بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

كتاب - عاصفة تحت جمجمة

الحلقة ( 3 )
واشنطن تعتبر باريس حصان طروادة للقانون الدولي في الغرب

 

شبكة المنصور
عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف
تأليف : سيباستيان فومارولي
 
 
المحافظون الأميركيون الجدد هم المهندسون الرئيسيون لسياسة إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وقد ازداد دورهم بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001. ولهم مفكروهم ومراكز أبحاثهم ومنظماتهم، ولهم أيضاً ارتباطاتهم العضوية مع الحزب الجمهوري الأميركي. ولكن ألا يوجد في أميركا سوى المحافظين الجدد ومؤيدي الحرب على العراق؟ هناك أيضاً من يختلفون معهم ويناقضونهم، ومن بين هؤلاء ستانلي هوفمان.

عمل ستانلي هوفمان أستاذاً في جامعة هارفارد منذ عام 1953، وهو على اقتناع أن «الثورة المحافظة الجديدة التي تخيّم على البيت الأبيض منذ انتخاب جورج دبليو بوش عام 2000 لن تكون سوى لحظة سيئة جدا ينبغي تجاوزها». وهو يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة ويصفه المؤلف أنه «ديناصور أميركي للنزعة الديغولية التاريخية».ذلك أنه كان قد عايش فترة الحرب العالمية الثانية 1940-1944 في فرنسا، أي فترة الهزيمة والمنافي والحياة السرية. وهو من مواليد النمسا عام 1928، من أم يهودية وأب أميركي. ويقول عن تلك الفترة، كما ينقل عنه المؤلف: «كان عمري 12 سنة عندما كنت في مدينة نيس بجنوب فرنسا. وفي المدرسة الإعدادية كنت أسمع رفاقي يرددون الخطاب المحافظ والمعادي للانجلوسكسون لأهاليهم. وقد احتفظت طيلة حياتي بصوتين في رأسي، هما صوت هتلر وصوت الجنرال ديغول، صوت الكابوس من هتلر وصوت الأمل لدى الجنرال».

بعد حصول ستانلي هوفمان على الإجازة الجامعية في العلوم السياسية من باريس حصل على منحة دراسية لمدة سنة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأميركية. يقول: «قبل سفري إلى أميركا كنت أرغب بمتابعة الدراسة في المدرسة الوطنية العليا للإدارة، أي المدرسة التي تخرج منها العديد من قادة فرنسا بمن فيهم الرئيس السابق جاك شيراك. لكن إقامتي في هارفارد أقنعتني سريعاً بتغيير مشروعي. لقد قابلت هناك هنري كسنجر وزبينجيو بريجنسكي وصموئيل هنتنغتون ونيكولا وول وجوديت شكلر الذين كانوا جميعهم طلبة في الجامعة أيضاً مثلي. وبعد أن أمضيت خدمتي العسكرية في فرنسا عرضت علي جامعة هارفارد منصب أستاذ فيها قبلته على الفور. وما زلت أقوم بالتعليم فيها منذ خمسين سنة».

هكذا تكلم هوفمان

راقب هوفمان من هارفارد عودة الجنرال شارل ديغول إلى السلطة عام 1958. كانت الصورة السائدة لمنقذ فرنسا هي أنه عسكري كبح مبادئ الديمقراطية وأنه دكتاتور عجوز وديناصور سياسي من حقبة أخرى وشبيه لفرانكو، إلى ما غير ذلك من التوصيفات السلبية. ذلك أن علاقاته العاصفة مع الرئيس الأميركي روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية أساءت إلى صورته كثيرا في أميركا.

وكانت دوائر السلطة في واشنطن ترى فيه خطرا كبيرا من حيث إنه أنعش المبدأ السياسي القائل بتوازن القوى. كذلك يرى الأميركيون أن الجنرال كان قد جهد في عام 1946 كي يحد من النفوذ الانجليزي-الأميركي في القارة الأوروبية وكي يكبح نهوض ألمانيا من دون خشية الاعتماد على الاتحاد السوفييتي. لكن ستانلي هوفمان يؤكد أنه كان دائما، وعلى عكس التيار السائد، سعيدا لعودة الجنرال إلى السلطة وتأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958، ذلك أن البلاد كانت قد أصبحت غير محكومة في ظل الجمهورية الرابعة».

