محمد لافي " الجبريني "

شبكة المنصور

 

 

المقاومة آخر قلاعنا
هل فشلت الانتلجنسيا العربية في المواجهة الباردة
الحرب الباردة الثقافية في العراق وما بعده
دلالات إغتيال الشهيد طه ياسين رمضان


خيبة أمل تعيشها الدائرة "الجيوسياسية" الامريكية بعد مضي السنة الرابعة على احتلالها للعراق، دون أن تتمكن من تحقيق خططها الاستراتيجية، التي كانت قد عكفت عليها دوائر الابحاث الاستراتيجية في وكالاتها السرية والقومية، وحاولت عبرها الاستفادة من خلاصة قرن من التجارب في الحروب العالمية والاقليمية الساخنة والباردة لتوسيع دائرة النفوذ ونوعيته ،كما أملت وتخيلت، مقارنة مع أماكن أخرى من العالم حققت فيها نجاحات نسبية لا زالت آثارها ماثلة حتى اليوم.
هذا التعبير لا يعني أن الخاسر الاكبر والاول في هذه الحرب هو طرف آخر غير العراق والعرب عموما، مهما بدت الأعمال العسكرية غير ذات جدوى للفكرة بعيدة الامد التي تسيطر عليها أحلام الامبراطورية العالمية، فقد استنزف العرب المزيد من الخسائر المادية، الانسانية والمعنوية في هذه الحرب التي لم تنتهي منذ احتلال فلسطين وحتى ما بعد احتلال العراق، مقارنة مع حجم الطموح العربي الذي يتحدد فقط –رغم فداحته التي لا تحتمل- في حجم الخسائر في الارواح وتعداد الجثث التي تظهر على نشرات الاخبار في كل ساعة، وهو ما يجعلنا بعيدين جدا عن فكرة الهدف الاستراتيجي الامبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة على العالم الذي يشكل العرب أحد اهم أقاليمه والعراق أحد اهم بواباته. ونطرحه هنا من وجهة نظر ندعي أنها بعيدة المدى وتحاول استشراف الاهداف الشبه نهائية للمشروع الدائر في منطقتنا حاليا مقارنة مع أمثلة أخرى كأوروبا وآسيا بعد الحرب العالمية وخلال الحرب الباردة مع مراعاة الخصوصية الثقافية والاستراتيجية.

تحطيم الرمز، وبناء الصورة
إن نظرة مقارنة للوضع العربي بعد أربع سنوات من رفع جنود اليانكي علمهم في ساحة الفردوس، تظهر بوضوح ان العمليات العسكرية هي الوسائل وليست الغايات، لتحقق عبرها تحطيما سريعا للنفسية الممانعة لدى الشعوب، عبر تحطيم الوجود العملي لمحريضيها- الزعماء والرموز- وبناء نخب جديدة تقودها بناء على النصائح الامريكية التي ستكون اقتربت أكثر من تحقيق هدفها بهذا اذا نجحت العمليات العسكرية فعلا في تنفيذ ماهو مطلوب منها- اغتيال القيادات، تشويه الرموز، وخلق أمر واقع ونظام اجتماعي جديد.. الخ.
هذه الاربع سنوات وما رافقها من احداث كان خاضعا لأساليب الحرب النفسية المتبعة –عبر عملية حرق المراحل التي مارستها الولايات المتحدة مع شعبها وشعوب الغرب عموما، فهي لن تكون بحاجة لإقناعها اذا نجحت في إقناع الشعب المستهدف- ولم يكن شيء منها قد حدث عبثيا، خاصة عمليات الاعدام الاستعراضية لقادة ورموز الحكم الشرعي للعراق – لم يكن إعدام صدام صباح العيد، وفصل رأس برزان، وتسريب معلومات عن وجود يهود وايرانيين عبثيا بل كان ضمن خطط تشويه الصور النفسية للشعب والامة- التي كان آخرها إعدام طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي في ذات اليوم الذي دكت فيه أولى صواريخ كروز متوسطة المدى قلب بغداد، في متوالية مدروسة تهدف الى زعزعة الحضور النفسي لآخر رموز الزمن الماضي في النفسية الشعبية العراقية، وبإيحائية أكثر للأهداف المحتملة أمريكيا في مراحل لاحقة – اي انها رسائل موجهة لباقي الشعوب المحتمل تعرضها لهجوم مماثل مثل ايران وسوريا.
إن (التوقيت، الشكل والرمز) هي المعادلة المفضلة لمراكز الابحاث الاجتماعية في أمريكا في كل مراحل صراعها منذ محاكمة نورينبيرغ لنظام الحكم الالماني النازي، وحتى إعدام طه ياسين رمضان الاخير.
فهذا ماسينعكس على الصورة الشعبية العراقية على مر سنوات.. الآثار التي خلفها النظام السابق ما يجب زواله أولا قبل ان يحل مكانه اللون الجديد للحالة المرجوة، أي النظام الثقافي الجديد المقتبس من الثقافة الامريكية الذي لا بعث فيه ولا خطابات مؤدلجة قومية، ولاحس بنيوي اجتماعي متماسك يثبت العقلية التاريخية للعراق التاريخي، وهي من الوسائل المتقدمة على طريق تحقيق الاهداف النهائية، فهل يكون العراق، والعرب قد خضعوا عمليا لهذه الاسلحة النفسية فعلا والى اي مدى سيكون تأثيرها ناجحا؟

