بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

  كتاب ـ عاصفة تحت جمجمة

 الحلقة (2)
  الاستراتيجية الأميركية وراء سوء التفاهم بين واشنطن وأوروبا

 

شبكة المنصور
عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف
تأليف : سيباستيان فومارولي
 
 

عند هذا المنعطف المبكر من الكتاب، يوضح المؤلف عبر حوارات مع سلسلة من المفكرين من فرنسا والولايات المتحدة كيف أن الغرب الليبرالي هو المسؤول عن إطلاق موجات من الجنون التي ترى في إبادة الخصم أفقاً مفتوحاً لضمان الأمن الذاتي من ناحية ولتحقيق النطاق الكامل لطموحات للسيطرة تمتد عبر العالم بأسره، وأن قصف هيروشيما ونجازاكي لم يكن إلا التجسيد المبكر لهذه الموجات التي تستمر حتى اليوم وتتردد أصداؤها في الاستراتيجية الأميركية التي تقف وراء سوء التفاهم بين واشنطن والعواصم الأوروبية.

رينيه جيرار هو مفكر فرنسي فضّل أن يعيش في أميركا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. مارس مهنة التعليم في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا. عاد إلى باريس في ربيع عام 2005 حيث جرى انتخابه عضوا في الأكاديمية الفرنسية. كان رينيه جيرار، المولود عام 1923، قد عايش في شبابه، مثل أبناء جيله، حالة الرعب التي رافقت قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية في أغسطس 1945 مما وضع حدا نهائيا للحرب العالمية الثانية بإعلان اليابان عن استسلامها. ذلك الرعب في سنوات الشباب عاشه جيرار من جديد يوم 11 سبتمبر 2001. يقول: «كان عمري 21 سنة عندما جرى قصف مدينتين كبيرتين في اليابان بالسلاح الذري الذي صنعته يد الإنسان. وقد عشت من جديد الرعب نفسه يوم 11 سبتمبر، أمام المشهد المجنون لبرجي التجارة عندما صدمتهما طائرتان مدنيتان تحوّلتا إلى صاروخين بفعل إرادة بشرية». وفي أصل 11 سبتمبر تكمن عملية تقليد لعنف مدمّر اخترعه وجرّبه علم الغرب وتقنيته، ولكن استخدمه أعداء الغرب الذين لا يملكون ذلك العلم وتلك التقنية، أو أنهم لا يملكونهما حتى الآن».  

كل شيء محتمل... بهذا المعنى يتم اعتبار ما يشهده العالم من عنف اليوم مندرجاً في سياق استمرارية ما عرفته الحرب العالمية الثانية من جموح أعمى لقوى التدمير لدى المعسكرين المتحاربين. وقد كان عنفا بدائيا يشكك بفكرة الحضارة نفسها ويبتعد عن العقل. وكان الفيلسوف ليو شتروس، الأب الروحي لليمين الأميركي الجديد والمرجع الفكري للمحافظين الجدد، قد جعل من الدفاع عن الحضارة والعقل تحديدا جوهر أطروحاته. وكان قد استطاع أثناء فترة عمله في جامعة شيكاغو أن يقنع أجيالا بهشاشة الديمقراطيات الليبرالية.ويشرح المؤلف كيف أن فكرة التوازن بين القوى هي التي استلهمت منها أميركا في عهد نيكسون وكيسنجر في فترة كان ينبغي فيها توحيد الغرب الليبرالي ضد الاستبداد السوفييتي وينقل عن جيرار قوله إن: «سنوات الحرب الباردة تبدو كعصر ذهبي، إذ شهدت تجميد جنون التهديد باستخدام السلاح بواسطة مبدأ الردع وعبر تسيير مشترك على أرض الواقع للسلام العالمي من قبل قوتين مهيمنتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي». ثم يؤكد أنه: «تكمن وراء تفجيرات 11 سبتمبر إرادة مجانين يحلمون بامتلاك القنبلة الذرية وباستخدامها، مع اللجوء بانتظار ذلك إلى حلول يدوية لإشاعة الرعب».   

