بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

كتاب - عاصفة تحت جمجمة
الحلقة (1) 
الخلافات الأميركية - الأوروبية تفتح الطريق لنهاية الناتو

 

شبكة المنصور
عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف
تأليف : سيباستيان فومارولي
 
 

بعد ثلاثين سنة من حرب فيتنام وسقوط سايجون عام 1975 بيد الثوار، تزداد في أميركا الخشية من أفق هزيمة جديدة أقسى وأعمق في العراق، ذلك أن إستراتيجية الصقور من المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية قد فشلت في الشرق الأوسط، وغدا السؤال الكبير هو كيفية الخروج من «الورطة» العراقية بأقل الخسائر.  

فكيف وصلت الأمور بأميركا إلى هذا الحد؟ على امتداد هذا الكتاب يجد القارئ نفسه على موعد مع أكثر من خمس عشرة شخصية أميركية من كبار أساتذة الجامعات الأميركية والمحللين والدبلوماسيين والمستشارين في البيت الأبيض يقدّمون تفسيرهم للوضع عبر حوارات ولقاءات أجراها معهم مؤلف هذا الكتاب، الصحفي الفرنسي، خلال ثلاث سنوات.  

جيمي رابكين هو أحد المفكرين الأميركيين الأكثر تأييدا لسياسة إدارة جورج دبليو بوش ولأميركا «سيادية» على مستوى العالم بشكل لا يقبل النقاش. وهو لا يتردد من هذا الموقع في توجيه الاتهام ل«الإيديولوجية الأوروبية» بأنها «تنشر في العالم مفهوما جبانا وانهزاميا للقانون الدولي».   

وينقل عنه مؤلف هذا الكتاب قوله له: «إن الخطر الأكبر الذي يواجهه العالم هو أن يفقد الشعب الأميركي معنوياته العالية. ولا أعتقد أن هناك أية منظمة دولية تستطيع أن ترغم الولايات المتحدة على فعل أي شيء ولا أعتقد أن الولايات المتحدة يمكن أن تسمح لأية منظمة دولية بقسرها على فعل ما لا تريد. إنها معركة أفكار وأخلاق (...).  

مصدر قلقي الوحيد هو أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتصدير نموذجه الإيديولوجي إلى العالم. وفي عام 1945 - أي أثناء الحرب العالمية الثانية - جرى استخدام آلة قانونية من أجل احتواء ألمانيا ويُراد اليوم استخدامها من أجل احتواء الولايات المتحدة. وهذا يبدو لي في غاية الغباء. لقد أمكن تطبيق ذلك على ألمانيا لأنها كانت مهزومة ومخرّبة. يمكنكم أن تقولوا ما تريدون حول عجز الميزانية الأميركية، لكن أميركا ليست اليوم حقيقة بلادا مخرّبة وبالطبع ليست مهزومة».   

وفي النهج نفسه من التفكير أبدى رابكين اعتزازه الكبير بمواطنيه الأميركيين الذين لا يرضخون لصفارات إنذار القانون الدولي. ولا يتردد في التأكيد أن الأميركيين لا يعيرون غالبا اهتماما كبيرا لما يردده المثقفون وأن عدد أعضاء الكونغرس الأميركي الذين يؤيدون محكمة العدل الدولية «لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة».   

ويشير إلى أن جون كيري، المرشح الديمقراطي الذي نافس جورج دبليو بوش في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، قد انتقد منافسه عندما شن حربا ضد إرادة حلفائه، لكنه حرص - أي كيري - على عدم القول بضرورة الانصياع لما تقرره محكمة العدل الدولية.  

المفاجأة السماوية

إن رابكين، كما يتم تقديمه، يمثل ذلك «الحرس الجديد» من الجامعيين اليمينيين الملتفّين حول إدارة بوش والذين كانوا قد ترعرعوا على مفهوم مقاومة الأفكار اليسارية التي انطلقت في أوروبا والعالم عبر أحداث مايو- 1968 في فرنسا، والمعروفة ب«ثورة الطلبة». ويرى مؤلف هذا الكتاب أنه يمكن عبر المسيرة الفكرية والسياسية لرابكين التعرف على «شجرة النسب الفكري للمحافظين الأميركيين الجدد».  