ويشير مؤلف هذا الكتاب إلى أنه تحدث هاتفيا للمرّة الأولى مع ستانلي هوفمان، غداة القبض على صدام حسين من قبل القوات الأميركية في ديسمبر 2003. وقد أعرب له يومذاك عن عدم اعتقاده بالانتصار في العراق. ويوم أعلن دومينيك دوفيلبان، وزير الخارجية الفرنسية آنذاك، في الأمم المتحدة بتاريخ 14 فبراير 2003 معارضة فرنسا الجريئة لغزو العراق، قال هوفمان لنفسه إن «الديغولية الفرنسية قد يمكنها أن تخبئ الكثير من المفاجآت أيضاً للعالم».

ولم يتردد في الدفاع عن الموقف الفرنسي، وكتب المقالات واحدا بعد الآخر كي يشرح لمواطنيه الأميركيين أن ما قاله وزير الخارجية الفرنسي ليس مجرد حركة جميلة لرجل أرستقراطي يلعب بالألفاظ من أجل ابتداع سلطة أخلاقية وإنما هو يترجم بالأحرى مبدأ سليما قادرا على إنقاذ أميركا نفسها من «أفكارها الشيطانية».

وقام هوفمان من أجل إقناع مواطنيه الأميركيين بتأليف كتاب تحت عنوان: «عالم آخر» ضمّنه المقولات التي طرحها دومينيك دوفيلبان. لقد شرح فيه أن دوفيلبان ليس ديغول وأن السياسة الفرنسية اليوم مختلفة عن سياسة الجنرال الذي كان يسخر من منظمة الأمم المتحدة بينما جعل دوفيلبان من القانون الدولي حصان معركته.

وكان الجنرال متشددا في الدفاع عن الاستقلال الوطني بينما يدافع الوزير الفرنسي اليوم دفاعا مستميتاً عن عالم يسود فيه اقتسام السيادة. والجنرال كان عسكريا متمسكا ب«القوة الضاربة» بينما دوفيلبان دبلوماسي يعطي الأولوية للمفاوضات من أجل حل النزاعات وللتنسيق بين القوى. لكن مع هذا كله «دلّت فرنسا بصورة غير مباشرة للمعارضة الأميركية السبيل الذي ينبغي اتباعه من أجل تحديد بديل للسياسة الخارجية لجورج دبليو بوش».

بدا هوفمان مثل العصفور النادر في دفاعه عن أطروحات دوفيلبان في واشنطن، لاسيما أن الإدارة الأميركية كانت قد أعلنت سخطها الشديد على فرنسا تحديدا بسبب موقفها حيال الأزمة العراقية وقد جاء على لسان كوندوليزا رايس نفسها قولها: «النسيان بالنسبة لروسيا والغفران لألمانيا ومعاقبة فرنسا».

وينقل مؤلف هذا الكتاب عن ستانلي هوفمان مقابلة أجراها معه على سؤال حول موقفه المتفرّد حيال دوفيلبان، لاسيما أنه أحد مفكّري هارفارد قوله له: «كان دوفيلبان، منذ نشوب الأزمة العراقية هو الرجل الذي ذكّر الولايات المتحدة بحدود قوتها. وكان ذلك يثير الدهشة والغضب، أو ربما يثير الابتسام الساخر في اللحظة التي كان قد نجح فيها العسكريون الأميركيون بإلقاء القبض على صدّام حسين حيّا.

أي ما كان يمثل انتصارا يرفع معنويات القوات الأميركية في العراق ويزيد من شعبية جورج دبليو بوش في داخل أميركا ويعزز احتقار البنتاجون حيال جميع التحذيرات الفرنسية. لكن كان لا ينبغي الانبهار بحدث عابر، ذلك أن الوضع في العراق كان يدعو أكثر من أي وقت مضى لتأكيد صحة تشخيص الدبلوماسية الفرنسية».

وقد أكد هوفمان في السياق نفسه أن المحافظين الأميركيين الجدد رأوا في تأكيد فرنسا على ضرورة احترام القانون الدولي علامة ضعف وتخلٍ عن أية سياسة تقوم على القوة الوقائية. وبالتالي لم يروا فيها دليلا على الأخذ ب«سياسة يفرضها الواقع». لكن هذا كله لم يمنع حقيقة أن المعارضة الفرنسية للتدخل الأميركي في العراق قد ساعدت كثيرا على بلورة رأي مغاير للسياسة الرسمية الأميركية.