الحرب الثقافية النفسية
لقد فَعلت القوى المحتلة من حربها النفسية قبل أن تبدأ عملها العسكري وستستمر فيه الى مدى أبعد بعد أن توقف استخدام الحديد والنار، ستبحث عن إنجازات توازي ما وصلت له في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، فبدأت بإنشاء وسائل الاعلام الموجهة وإختراق تلك السابقة، فتم بناء الفضائيات الاخبارية عبر متوالية متسلسلة، بتعمد جعل بعضها غير مقبلول لصالح الخيارات الاخرى التي ستكون البديل عنها، بما يشكل وسيلة مهمة في توجيه الرأي العام وتشكيل وجهات النظر، وهي عمليات غسيل دماغ على شاكلة إذاعة "أوروبا الحرة"، ومجلة "إنكاونتر" التي استهدفت الانتلجنسيا الاوروبية أثناء وبعد الحرب العالمية، ونجحت الى حد بعيد في صياغة أفكار إيجابية في بيئة لم تكن تنظر بإرتياح الى الامريكي ونمطه الهمجي، أما جماهيريا فكانت المهرجانات الثقافية والفنية، المجلات، الكتب كل ذلك كان بموازة استعراضات محاكمة نورينبرغ، لتتمكن من انتزاع اللامبالاة الشعبية لصالح الفردية الرأسمالية سهلة التحكم بها، فهل يختلف الامر كثيرا عن الوضع الحالي عراقيا؟
الاساليب لم تختلف جذريا وإن إختلفت من ناحية التقدم التقني والتكنولوجي خلال العقود ، الا ان ما يختلف هو مراعاة الحالة الثقافية لكلا الحالتين، ففي حين استخدمت دوائر الحرب النفسية الامريكية الثقافة والفنون العريقة اوروبيا لتوجيهها الى الصيغة الامريكية، فما يجري عربيا وليس عراقيا فحسب هو استخدام النقيض، أي الاسفاف والانحدار أكثر بالمفاهيم الثقافية- بعد تغييب صارخ للإنتلجنسيا الممانعة العربية، واقصاء النخبة الثقافية عن وسائل الاعلام- التي أسست لها الاغاني الهابطة ومحطات التعري الفضائية بمؤازرة الكتاب "النيوليبراليين" أو ما باتوا يشكلون الانتلجنسيا المفضلة للبروبوغندا المسيطر عليها، التي أرخت لإحتلال العراق حين فُعل معظمها قبل او بعد مدة وجيزة من لحظة احتلال بغداد، فالفراغ الذي سيولده انسحاب السلطة السياسية والثقافية تحاول الثقافة الغربية ان تعبئه في مواجهة الميثولوجيا الدينية التي تحولت الى الخصم الاكثر قوة في مواجهة المشروع الاستعماري.

المقاومة، آخر القلاع
هذه النتيجة الملخصة والمختصرة للأحداث هي ما أردنا الوصول اليه في بداية الحديث، فرغم بلايين الدولارات التي وظفت من قبل الاحتلال وحلفائه لخلق حالة ثقافية مهشمة، وبناء مجتمع غير متماسك يعتمد الدين الرأسمالي والفردية الليبرالية في نظم حياته، ورغم حجم المكاسب الاقتصادية التي كان مردودها من النفط المسروق خلال الاربع سنوات يفوق ال(430 مليار دولار)، فإنها حققت نجاحات جزئية في الوعي الشاب للشعوب، الا أن التأثير الذي كان مرجوا قد بدأت ملامح فشله تتكاثر في وجه استراتيجيي الاستخبارات الغربية، ولعل الدليل الاكثر وضوحا هي توافقية الجماهير العربية بعد مضي السنة الرابعة لإحتلال العراق مع صيغة المقاومة، التي شكلت أفعاله ومقاومتها العسكرية البسيطة الصخرة الممانعة الاولى في وجه ذلك المشروع، والرافد الاساسي المغذي لفكر الممانعة الشعبية لدى الجمهور العراقي ولدى باقي الشعوب، كل حسب درجة تأثره بتلك الحرب، وأفسدت محاولة تشويه صورة المقاومة على أنها "إرهاب" حين أكد الشعب العراقي على احتضانه لهذه المقاومة في غابة من الجماهير حين عزت على المقاومة وجود غابات فيتنام وجبال بوليفيا.
وخلاصة القول إن ما يتهدد المنطقة من الحرب الثقافية والنفسية التي بات محورها الاساس العراق –باعتباره اقوى دولة عربية حديثة والقلعة الحصينة التي دمرت عسكريا- هو أخطر ما سيصيبها في حال انهارت الممانعة النفسية للشعوب، وهو ما فشلت فيه امريكا في الكوريتين والهند الصينية رغم الضربات العسكرية المتوالية.
وتبقى الاحداث التي ستفتعلها دوائر الخطط الاستراتيجية هي محك آخر يجب ان يستمر الصمود معه، فحرب أخرى أمر متوقع، وهي ليست أكثر من وسيلة للهروب الى الامام، واستعراضات اعلامية قادمة هي الاكثر توقعا بعد نفاذ الخيارات مع اعدام آخر رموز الشرعية العراقية، قد يتم ابتكار محاكمة جديدة تغذي ما سبقها ستكون لى شاكلة القافية الاخرى لمحاكمة النظام الالماني، وهي روزنبرغ التي راح ضحيتها الزوجان اليهوديان إيثل وجوليوس روزنبرغ بتهمة الخيانة، بعد الهزائم المتوالية لأمريكا أمام الاتحاد السوفياتي في الحرب النفسية. فهل بات أمر كهذا قريبا بعدما فشل المشرو النفسي في تحقيق مراده حتى الان؟

 

                                    شبكة المنصور

                                 22 / 03 / 2007

الحرب الباردة الثقافية في العراق وما بعده