الاجتماع لم يعقد لأسباب عديدة ومتداخلة، أهمُّها: رفض ممثِّلي المقاومة ورجال الداخل من الجلوس مع  بعض المشاركين القادمين من دول المنفى بمن فيهم أعضاء في اللجنة التحضيريَّة والمكتب السياسي. تفاصيل ما حدث معروفة لنا ولعدد كبير من المعنيِّين بالقضيَّة. اعتراض أهل الداخل ورفضهم المشاركة، سحب المصداقيَّة من الاجتماع وأفشله. والسبب الثاني للفشل، يعود لقرار الحكومة السوريَّة في إلغائه لأسباب عديدة، أهمُّها إدراكها بعُقم الاجتماع بعد اعتراض رجال الداخل، بالاضافة إلى ضغوط واعتراضات الحليف الإيراني.

ما هي الأهداف الحقيقيَّة وراء قرار تنظيم مؤتمر دمشق؟ ومن هي الأطراف التي تقف وراء قرار تنظيمه؟ وما هي الدروس المستنبطة من هذا الإرباك؟ أسئلة نحاول الإجابة علنها في الحلقة القادمة.

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 04 / أب / 2007