كان رابكين طالبا في جامعة هارفارد، ويعرّفه المؤلف، إلى جانب «نجوم» آخرين من الحرس الجديد مثل بول وولفويتز، على أنه من الجيل الثالث للذين استرشدوا بأفكار الفيلسوف الألماني الأصل ليو ستروس والذين جرى تعميدهم بتسمية المحافظين الجدد منذ أن دخل عدد منهم إلى الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي.   

وقد كانت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 «المفاجأة السماوية» بالنسبة لهم. وبدا جورج دبليو بوش «الأخ الذي فهمهم» بينما كان الرئيس الأميركي الأسبق ريغان «الرمز الكبير لفترة شبابهم». وينقل المؤلف عن جيمي رابكين إعجابه الشديد بفرنسا اعتبارا من تاريخ 29 مايو 2005.   

ذلك أن الفرنسيين قد قالوا يومذاك لا لمشروع الدستور الأوروبي، وعطّلوا بذلك إلى حد كبير مسيرة التوحيد السياسية للقارة القديمة، لاسيما وأنه تبعهم بعد أيام قليلة في الرفض الهولنديون. هكذا رأى رابكين في فرنسا التي قالت لا للدستور الأوروبي أفضل حليف للولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارة جورج دبليو بوش.   

وينقل عنه قوله: «إذا جرت المقارنة بين فرنسا وألمانيا، فإن ما يثير الخوف من الألمان هو أنهم يعتنقون الشعارات المثالية بحذافيرها بينما أن الفرنسيين لا يفعلون ذلك كما برهنت نتيجة الاستفتاء على الدستور الأوروبي. واسمح لي أن أعبر لك بالقول أن هذا يمثل نقطة انطلاق ممتازة.   

لقد فهم الفرنسيون في الواقع أنه من العبث الاعتقاد أن العالم سوف يكون أكثر أمانا إذا أُنشئت محكمة جنائية دولية. ومن الخديعة الكبرى الاعتقاد أن هذه المحكمة سوف تكون أفضل ضامن ضد تهديد الصين. فإذا هاجمت الصين تايوان، ماذا سيتم فعله؟ قد تقول المجموعة الدولية لقادة الصين آنذاك إنها سوف تلاحقهم وستحاكمهم، وعندها سوف يحل السلام في العالم.   

هذه هي طريقة تفكير الألمان تقريبا. عندها ستكون المعضلة بسيطة فإما أن يتم التقيّد الكامل بنظام القانون الدولي أو تتم العودة إلى هتلر. الألمان سجناء هذه المعضلة. وكون أننا نمتلك نحن الأميركيين، فكرة لا تتناظر مع فكرتهم عن القانون، فإننا هتلريون بنظرهم. إنهم لا يقبلون ذلك صراحة لكن هذا هو تفكيرهم في العمق».  

ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أنه لا يوجد في دوائر السلطة العليا بالولايات المتحدة من يتلفّظ بكلمة «إمبراطورية». لكن الموظفين الكبار في البيت الأبيض ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية المكلّفين بمعالجة المسائل العسكرية والإستراتيجية، يعرفون عندما يصلون كل صباح إلى مكاتبهم أن عليهم مهمة البحث في قضايا العالم. وعندما يكون أحدهم من بين أصحاب القرار في أميركا فإنه يتوجّه لرئيس الولايات المتحدة وكأنه الرئيس الأعلى لإمبراطورية عالمية.   

الشريك الذي لا بد منه 

ويتحدث المؤلف في هذا السياق عن لقائه بأفيس بولن التي تمثل عائلتها الفرع الأميركي من سلالة كروب الصناعية الألمانية. كان والدها شارل بولن سفيرا للولايات المتحدة في باريس خلال سنوات الستينات الماضية وكان من جيل الدبلوماسيين الأميركيين لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين شجعوا حركة الاندماج الأوروبي الاقتصادي من أجل تعزيز أوروبا الغربية في وجه الشيوعية. 