لكن رينيه جيرار لا يبرّئ الغرب الديمقراطي والمتحضّر إذ يرى أن الغرب الليبرالي قد فقد صوابه في هيروشيما، وتصرّف للمرة الأولى، ممثّلا بأميركا، مدفوعا بجنون قاتل كالذي كانت الأنظمة الأوروبية المستبدة قد مارسته سابقا، من أجل وضع حد نهائي للحرب عبر إبادة الخصم. وإذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد عرف عمليات قتل جماعية في حربين كونيتين، وعرف النصف الثاني منه نوعا من الهدوء النسبي فإن: «تفجيرات 11 سبتمبر دشّنت أسوأ توقعات المستقبل بالنسبة للقرن الحادي والعشرين مع بروز أفق إبادة شاملة قد تستكمل البشرية، مقلّدة سلوك الغرب أثناء الحرب العالمية الثانية، فقدان صوابها عبر فتح الأبواب على مصراعيها أمام قوى التدمير الذاتي التي تحملها منذ الأصل في داخلها».   

وتتم الإشارة هنا إلى أن تفجيرات 11 سبتمبر دفعت مسألة الانتشار النووي إلى مقدمة اهتمامات أميركا، وينبغي عدم نسيان أن كوندوليزا رايس وبول وولفويتز كانا من بين الاختصاصيين بهذه المسألة في وزارة الخارجية الأميركية أثناء الحرب الباردة. في الوقت نفسه انطرحت على إدارة جورج دبليو بوش بقوة مشاكل الأمن المطروحة أصلا على الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وإذا كانت المواجهة النووية مستحيلة عمليا في ظل الردع وإمكانية التدمير المتبادل أثناء الحرب الباردة، فإن الأمر قد تغيّر بعد 11 سبتمبر وأصبح كل شيء محتملا.

وكان رينيه جيرار قد تبنّى فكرة وجود رابطة بين تنظيم القاعدة والأنظمة الاستبدادية في العالم الإسلامي التي تريد التزود بالسلاح النووي. وهذا ما يشير المؤلف إلى عدم تمكن واشنطن من تقديم البراهين عليه في حالة النظام العراقي بقيادة صدام حسين، مما أدّى إلى توجيه أوروبا أصابع الاتهام لأميركا التي شنّت حربا ضد العراق على أساس حجة وهمية. هذا ما يرد عليه أنصار الحرب الأميركية ضد العراق بالقول أن طموح العراق في ظل صدام أو إيران اليوم هو «تقليد الغرب من حيث قدرته على التدمير من أجل الانتهاء من قرون من الإذلال والانحطاط».   

بناءً على مثل هذا المنطق كان من حق الولايات المتحدة أن تفعل كل شيء من أجل إبعاد ذلك التهديد، لاسيما حيث كان الأكثر وضوحا، أي في منطقة الشرق الأوسط. النتيجة التي تم الوصول إليها في مثل هذا النهج من التحليل تعبّر عنها جيدا الجملة التالية: «لقد أخطأ بوش في تحديد الهدف لكنه رأى الخطر جيدا».   

هذه الحجّة العقلانية القائمة على أساس وجود تهديد نووي من «دول مارقة»، وليس فقط من قبل تنظيم القاعدة، هي التي رفعتها الولايات المتحدة من أجل إقناع الأوروبيين بالتحالف معها من أجل استخدام القوة في بلاد ما بين النهرين. ولم يتردد الأميركيون أيضاً في الحديث عن «تكشّف النوايا» الإيرانية في ميدان التسلح النووي. كذلك استخدموا ورقة أخرى مفادها أن أميركا هي التي كانت على الخط الأول في مواجهة الخطر النووي السوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة، وبالتالي قامت إدارة بوش يعقد مقارنة بين الخطر الشيوعي في الأمس وبين خطر المتشددين اليوم من أجل إقناع أوروبا المترددة في الموافقة على خوض الحرب.   

ويشير المؤلف هنا إلى أن فرنسا، التي كانت رأس الحربة في معارضة الحرب الأميركية ـ الانجليزية ضد العراق، هي التي كانت قد أظهرت أكبر قدر من التعاطف مع أميركا إثر وقوع تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك هو أول رئيس أجنبي يصل إلى نيويورك من أجل مواساة أميركا الجريحة بفعل الاعتداءات التي فجّرت رمزها في مانهاتن. كما كانت فرنسا وأوروبا كلها والحلف الأطلسي قد شاركت في الحرب ضد أفغانستان بعد عدة أسابيع من التفجيرات. لكن الإستراتيجية الأميركية على المدى الطويل لمكافحة محور الشر سببت سوء تفاهم كبيرا بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.   

