بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تواضعوا...
ليس كل تحرير تحريرا، وليس كل نصر نصرا

 

 

شبكة المنصور

علــي الصـــراف

 

ينشغل مقاومونا بتوحيد صفوفهم. وبالنسبة للناظرين من بوابة المستقبل، فذلك شأن أعظم وأهم من عشرة آلاف عملية ضد الاحتلال ومليشيات عملائه. فبعد "الجبهة القومية والإسلامية"، و"جبهة الجهاد والإصلاح"، أعلن الاسبوع الماضي عن تشكيل "جبهة الجهاد والتغيير" بين ثمانية فصائل، كان لكل منها باعٌ وأي باع في مقارعة الغزاة. وبارك الله بالموحدين في عبادتهم وجهادهم. بارك الله في نفوسهم الطاهرة وأيديهم الخيرة. وبارك الله في جنودهم وشهدائهم. وبارك.

وما يهم، هو ان هذا الاتجاه سيتعزز. ما تزال هناك العشرات من الفصائل الأخرى التي يتعين ان تلتقي فيما بينها لتكوين تحالفات جهادية، لكي لا تجد نفسها أضعف دورا أو أقل تأثيرا في صنع المستقبل. دافع البقاء والدور هو الذي سيحضها على أن ترخي جناح الوحدة لمجاهدين آخرين، لتعلي جناح المقاومة ضد الغزاة وعملائهم.
وإذا مضى هذا الاتجاه نحو قمته الطبيعية، فستكون هناك جبهة كبرى للجهاد والبناء، ومجلسا أعلى.. للحرية.
ويستطيع المرء ان يتخيل الى أين يمضي هذا الإتجاه، وأية مفاجآت سيصنع.


المفاجأة الأولى، هي ان الحرب ضد الغزاة لم تبدأ بعد، (كما ظل المجاهدون يرددون دائما، من دون ان نفهم ما المقصد!).
فبينما سيشرع الاحتلال في خفض قواته، فان المقاومين سيعززون صفوفهم ويرفعون عدد ومستوى عملياتهم الى حد لم يكن مُتخيلا من قبل. وهم سيشدون أزر بعضهم بعضا، بخطط قتالية أكثر طموحا، وبتكتيكات عسكرية جديدة، واستخدام أوسع للأسلحة، وسيكون لقادتهم الميدانيين قدرات أفضل على تحريك مجاهديهم بمرونة أكبر. ومع كل سلسلة من العمليات، فان كرة الهزيمة للاحتلال ستكبر وستنحدر بتسارع أشد.

ومن معرفتنا بنوعية عضاريط الاحتلال، فستثبت الأيام انهم لن يكرروا مشهد سايغون... ببساطة لأنهم سيهربون قبل رحيل الاحتلال نفسه. وستعرف الولايات المتحدة ان مخانيثها كانوا مخانيث أكثر مما تصورت، وانهم هربوا أسرع مما تهرب الجرذان، لأنها، إذ أفسدتهم بالنهب، فقد جعلت لكل منهم الكثير مما يمكن ان يخسره اذا مات بالحسرة على ما نهب.

المفاجأة الثانية، هي ان "تنظيم القاعدة" سيهبط من علياء المبالغات التي رهنت كل مقاومة بإسمه، ليبدو كفصيل مجاهدين من بين عشرات الفصائل. إذا أنشأ جبهة، عاد الى حجمه، وإذا بقي بمفرده عاد الى حجمه أيضا. وهذا مما لا يستصغر من تضحيات مجاهديه شيئا، ولا يبخس من حقهم في أن يكون لهم مكان بين رفاق السلاح، وإنما يُزيل زائد الهالة التي كان الاحتلال أضفاها عليه لغاية في نفسه.

ولا يتطلب الأمر عبقرية من المرء كي يعرف أن غاية الاحتلال من تضخيم صورة "القاعدة" هي القول ان المقاومة في العراق "أجنبية" لا وطنية، وانها "إرهاب مستورد" لا نضالا لأبناء شعب يتطلع الى الحرية، وان الحرب ضد "التمرد" في العراق، هي جزء من "الحرب الكونية ضد الإرهاب" لا مجرد إحتلال لنهب ثروات بلد. و"ان الخطر الذي يتهدد الاحتلال في العراق، انما يتهدد الديمقراطية والأمن في كل مكان في العالم"، و"ان العالم كله يجب ان يساعد امريكا للتغلب على الإرهاب لانه معني به مباشرة"... وهكذا، وكأن لا وجود للمقاومة، ولا وجود لمشروع التحرر الوطني، ولا وجود لعراقيين أصلا.

ولئن كان من حق "القاعدة" ان تستفيد من دعاية الاحتلال وأبواقه، فكم كان من الأولى بها أن تعي ما تعنيه، فتستدرك (تواضعا على الأقل)، وتتقي الله في أولئك المجاهدين في بلدهم. بل، وكم كان من الأكرم ان تتفهم مشاغلهم وان تدرج جهادها في إطار جهادهم، لا ان تفرض عليهم مشاريع قد تبدو "إحتلال ضيف" فوق إحتلال عدو، ويزيده وجعا.