وكانت افيس بولن نفسها سفيرة لواشنطن في بلغاريا قبل أن يتم تعيينها عام 1999، أي في ظل إدارة كلينتون، مساعدة لوزير الخارجية لقضايا التسلح. وعند انتخاب جورج دبليو بوش رئيسا حافظت على وظيفتها إلى جانب جون بولتون المعروف عنه أنه محافظ جديد متشدد مما جعل تعيينه في منصب سفير الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة يلقى بعض المعارضة من قبل الكونغرس. استقالت افيس بولن من عملها في يونيو من عام 2002. وكان السبب المقدّم رسميا هو طلبها الإحالة على التقاعد في سن مبكرة. لكن السبب الحقيقي كان عدم الاتفاق مع السياسة الدولية لإدارة بوش.   

ويشار هنا إلى قضية الدبلوماسي البرازيلي خوسيه موريسيو بوستاني الذي كان مديرا عاما لمنظمة منع انتشار الأسلحة الكيماوية والذي أرغمه جون بولتون بدعم من الحكومة الانجليزية، على الاستقالة. لماذا؟ كان هذا الدبلوماسي قد حاول إقناع بغداد في ربيع عام 2002 وعواصم عربية أخرى بتوقيع المعاهدة التي تحظر على الموقعين عليها تصنيع الأسلحة الكيماوية.

وربما كان من شأن توقيع العراق لتلك المعاهدة أن يعقّد مهمة واشنطن عبر تعزيز دور مراقبي الأمم المتحدة المكلفين بالرقابة على الصناعة النووية العراقية وبالتالي خلق عقبة قانونية إضافية أمام دخول الولايات المتحدة الحرب. وكما كشفت مذكرة أميركية منشورة في يونيو 2005 فإن «القرار الأميركي - الانجليزي للتدخل عسكريا في العراق قد جرى اتخاذه منذ شهر أبريل 2002 وذلك خلال لقاء بين توني بلير والرئيس الأميركي في كراوفورد بتكساس»،كما يؤكد المؤلف.   

هذا يعني، حسب التحليل المقدّم، أن رئيس الوزراء البريطاني كان قد التزم منطقيا بدعم واشنطن من أجل إسقاط الخيار الذي قدّمه الدبلوماسي البرازيلي بوستاني. ثم إن المذكرة المعنية «أوضحت ظروف دخول الولايات المتحدة في الحرب وتبرهن أن قرار الحرب قد جرى اتخاذه منذ فترة طويلة وأن وزارة الخارجية الأميركية كانت تعمل منذ بداية الفترة الرئاسية الأولى لجورج دبليو بوش من أجل رفع العقبات القانونية أمام ذلك التدخل» كما نقرأ.   

ويرى المؤلف أن المذكرة المعنية تفسر إلى حد كبير مدلول المحاولات التي قام بها جون بولتون من أجل زعزعة موقع الدبلوماسي البرازيلي، قبل 11 سبتمبر 2001. كما تدل المذكرة على أن السعي البريطاني، المعلن عنه رسميا من أجل محاولة دفع أميركا للالتزام باحترام القانون الدولي، لم يكن سوى من أجل ذر الرماد في العيون. وفي الوقت الذي تمت فيه إقالة الدبلوماسي بوستاني استقالت افيس بولن من وزارة الخارجية الأميركية.   

وينقل المؤلف عنها قولها له: «اختار بلير وشيراك طريقتين متعارضتين في محاولة للتأثير على الأحداث. اختار بلير التعاون مع الولايات المتحدة ولم يحصل على شيء، واختار شيراك معارضتها ولم يحصل على الشيء الكثير. لم يحصل الاثنان على شيء يذكر وأميركا فعلت ما أرادت.   

لقد قمنا بتلك الحرب حسبما أردنا. لا شك كانت هناك لحظة صعبة جدا مع البريطانيين. إنهم لم يكونوا موافقين على عملية حل جيش صدام، لكنهم لم يعارضوا ذلك على أرض الواقع. وإذا كانت هذه الحرب قد برهنت على شيء فإنه على عدم قدرة أي إنسان على منعنا من شن تلك الحرب».  