لماذا؟ هذا ما فسّره رينيه جيرار لمؤلف هذا الكتاب بالقول: «لم تفهم أوروبا رد الفعل الدفاعي لأميركا كما لم تفهم خطورة وطبيعة التهديد الجديد. كانت أميركا قد شعرت حتى آنذاك أنها في حالة أمن مطلق. وقد كان النموذج الذي تحتذي به هو في الواقع انجلترا.   

فإذا كانت انجلترا قد نجحت بواسطة بحر المانش الصغير في الاحتماء من الأطماع والأخطار التي مصدرها القارّة ومن غزوات لويس الرابع عشر ونابليون وهتلر، فإن أميركا كانت تعتقد أنها أيضاً جزيرة محميّة تماما. لقد جاءت عملية تفجير برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك كي تهزّ ذلك الأمن.   

ومن هنا جاء تصميمها على معالجة القضية من جذورها في جميع أنحاء العالم وليس في أفغانستان فقط. وما لا تستطيع أميركا قبوله هو أن تتأثر السياسة الأوروبية حيال الحركات المتشددة بواقع وجود جاليات إسلامية كبيرة فيها، في الوقت الذي كانت سياسة أميركا نفسها حيال نظام جنوب إفريقيا السابق قد تأثرت بواقع وجود رأي عام أميركي أسود. ولا شك أن أوروبا تميل إلى الاعتدال فيما يتعلق بكل ما له علاقة بالإسلام، الأمر الذي لا تقبله الرؤية الأميركية للأخطار الجديدة».  

بين قوسين  

يفتح المؤلف قوسين هنا كي ينتقل بقارئه إلى استطلاع للرأي نشرته صحيفة «الواشنطن بوست» في صيف عام 2005. لقد أظهرت نتيجة ذلك الاستطلاع للمرة الأولى أن أغلبية الأميركيين لا يؤيدون سياسة جورج دبليو بوش في العراق.   

يسأل المؤلف: هل أدّت التفجيرات الانتحارية التي تدمي العاصمة العراقية يوميا إلى جعل أميركا العميقة تتأثر، وذلك بعد مرور عامين وثلاثة أشهر على سقوط صدام حسين؟ لقد رأى هنري كسنجر أنه ينبغي الحديث من أجل تنحية إغراء إمكانية انسحاب أميركي مبكر بدا بالظهور. وقد حرص، وهو الذي يمثل سلطة «أخلاقية» بالنسبة للأميركيين الجمهوريين، على أن يذكّر مواطنيه بالحقائق التي يؤمن بها حيال التجربة الفيتنامية.  

في أبريل 1975، كان هنري كيسنجر وزيرا للخارجية في إدارة جيرالد فورد. هكذا عاش من الداخل مع دونالد رامسفيلد، الذي كان آنذاك موظفا كبيرا في البيت الأبيض، مأساة جلاء آخر جنود المارينز عن سايجون، العاصمة الفيتنامية، قبل دخول دبابات الفييتناميين الشماليين إليها. ولا تزال ضربة ذكرى السفير وهو يطوي العلم الأميركي قبل أن يكون آخر من غادر الهند الصينية بطائرة عمودية (هيلوكبتر) تلك الصورة لأميركا «المذلولة» شاهدها العالم كله.  

لكن الحزب الجمهوري الأميركي كان على اقتناع، حسب العديد من التحليلات، بأن أميركا لم تخسر حرب فييتنام. وإذا كانت الولايات المتحدة قد اضطرت إلى خوض الحرب من موقع متراجع، فإن ذلك يعود لكون أغلبية أعضاء الكونجرس بقيادة الديمقراطي جورج ماكنرني، رفضت الموافقة على منح الرئيس فورد الاعتمادات التي كان ينبغي منحها لتأمين الإمكانيات العسكرية الضرورية للحكومة الفييتنامية الموالية لأميركا في جنوب الفييتنام من أجل القيام بهجوم مضاد. بل ويؤكد هنري كسنجر أن «شرف أميركا في فييتنام قد تعرّض للخيانة من قبل الحزب الجمهوري».   

ويرى مثل ذلك التحليل أن الحزب الديمقراطي الأميركي قد كشف عن قدر خطير من التراخي فيما يخص دور أميركا في العالم. وإنه قد نسي الدرس الأساسي التي ينبغي على كل قوة تستحق هذه التسمية وهو الذي صاغه أحد أكبر منظّري الحرب في تاريخ الإنسانية كارل فون كلاوزميتز بالقول: «لا يمكن قبول إدخال مبدأ الاعتدال في فلسفة الحرب نفسها، دون اقتراف خطأ فاحش». وبالتالي ينبغي الاستفادة من عبرة الدرس الفيتنامي في العراق.   