كلام جميل

إن الكلام الجميل الذي تفوّه به ستانلي هوفمان حيال خطاب دومينيك دوفيلبان في الأمم المتحدة وإعلان معارضة فرنسا للحرب في العراق، لم يؤدّ مع ذلك، كما يرى مؤلف هذا الكتاب، إلى «بلورة» إجماع كبير مناهض لجورج دبليو بوش. ذلك أن الأثر العميق الذي أوجدته تفجيرات 11 سبتمبر 2001 أثقل كثيرا في توجيه رأي الأميركيين.

إن أغلبية نوّاب الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي اقترعوا لصالح شن الحرب بما في ذلك الذي نافس بوش في الانتخابات الرئاسية لعام 2004 ودعا إلى «أميركا أخرى»، أي السناتور جون كيري. وكان كيري هذا قد عارض عام 1991 حرب الخليج الأولى ثم دعم حرب بوش الابن في العراق.

ثم اقترع ضد منح الاعتمادات التي طلبتها إدارة بوش من أجل تمويل عملية إعادة تعمير العراق الذي خرّبه الغزو الأميركي. لقد كان ذلك كله، برأي المؤلف دائما، انعكاسا لحالة «التخبط» التي عرفها الحزب الديمقراطي وانزياح موقفه بالنسبة لأميركا التي كانت قد انضوت منذ 11 سبتمبر تحت لواء الحرب ضد الإرهاب التي بدا جورج دبليو بوش أنه أفضل رئيس أركان لها.

وللمفارقة كانت آراء ستانلي هوفمان المناهضة لسياسة المحافظين الأميركيين الجدد قد وجدت آذانا صاغية أكثر لدى الجمهوريين. كانت أميركا تعتبر نفسها ضحية للعدوان ومحاصرة، وقد أخذت بمنتهى الجدية الهجوم «الخطير» ل«فرنسا، القوة الناعمة».

ويشير المؤلف إلى تقرير حول الإستراتيجية القومية للأمن صدر عن وزارة الدفاع الأميركية عام 2005، وأظهر الخطر الكامن الذي تمثله فرنسا التي غدت «حصان طراودة» للقانون الدولي في معسكر حلفاء الولايات المتحدة. بل غدت الحليف الموضوعي لألدّ أعدائها. وقد جاء في ذلك التقرير: «إن أعداءنا يستمرّون في تحدي سلطتنا كدولة ـ أمة عبر استخدام إستراتيجية الضعفاء التي تتضمن المنابر الدولية والإجراءات القضائية والإرهاب».

هكذا اعتبر الأميركيون إذن أن الشرعية الدولية تماثل الأسلحة الأخرى المستخدمة في الحروب غير المتكافئة التي يتم خوضها على جبهات مختلفة ضد أميركا. كذلك اعتبرت واشنطن أن قوة الضعفاء لا تظهر عبر إرهاب الدول المارقة فحسب وإنما تظهر أيضاً عبر النداءات الفاضلة لاحترام القانون الدولي والعدالة الدولية، أي ما يمثل غطاءً نبيلا لمحاباة الإرهاب ونسف إرادة الرد لدى الأميركيين.

وتتم الإشارة هنا إلى أنه بعد عامين من الأزمة الفرنسية ـ الأميركية حول الأزمة العراقية خففت أميركا من عدائها المعلن لفرنسا. ولم يعد هذا الأمر من أولوياتها بعد إعادة انتخاب للرئاسة من جديد عام 2004. لكن مواقف الإدارة الأميركية، ولمدة طويلة أيضا، لم تتغير في العمق، بل ولم تتحرك بوصة واحدة، لاسيما بعد أن خلفت كوندوليزا رايس «الذراع اليمينية النسائية لبوش» في منصب وزير الخارجية مكان «الحمامة» المربكة، كولن باول.