مع ذلك، الموازين ستعود لتتوازن، فيأخذ كل فصيل حقه ومكانته، وتعود المقاومة لتبدو مقاومة شعب يتطلع الى الحرية، لا إرهابا لديه مشكلة مع المدنيين ومع المباني العالية.

وببساطة، فان وحدة فصائل المقاومة الوطنية والاسلامية العراقية هي من الأهمية بمكان حتى لتبدو وكأنها مشروع استقلال قائم بذاته، يسترد وطنية المقاومة، ويعيد تقديمها كمشروع تحرر، ويضفي عليها هوية مجتمعها ويربطها بمتطلبات حماية فسيفسائه.

المفاجأة الثالثة، هي ان جبهات المقاومة لن تحارب بعضها بعضا. فلدينا من جبهات الضمائر ما يكفي لكي تكون رادعا. ولدينا مؤسسات وطنية مثل هيئة علماء المسلمين، ورجال دين أحرار من كل طائفة، وسياسيين يتسمون بالخبرة والشجاعة ما يكفي لجعل الاحتراب ممنوعا من الممنوعات.

وكان التحذير الذي أصدرته هيئة علماء المسلمين الأسبوع الماضي مبكرا بما يكفي للدلالة على وعي وطني سليم، وعلى ان لدينا هيئة رقابة معنوية، هيئة ضمير حر، ستلقي بثقلها لدرء هذا الخطر.
ما يقلق هو ان يكون السباق، بين جبهات المقاومة، ساخنا لتحرير "المنطقة الخضراء" كأول مؤذن يعلن زوال الإحتلال، ولكن التوزيع المناطقي لهذه الجبهات، والحاجة لاحكام السيطرة على ميادين هذه المناطق، تجعل من الصعب تماما على أي جبهة ان تتولى بؤرة التحرير منفردة. وحتى ولو حصل ذلك، فانه لن يكفي لتحويل هذا العمل مشروعا لسلطة طرف واحد.

لقد أزالت المقاومة ضد الاحتلال، مرة والى الأبد، فكرة الانفراد بالسلطة. الكل يعي الآن انه لا يملك الحق المعنوي ولا السياسي ولا الايديولوجي ولا الجهادي بأن يقول "ها أنا ذا وحدي". والكل يعي انه إذا ضرب طرفا، أجاز لغيره أن يضربه. والآخر ليس واحدا لكي يسهل التخلص منه. انه عشرة، عشرون أو ربما أكثر، ثم انه كل أولئك الذين رفعوا سلاحا ضد الغزاة بإسم الحرية. فاذا احتجت اليهم ليكونوا سليطي السلاح، فانك لن تقدر على منعهم من ان يكونوا سليطي اليد واللسان أيضا. وسيكون التواضع حيال الأحرار مطلوبا بالقوة، طلبه بالفعل.
والحال، فكلما أسرعت القوى السياسية بقبول هذه الحقيقة، كلما كان ذلك أفضل لقدرتها على البقاء. بل، كلما تحولت هذه القوى الى خيمة واسعة، تعكس تعددية الجميع، أفكارا وسياسات وآراء وشخصيات، كلما كانت مرآتها أكثر وضوحا لتمثيل طبيعة المجتمع العراقي. وبذلك وحده، ستكون جديرة بتوسيع دائرتها في السلطة. وكل مَنْ يكسب الى صفه وطنيين أكثر، انما يكسب، تلقائيا، حقا أكبر بالتمثيل والسلطة.

تعددية المقاومة، وتعددية المجتمع العراقي نفسه، سوف تملي على كل حزب، من داخله، ان يجسد هذه التعددية ويستوعب مقتضياتها، ليبقى.

ثقافة الحزب الواحد زالت ليس بزوال مبرراتها السياسية على أرض جهاد مشترك فحسب؛ وزالت ليس بزوال مبرراتها الأيديولوجية في ميدان احتاج ثقافة الدين وفقه الدنيا معا لكي يتحرر فحسب، بل لأن "الحزب الواحد" نفسه صار من الضروري ان يكون تعدديا في رؤيته، وجماعيا في قيادته، مما يعكس تعددية الميدان وجماعيته.
وهكذا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. لن نحترب. مناوشات احتكاك، ربما، ولكن ليس بالمعنى الشامل أبدا.
بقبول الآخر، وبالحاجة اليه، شريكا ومقاتلا، فان وطنية العراقيين صارت، بالأحرى، أكثر تماسكا.

وقد نختلف طويلا في التفاصيل، إلا اننا لن نختلف طويلا في القيم والمعايير. وهذه هي ما يجب بحثه أولاً.
وكان بيان هيئة علماء المسلمين استشرافيا بما يكفي لكي يحض فصائل الجهاد والمقاومة على بحث موضوع الحكم ومستقبل النظام السياسي منذ الآن.