والمقصود بالطبع ليس هو درس الخوف من التورط أكثر كما جاء في العديد من افتتاحيات الصحف، وإنما بالأحرى درس أميركا التي لا تتراجع والتي، إذا اقتضت الحاجة لا تتردد في زيادة حجم وجودها العسكري في أرض المعركة. الوجه الآخر للتردد الديمقراطي هو التأكيد أنه يمكن للأميركيين أن يناموا قريري العين بهدوء مع الحزب الجمهوري، ذلك أنه لن يقع تحت إغراء ارتكاب الخطأ الفاحش. وبالتالي لن تكون هناك فييتنام ثانية في العراق.   

ثم ينتقل المؤلف للحديث عن لقائه بهيليل فردكاين الذي يصفه أنه من التلامذة المخلصين للأب الروحي للمحافظين الأميركيين الجدد، أي ليو شتراوس. ويقارنه ببول وولفويتز، أحد الصقور السابقين في وزارة الدفاع الأميركية حيث كان يشغل منصب رئيس البنك الدولي.  

كان وولفويتز هو منظّر حرب العراق، بينما أن هيليل فردكاين هو أحد أفضل الاختصاصيين الأميركيين بالحركات المتشددة. والاثنان صديقان حميمان منذ زمن طويل. لقد تابعا خلال سنوات الستينات في كورنيل أو في شيكاغو محاضرات الآن بلوم، الوريث الروحي الأكثر شهرة لليو شتروس.   

عربة أوروبا التركية  

يشير المؤلف إلى أنه أراد أن يبحث مع محاوريه في بداية كل حديث موضوعا لا يثير حفيظة أي من الطرفين الجمهوري والديمقراطي، وهو موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي حيث يؤيدان كلاهما بحماس انضمامها إلى القارة القديمة.   

بل وتتم الإشارة إلى أنه عشية يوم 4 أكتوبر 2005، أي تاريخ توقيع موافقة أوروبا على الشروع بمفاوضات مع تركيا في أفق انضمامها للاتحاد الأوروبي، اتصلت كوندوليزا رايس شخصيا، بطلب من رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي كانت بلاده تترأس الاتحاد آنذاك، بوزير الخارجية التركي كي تشجعه على توقيع الاتفاق الذي تمّ الوصول إليه بصعوبة بالغة في بروكسل من قبل بلدان أوروبا الــ 25، رغم المعارضة الشديدة للنمسا. هكذا جرى وضع «عربة أوروبا التركية على السكّة المطلوبة».   

كان طرح موضوع تركيا مجرد وسيلة «مهذبة» من أجل الوصول إلى البحث في الإستراتيجية الأميركية حيال الحركات المتشددة والمسألة العراقية، حسبما يعترف المؤلف ليؤكد في الوقت نفسه أن «مشروع دمج تركيا يمثل رغبة أوروبية في تقديم البرهان لواشنطن على وجود سياسة أخرى حيال العالم الإسلامي».  

هذا ما عبّر عنه أيضاً هيليل فردكاين بالقول: «إن تركيا هي المثال الذي كانت أوروبا تحتاجه كي تبرهن على أنها قادرة على انتهاج سياسة خارجية فعّالة جدا في مجال جعل الآخرين ينضوون تحت راية قيمها ومبادئها»، ذلك أن نجاح أوروبا في توسيع إطارها كي يشكل تركيا «المتؤوربة» إنما يبدو لها بمثابة انتصار تاريخي على أميركا التي هي بصدد خوض معركة شرسة مع «العالم الإسلامي»، لاسيما وأن تركيا تشكل عنصرا أساسيا في الإستراتيجية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط. كما أن الأوروبيين قد يرون في دمج تركيا داخل إطار الاتحاد الأوروبي نجاحا فيما عجزت «أوروبا المسيحية» أن تحققه خلال محاولات عديدة على مدى قرون من الزمن، وإنما بالقوة.  

وفيما هو أبعد من المسألة التركية، ينقل المؤلف قول هيليل فردكاين له حول الرؤيتين الأميركية والأوروبية لما أسماه بالحركات الإسلامية المتطرفة ما يلي: «إن أوروبا لا تمتلك في الواقع أية فكرة عمّا ينبغي عمله حيال الحركات الإسلامية المتطرفة.   