وما يؤكده ستانلي هوفمان هو أن «العالم متعدد الأقطاب» الذي حلم به الجنرال ديغول من أجل طي صفحة اتفاقية يالطا، التي قام بها الرؤساء الثلاثة روزفلت وستالين وتشرشل - استبعدوا ديغول منها- بتقسيم النفوذ في العالم، لم يتحقق مع انهيار جدار برلين. بل إن العكس هو الذي حدث. بل إن رايس تتصرف وتُبدي «احتقارا تاماً» للقانون الدولي. وتدير السياسة الأميركية تحت إشرافها ظهرها تماما لأفكار جورج بوش الأب أو لأفكار جيمي كارتر، أي إجمالا لتيار الأفكار المؤيدة في أميركا نفسها لمنظومة الأمم المتحدة ولحق الشعوب.

الغرب والانحطاط

يشير المؤلف في هذا السياق إلى المحاضرة الأولى التي ألقاها المفكر الأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما، في جامعة شيكاغو بتاريخ 8 فبراير 1989 في إطار ندوة حملت عنوان: «هل يعاني الغرب من الانحطاط؟». كانت محاضرة فوكوياما حول موضوع «نهاية التاريخ» وحيث تطورت هذه الفكرة كي يتم نشرها بعد عامين في كتاب حمل عنوان: نهاية التاريخ والرجل الأخير» والذي وضع «حجر الزاوية» للثورة المحافظة-الجديدة في السياسة الخارجية.

لقد عرف هذا الكتاب نجاحا كبيرا واهتم به جورج بوش الأب ثم جعلته إدارة جورج بوش الابن «الكتاب الأحمر» الصغير ـ على شاكلة كتاب ماو تسي تونج ـ الذي تهتدي به. كان فوكوياما أحد مساعدي بول وولفويتز في إدارة جورج بوش الأولى ـ بوش الأب-، وقد كانا مصدرا أساسيا في استلهام النظام الدولي الجديد بعد حرب الخليج الأولى عام 1991.

كان قد جرى طرد قوات صدام حسين خارج الكويت من قبل تحالف دولي وافقت عليه منظمة الأمم المتحدة. وكانت أوروبا قد حققت نجاحا في أول تدخل عسكري كبير لها بعد نهاية فترة الحرب الباردة. وبرهنت أنها قوة عسكرية لا تضاهى انضم تحت لوائها الغرب كله بما في ذلك فرنسا تحت قيادة الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران. كان القادة السياسيون في أوروبا وأميركا ينظرون آنذاك إلى المستقبل بعيون متفائلة.

وكانوا يلتقون حول فكرة قيام نظام جولي جديد متناسق اعتنق العالم كله في ظلّه مبادئ الحرية إثر سقوط جدار برلين وقيم الديمقراطية وأنه سوف ينضم بالتالي إلى «الثقافة الليبرالية الغربية الحديثة». لقد طوّر فرنسيس فوكوياما في كتابه عن «نهاية التاريخ» هذه الرؤية الليبرالية لحضارة عالمية هي في المراحل الأخيرة من تقاربها الاقتصادي والسياسي مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية.

ويرى مؤلف هذا الكتاب أن حرب العراق الثانية التي شنّها جورج دبليو بوش بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 تستلهم من إيديولوجية نهاية التاريخ نفسها، مع وجود مساهمات فوكوياما ووولفويتز في مراكز قيادية لتوجيهها، على الأقل في بدايتها. وما يؤكده المؤلف هو أن تطور مفهوم «نهاية العالم» منذ سنوات بوش الأب القائلة بتعددية الأطراف وسنوات بوش الابن، القائلة بوجود طرف واحد، لا يمثل قطيعة وإنما استمرارية، في مفهوم رؤية العالم. ففي الحالتين كانت الفرضية المرجحة هي نفسها، وتقول إن الولايات المتحدة، باعتبارها الديمقراطية الأكثر توازنا وثروة، تتطلّع إلى تبيين، أو بالأحرى إلى تسارع، اتجاه التاريخ الذي يقترب من «نهايته».

وإن تلك الإيديولوجية هي التي استرشدت بها، في عام 1991 كما في عام 2003، الإدارة الأميركية من أجل الانتهاء من تعددية قطبية مسؤولة، حسب تلك الإيديولوجية، عن تخمّر الحروب في الماضي. كما يتم التأكيد أن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة، بما في ذلك إدارة الرئيس الديمقراطي، بيل كلينتون قد تبنّت، إلى هذه الدرجة أو تلك، تلك الإيديولوجية. «التاكتيكات» الخاصة بتطبيقها هي وحدها التي تبدّلت.