التسوية المطلوبة بين هذه الفصائل هي تلك التي تعكس طبيعة المجتمع العراقي، تنوعه الديني والعرقي، فوق تنوعه السياسي والفكري. فالعراقيون ليسوا مسلمين فقط. وليسوا عربا فقط. وليسوا متدينين فقط. وليسوا رجالا فقط.

تسوية تقبل هذه التعددية هي وحدها القابلة للحياة. أي شيء آخر سيكون مشروعا لاستكمال حملة الدمار الشامل التي يشنها الغزاة وحلفاؤهم الطائفيون.
أي دستور، وأي نظام سياسي، لا يعطي للمسيحي العراقي ما يعطيه للمسلم، لا يستحق ان يعيش. وأي نظام لا يعطي للكردي ما يعطيه للعربي، لا يستحق ان يعيش أيضا. وكذلك الحال، بالنسبة لجميع الأقليات والتكوينات السياسية.

الشرط هو ان تكون هذه التكوينات وطنية، لا طائفية او عرقية.
الشرط هو ان يُعامل العراقيون، من الناحية الدستورية، كأفراد متساوين، لا كأبناء طوائف.
الشرط هو ان يكون العراق سيدا حرا موحدا، يجمع بين دولة مركزية قوية، وبين مجالس حكم محلي للمحافظات والأقضية والبلديات.
الشرط هو ان يضمن الدستور الحريات المدنية وحقوق الانسان والمساواة.
الشرط هو ان يكون هناك مجلس قيادة مشترك، وان يكون هناك برلمان منتخب من غرفة واحدة او غرفتين.
الشرط هو ان تكون هناك دولة قانون، سلطةُ القضاء فيها سيدةٌ ومستقلة.
الشرط هو ان تكون هناك مؤسسات إدارة مدنية، تكنوقراطية، غير متحزبة.
الشرط هو ان يكون هناك جيش شعبي جديد، قادته وضباطه من قادة وضباط المقاومة.

... وعلى هذا الغرار، فان وضع المعايير والقيم العليا يجب ان يأتي أولاً. ومنها يجري تذليل التفاصيل وبحث ضوابطها وقواعدها التنفيذية.

وقد يختلف هذا الفصيل او ذاك على فقرة، فيسجل عليها تحفظه، ولا يختلف على أخرى فيمضي بالوثيقة قدما. وتقتضي الحنكة ان توضع، قبل الاتفاق والاختلاف، معايير مسبقة لكيفية التعامل مع الاتفاق والاختلاف، فليس كل ما عليه اختلاف يجب ان يتعطل. والاجماع غاية، ولكنه يجب ألا يتحول الى عقبة.

الحوار بين أحرار يجب ان يتحرر أيضا من لغة الادانة والتخوين والاستعلاء والشطب البائدة. الناس تتحاور لانها تريد التوصل الى "نتائج مشتركة"، لا ان تُملي على بعضها البعض تصوراتها الخاصة. وهذه النتائج المشتركة وحدها هي ما يجب الحديث فيه، وليس ما إذا كان قميصك أحمر أو أخضر.

ما لم يتعلم المجاهدون كيف يتحاورون كأخوة متساوين، رغم كل ما خلق الله من خلافات، فاننا لن نتقدم شبرا.
ما لم يكن "القوي" قادرا على الحلم بـ"الضعيف" فان هذا البلد سيظل غابة.
وما لم يكن "الكبير" مستعدا لضم وتفهم وحماية حق "الصغير"، فاننا لن نبني بلدا، بل حلبة صراعات لا تنتهي. وما لم يكن هذا "الكبير" متسامحا وذا صدر رحب ويقبل الاختلاف، فانه قد يكون كبير جسم إلا انه ليس "كبير" عقل. فكبروا عقولكم، حيال الصغائر خاصة.

و"الكبير" يكبر بالضم والإستيعاب ولم الشمل، ويصغر بالنبذ والتهميش والطرد. فوسعوا صدوركم.
و"الكبير" بالكبار يكبر، وبالصغار يصغر. فاختاروا لشراكتكم كبارا لتكبروا بهم ومعهم.
لقد خسر العراقيون الكثير من الدماء اليوم ومن قبل. وهذا الفصل يجب ان يكون فصل الدماء الأخير.
ليس من الإنصاف، بحق التاريخ، وبحق الأبرياء والضحايا، ان نعود لنخسر في معترك التحرير ما كنا خسرناه من قبل. دوامة القهر والقسر والقسوة يجب ان تتوقف.
وتواضعوا. واخفضوا جناح الذل للوطنيين والإخوة. لكي لا يكون خوف، ولا يكون شقاق، وسيكون التحرير نصرا.
ومثلما ألمحت هيئة علماء المسلمين من استلهام تجارب الغير، فليس كل تحرير تحريرا، وليس كل نصر نصرا.

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 08 / أيلول / 2007