ورجال السياسة الأوروبيون يتخبطون حول الموضوع، ومن الأولى أن تكون لديهم فكرة عن هذه المسألة، لكن لا فكرة لديهم. أمّا نحن فإننا نفكر بالأمر ونعتبر ذلك التطرف خطرا من الدرجة الأولى على أمننا القومي. ونرى أن إشاعة الديمقراطية في البلدان الإسلامية، مع كل ما يحمل هذا من مخاطر، تشكل على المدى الطويل الوسيلة الوحيده لدفعه».   

بدت آراء هيليل فردكاين أنها تقوم على أفكار ثابتة لديه، خاصة فيما يتعلق بالحرب على العراق، وذلك حتى في اليوم الذي أظهر فيه استطلاع للرأي أن أغلبية من الأميركيين قد أعلنوا عن معارضتهم الصريحة لسياسة إدارة جورج دبليو بوش في العراق.  

هذا مع تأكيد المؤلف على القول: «ليس هناك أي شخص يستطيع حقيقة أن يبيّن الأسباب التي دفعت أميركا بقيادة جورج دبليو بوش غداة 11 سبتمبر 2001، وربما قبل ذلك، إلى اجتياح العراق. وقد كان قرار شن الحرب هو النموذج الخالص للقرار التاريخي الذي تكشف نتائجه البعيدة وحدها عن نواياه السرية، أو تكشف عن أسبابه غير المبرّرة».   

ولا يتردد مؤلف هذا الكتاب في القول إن الملف القانوني ينضوي على مسؤولية كبيرة تقع على عاتق واشنطن. فنظام صدام حسين، «مهما كان مرعبا» فإنه لم يكن «متطرفا إسلاميا»، ولم يتم تقديم البرهان أبدا على أنه أقام صلات مع تنظيم القاعدة.   

ثم إن العراق المهزوم، منذ فشل عدوانه على الكويت، ترك جيرانه بسلام ولم يخرق القانون الدولي أبدا. مخزوناته من الأسلحة الكيماوية جرى تدميرها، كما أن العراق كان ضعيفا بعد «حربه العبثية الطويلة»، والمدعومة من واشنطن، ضد إيران، وازداد ضعفا بعد هزيمته الساحقة أمام الجيش الأميركي وحلفائه في الكويت، وجاءت العقوبات الاقتصادية كي تزيد من هشاشته. ونتيجة لهذا كله لم يكن يمتلك المواد الانشطارية الضرورية من أجل صناعة قنبلة نووية كان قد حاول التزود بها سابقا، ولم يكن يمتلك أيضاً المعرفة التقنية المطلوبة لصناعة السلاح الفتاك.   

أمّا الجيش العراقي فقد كان في حالة يُرثى لها مثلما أظهر الغزو الأميركي. ولم تكن الطبيعة الاستبدادية الأكيدة للنظام سببا مقبولا لشن الحرب عليه، هذا إلا إذا شُنّت على طغاة دمويين آخرين يشكلون وصمة عار في جبين الإنسانية المعاصرة. هكذا بقيت حجة جعل العراق ديمقراطيا هي «القابلة للقبول» في نهاية المطاف. وقد تعهّد توني بلير أن يكون ضامنا لها.   

الصقور والحمائم اللطيفة   

ما يتم التأكيد عليه في التحليلات المقدّمة هو أن صقور واشنطن لم يريدوا أبدا الإصغاء إلى «الحمائم اللطيفة» الأوروبية حول التدخل العسكري في العراق. بل ولم يجهدوا أنفسهم في محاولة التعرّف بتلك النزعة السلمية على التعبير عن الألم الذي ترتب على حربين عالميتين في القرن العشرين تجاوز فيهما العنف الأوروبي الحضارة الأوروبية نفسها. ولا يريد الصقور الأميركيون أيضاً أن يفهموا أن فرنسا وألمانيا، أي الدولتين اللتين حاولتا ردع أميركا عن القيام بشن الحرب، قد نزفتا كثيرا وقاربتا الفناء خلال تلك الحربين.   

وفي معرض المقارنة بين آراء هيليل فردكاين المتزمت في نزعته المحافظة الجديدة، والذي يحتقر أوروبا التي خافت من ظلها ومن نفي هويتها، وبين آراء رينيه جيرار الفرنسي الأصل، إنما الذي هاجر منذ عام 1947 إلى أميركا وأقام فيها، يقول المؤلف إن الاثنين يؤيدان حق الولايات في «الدفاع عن نفسها».   