ما لاحظته بولن هو أن الحرب الثانية في العراق أثبتت أن تأثير القادة الأوروبيين على السياسة الخارجية الأميركية قد تضاءل. ذلك أن أوروبا كانت هي الرهان الأساسي أثناء الحرب الباردة وبالتالي الشريك الذي لا بد منه بالنسبة لواشنطن.  

لكن مع نهاية تلك الحرب «الباردة» خسرت أوروبا الكثير من وزنها بالنسبة للولايات المتحدة. تقول: «كانت هناك علاقات ثقة سابقا، ورغم أننا كنا نقيم علاقات متباينة جدا مع فرنسا وانجلترا وألمانيا، فإنه كانت هناك لجنة صغيرة سريّة تجتمع بشكل منتظم من أجل مناقشة جميع القضايا ذات الاهتمام المشترك. وكانت تسمّى اللجنة الرباعية. هذا كله انتهى».   

ثم أضافت: «حتى أثناء فترة التضامن ضد الاتحاد السوفييتي، كان الكثير من الجمهوريين - الأميركيين - يرون أن النفوذ الأوروبي النسبي على سياستنا الخارجية غير محتمل (...). إن الجمهوريين حذرون دائما من أوروبا، وكانوا أصلا على استعداد لأن يتحركوا وحدهم وعدم الإصغاء بعد ذلك للرأي العام الأوروبي. وتحرروا أكثر منه بعد سقوط الشيوعية ثم اتخذوا موقفا عدائيا واضحا فيما يخص انتقاد الاتفاق المصرفي الذي تمّ التوصل إليه بعد حرب الخليج الأولى».   

هذا يعني أن سلوك إدارة بوش ونزعتها نحو اتخاذ قرارات من جانب واحد لم تأتِ من فراغ. لكن الحرب الباردة شكّلت قناعا أخفى وراءه لفترة طويلة تباين وجهات النظر بين ضفتي المحيط الأطلسي. وبالتالي فإن كل ما فعله جورج دبليو بوش وسياسته الخارجية هو الكشف عن «الوجه الحقيقي» الذي كان يخبئه ذلك القناع.   

أمّا الديمقراطيون الأميركيون فإنهم حريصون في محافظتهم على تحالف تقليدي مع أوروبا، لكن ذلك باسم الواقعية وليس باسم التعلق العاطفي. ف«أميركا ليس أمامها أي خيار آخر سوى التعاون مع أوروبا... وانجلترا وفرنسا لهما رؤية شاملة، عالمية. وينبغي علينا جميعا أن نتفاهم»،كما تقول بولن في حديثها عن الحزب الديمقراطي، كي تعلن أن موقفها قريب من هذا الموقف فيما يخص العلاقة مع القارة الأوروبية القديمة.   

لكنها تُبدي في الوقت نفسه تشككها حيال قدرة هذا الحزب - الديمقراطي- على ممارسة سياسة أخرى غير سياسة إدارة بوش. هذا ما تلخّصه بالقول: «لا يمتلك الديمقراطيون اليوم أية رؤية بديلة، إنهم مثل الجمهوريين مع إضافة أنهم أكثر ضعفا».   

لكن هل ينبغي قبول فكرة أن الأمور لن تعود أبدا كما كانت من قبل؟ وسؤال آخر يطرحه المؤلف: هل تتعلق المسألة نهائيا بحلول جيل جديد من أصحاب القرار. الأميركيون الذين يرون في أوروبا مجرد كيان ريفي ومربك وبالتالي يميلون للتعاون معها حسب الظروف، والاكتفاء باتفاقات تكتيكية بدلا من التفكير بإيجاد إستراتيجية مشتركة على المدى الطويل مثلما في حالة الحلف الأطلسي؟   

ثم ما هو التفسير الذي يمكن تقديمه لإعادة انتخاب جورج دبليو بوش رئيسا أميركيا لإدارة ثانية عام 2004؟ ما يتم تأكيده هو أن الفارق في تلك الانتخابات لصالح بوش كان ضئيلا جدا بالقياس إلى رؤساء آخرين في الوضع نفسه مثل رونالد ريغان. ثم إنه لم تكن هناك منافسة على مستوى عال».   