لكن جيرار، وعلى عكس فدركاين يرى في غزو العراق والنتائج التي ترتبت عليه مأساة تولّدت عنها مآسٍ أخرى. يقول: «لم تخترع أميركا تفجيرات 11 سبتمبر، وإنما كانت ضحية لها ومن حقها أن تطالب بالقصاص. وليس من المعقول وضع القوة العالمية للولايات المتحدة وعنف الإرهاب الدولي على قدم المساواة».   

ثم يضيف: «تنبغي ملاحظة أن نشوب الحرب قاد أكبر قوة عالمية إلى الابتعاد عن العقل، والدخول في تلك الحرب تحت غطاء أكاذيب كشف عن إرادة ثأر أعمى. الكذب هو اختيار مذنب بالصدفة دون أن تكون هناك براهين دامغة على أنه المذنب حقا. فمثل هذا الأمر يعني تحديد كبش فداء يؤدي الثأر منه إلى إحساس الأمة بأنها قد وصلت إلى خلاصها ويتم تحميله مسؤولية العنف وبالتالي يصبح هدفا للعنف الذي يكون كمتنفّس للغضب الدفين.   

إن أوروبا قد وجدت نفسها في تلك الحرب بين فكّي كمّاشة لقوتين، أي الولايات المتحدة والشبكات المتطرفة. وكل من هاتين القوتين تعتقد أنها تناضل ضد عدو تعتبره الشيطان الأكبر. لكن ليس هناك بينهما من ترى أن سياستها نفسها هي الشيطانية، ذلك أن ما تسترشد به هو تقليد عنف العدو».   

ويرى مؤلف الكتاب أنه عند الدخول في مثل هذا الفخ القائم على التقليد تصبح حجج القانون عبثية وعاجزة. ذلك أنه يتم الدخول إلى عالم لم يعد للجوء فيه إلى القوّة أي كابح بل يغدو مثل رد فعل طبيعي، واندفاعة لا يمكن أن يحد منها شيء، سوى إشباع الغرائز النازعة للتدمير. هذا الإشباع وحده هو الذي «يهدئ ثورة الحيوان الجريح».  

ويروي المؤلف أنه قبل أسابيع من اندلاع حرب الخليج، كان فريتز بولكشتاين، المفوّض الأوروبي السابق، يتناول طعام العشاء في بروكسل مع جون اشكروفت، وزير العدل الأميركي في إدارة جورج دبليو بوش الأولى والتي كان يمثل فيها اليمين المسيحي الجديد. وكان لا يقل تصميما عن بول وولفويتز في تأييد الحرب على العراق.   

وقد سأله بولكشتاين: «سيادة الوزير، نحن نعتقد جميعا أن جيوشكم سوف تدمّر بسهولة جيوش صدام حسين. ولكن ماذا بعد؟ ماذا ستفعلون بعد ذلك؟». وكانت الإجابة التي قدّمها تسمح باستشفاف ما هو الأسوأ إذ قال: أنا متأكد أن الموجودين في واشنطن يفكرون بهذه المسألة». وهذا ما استخرج منه المفوّض الأوروبي السابق النتيجة التالية: «هنا بالتحديد تكمن كل مأساة تلك الحرب، إذ نحن اليوم في العراق أمام استحالة بناء أي شيء قابل للاستمرار».   

إضاءة   

رينيه جيرار لا يبرّئ الغرب الديمقراطي والمتحضّر إذ يرى أن الغرب الليبرالي قد فقد صوابه في هيروشيما، وتصرّف للمرة الأولى، ممثلا بأميركا، مدفوعا بجنون قاتل كالذي كانت الأنظمة الأوروبية المستبدة قد مارسته سابقا، من أجل وضع حد نهائي للحرب عبر إبادة الخصم. 

وإذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد عرف عمليات قتل جماعية في حربين كونيتين، وعرف النصف الثاني منه نوعا من الهدوء النسبي فإن: «تفجيرات 11 سبتمبر دشّنت أسوأ توقعات المستقبل بالنسبة للقرن الحادي والعشرين مع بروز أفق إبادة شاملة قد تستكمل البشرية، مقلّدة سلوك الغرب أثناء الحرب العالمية الثانية، فقدان صوابها عبر فتح الأبواب على مصاريعها أمام قوى التدمير الذاتي التي تحملها منذ الأصل في داخلها».

 
 
 
شـبكـة الـمنصـور
الخميس / 12 / تمـــوز / 2007