وتؤكد بولن قولها: «ليس هناك من يستطيع القول حقا إذا كانت تجربة بوش هي مجرد حالة اعتراضية عابرة أو أنها مقدمة لحالة مستمرة لصالح الحزب الجمهوري بالتوافق مع أميركا العميقة اليوم، كما يعتقد كارل روف رجل إستراتيجية حملته الانتخابية، أي بوش».   

ويفتح المؤلف قوسين هنا للحديث عن روبرت كاجان، المحافظ الجديد الأميركي هو الآخر، ويبيّن كيف أنه برهن في كتابه الصادر عام 2003 تحت عنوان: «القوة والضعف» كيف أن القطيعة بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا حول حرب العراق لم تكن مجرد قطيعة ظرفية، وإنما أملتها في الواقع حالة من الود المقطوع الدفين بين الطرفين.   

وهي حالة تجد جذورها العميقة في المواجهة بين مفهومين لاستخدام القوة والقانون. من جهة تحولت أوروبا نحو سلام دائم حصلت عليه منذ عام 1945 عبر تفكيك هويات دولها الوطنية، ومن جهة أخرى أميركا الجريحة التي أيقظتها تفجيرات 11 سبتمبر، والمتمسكة بالدفاع، ومهما كان الثمن، عن سيادتها الوطنية وعن دستورها وحيث تبقى القوة العسكرية هي أفضل ضامن لنشر الديمقراطية الأميركية في العالم.  وتتم الإشارة إلى أن جورج بوش الأب كان قد جعل من نفسه لفترة من الزمن داعية لاحترام قواعد الأمم المتحدة، الغالية جدا على الأوروبيين. كان ذلك هو ما عبّر عنه النظام الدولي الجديد الذي دافعت عنه واشنطن عام 1991 أثناء حرب تحرير الكويت. لكن الوضع تغيّر اليوم ولم تعد الولايات المتحدة تنوي تقاسم انتصاراتها عبر الانصياع إلى مساومة المؤسسات الدولية التي أصبح الاتحاد الأوروبي هو بطلها.   

قرن التفوق 

ينقل المؤلف عن جيريمي رابكين قوله إنه لا ينبغي «الانخداع» حول هذا القرن الحادي والعشرين إذ أنه «لن يكون قرن انحطاط الإمبراطورية الأميركية، وإنما على العكس قرن تفوقها، وحتى لو كان ذلك يفترض قيام نزاع لا يمكن تجنبه بين واشنطن والشبح الذي جرى الاتفاق على تسميته بالمجموعة الدولية التي التجأت إليها أوروبا».   

ويعرب مؤلف هذا الكتاب عن استغرابه الكبير كون مفكرين من أمثال جيريمي رابكين وروبرت كاجان لم يخطر لهما أبدا أن تتوصل أميركا إلى النتائج نفسها التي كانت أوروبا قد عرفتها عبر اعتمادها على مفاهيم القوة التي لا تُقهر. ولا يبدو أن «ذاكرتهما واعتزازهما» كأميركيين قد اختلجا أمام ما عرفه النموذج الأوروبي من تخريب أو أمام واقع أن أوروبا قد حام فوقها طيف الفناء الكامل، أثناء الحربين العالميتين اللتين عرفهما القرن العشرين.  

وما يؤكده المؤلف هو أن فرنسا اعتقدت باستمرار أنه يمكن لأوروبا التأثير على الولايات المتحدة الأميركية، وأن نزعة اتخاذ القرارات من طرف واحد هي لحظة عابرة في السياسة الأميركية ينبغي تجاوزها. وأن هناك أميركا أخرى مُبعدة مؤقتا عن السلطة، وأن أميركا الأخرى تلك هي ابنة عصر التنوير الأوروبي وسوف تنقذ العلاقات بين ضفتي الأطلسي عندما تتم إزاحة إدارة جورج بوش الحالية.  

وأميركا تلك هي التي كانت قد شجّعت عام 1919 أثناء انعقاد مؤتمر السلام إثر نهاية الحرب العالمية الأولى، أوروبا من أجل تبنّي النظام البرلماني وهي التي ساهمت في تأسيس جمعية الأمم من أجل إخضاع جميع الدول للقانون الدولي ولمتطلبات الأمن الجماعي. وكانت المبادئ نفسها، التي قال بها الرئيس ولسون، بعد الحرب العالمية الأولى، هي التي قامت على أساسها عملية إعادة تعمير أوروبا وتأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.   

وداعاً للولسنية 

الحجة التي استخدمها المؤلف مع محدثيه من المحافظين الأميركيين الجديد تقوم على أساس أن أميركا تلك لم تختفِ فجأة، وأن النقد الموجّه للسياسة الخارجية الأميركية للمحافظين الجدد إنما هو أكثر قسوة في الصحافة الأميركية نفسها مما هو في الصحافة الفرنسية وأن هناك العديد من الجامعات الأميركية التي لا تزال متمسكة بالتقاليد التي يمليها القانون الدولي.   

وهذا ما رد عليه جيريمي رابكين بالقول: «لقد انفضّ الشعب الأميركي عن ولسون» وأن «الولسنية هي إحدى أشكال النزعة الوطنية الأميركية ولكنها ليست نقيض النزعات الأخرى. وإذا كنتم ترون في دعوة ولسون قيام عالم تضمن المؤسسات الدولية السلام فيه وتكون هي المدافعة عن حقوق الإنسان فيه، فإنها ضدها.   

وأقول بصراحة أنني سعيد لأنها غير مطبّقة. وفكرة تفعيلها تثير الرعب، إذ أنها تعني عدم إمكانية قيام حكومة عالمية. ثم إن إمكانية تفعيلها تعني تزويد منظمة الأمم المتحدة بقوة عسكرية هائلة، وأنا لست موافقا على هذا (...). إن القوة التجارية والقوة العسكرية للولايات المتحدة لا يمكن مقارنتهما بما تمتلكه أوروبا. ونحن أقوياء إلى درجة عدم التفكير أبدا بالاندماج مع بلدان أخرى. هذا واضح، وغير قابل للنقاش».  

ولم يتردد جيريمي رابكين في القول أن النتيجة الحتمية،بعد أجل، للتباين الحالي القائم بين أوروبا والولايات المتحدة حول مسألة استخدامات القوة إنما هي نهاية الحلف الأطلسي. يقول «الحلف الأطلسي -ناتو- هو اليوم مسألة مشاعر ونزعة عاطفية. إنه ينتمي إلى الماضي، الجميع يتفقون على ذلك.  

قد أبالغ قليلا، إذ هذا موضوع لا يناقشه المسؤولون الأميركيون علنا، لكن إذا قابلت هنري كسنجر، فإنه سوف يقول في حديثه الخاص الشيء نفسه. وما هو الدرس الذي تعلّمته أميركا من الأزمة العراقية؟ الدرس هو أن بلدانا أخرى أرادت معارضتنا ونظّمت نفسها ضدنا.  

ما فعلته فرنسا وألمانيا لم يكن خلافا في الرأي وإنما معارضة نشطة (...). ما فعله البلدان هو أنهما دافعا عن صدام حسين، وهذا أمر شديد الخطورة. وأعتقد أننا لن نتراجع أبدا إلى الوراء. لم يعد هناك اتحاد سوفييتي وبالتالي لم يعد هناك أساس بالنسبة للحلف الأطلسي. ولم تعد لأميركا الالتزامات نفسها حيال أوروبا كما لم تعد لأوروبا الالتزامات ذاتها حيال الولايات المتحدة. فلماذا تنبغي إذن المحافظة على هذا الحلف؟».

 
 
 
شـبكـة الـمنصـور
الثلاثاء / 10 / تمـــوز / 2007