وينقلها المؤلف عن جوزيف ناي المستشار السابق للرئيس كلينتون، والأستاذ في جامعة هارفارد أيضا، والأب الروحي لمبدأ «القوة الناعمة»، قوله له: «هناك فرق بين عالم متعدد الأقطاب وبين مقاربة متعددة الأطراف للعالم. إن العالم لم يكن متعدد الأقطاب في حقبة جورج بوش الأب وكلينتون، بل كان وحيد القطب، إنما كانت هناك إرادة استخدام المؤسسات والتحالفات، الأمر الذي لم يعد معمولا به في ظل إدارة بوش الابن».

لم تكن هناك أية قطيعة بين الإدارات الديمقراطية والجمهورية التي تولّت تسيير السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة. وبالتالي لا تشكل نزعة التدخل العسكري لدى المحافظين الجدد قطيعة وإنما هي ليست سوى أقلمة للنظام الدولي الجديد الذي عرفته إدارة جورج بوش الأب مع ظرف بدا من الواضح فيه أن العالم لن ينضوي عفويا وبشكل منسّق وسريعا تحت لواء الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق.

مفهوم فوكوياما

إن مفهوم نهاية التاريخ استطاع الصمود أمام المعارضة التي ظهرت داخل حركة المحافظين الجدد وبمقدار ما بدا واضحا فشل الحرب في العراق. لكن اعتبارا من عام 2004 أخذ فرنسيس فوكوياما مسافة من إدارة بوش قبل أن يقطع معها نهائيا في خريف السنة نفسها ويدعو للاقتراع لمصلحة المرشح الديمقراطي جون كيري. فما سبب انعطافه السياسي؟ يتساءل المؤلف ليشير أن فوكوياما قد اعتبر أن الخسائر التي سببتها النزعة الأحادية للسياسة الأميركية قد أنهت أي حظ لإمكانية انتصارها فيما بعد الحرب في العراق. هل هذا خلاف في التكتيك؟ يتساءل مؤلف الكتاب مرّة أخرى.

ويشير المؤلف إلى أن فرنسيس فوكوياما قد حدد بوضوح في كتابه: «أميركا على مفترق الطرق» الصادر عام 2005، الأسباب التي دفعته للانفصال عن أصدقائه في الأمس. ولم يتردد في اتهام إدارة بوش بأنها رسمت صورة شيطانية لحلفائها الأوروبيين وقدّمتهم على أنهم معادون لأميركا ومعادون للسامية، بل وتنقصهم الديمقراطية». وأعلن فوكوياما عن أسفه لعدم معرفة بلاده كيفية تقديم بديل ذي مصداقية للمبادرات الدولية التي أطلقتها أوروبا،.

وأنه كان على إدارة بوش أن تجد أدوات جديدة لتعددية قطبية فاعلة تؤدي إلى استقرار عالم ما بعد الحرب الباردة كما فعلت أميركا روزفلت وترومان بعد الحرب العالمية الثانية. كما يرى أنه كان على بوش الابن أن يكمل ما بدأه بوش الأب فيما يخص النظام الدولي الجديد. وفي المحصلة كان ينبغي على الولايات المتحدة ليس التدخل عسكريا في العراق فقط من أجل التخلص من صدام حسين وإعادة بناء نظام جديد في إطار دولة ديمقراطية فحسب.

وإنما كان ينبغي عليها أيضاً أن تعيد بناء أسس رؤية كانت إدارة بوش الأب قد بدأت بتنفيذها، عبر استخدام القوة الأميركية من أجل بناء مؤسسات جديدة لا تغفل دور الأمم المتحدة في العالم. ولا ينسى المؤلف أن يشير إلى أن كتاب «أميركا في مفترق الطرق» لا يجعل من مؤلفه فرنسيس فوكوياما محافظا جديدا «تائبا»، بل على العكس إنه يقوم بانتقاد إدارة جورج دبليو بوش باسم «نزعة محافظة جديدة أصيلة».

ويشير المؤلف إلى أن التيار الذي مثله فرنسيس فوكوياما والذي عزز مواقعه عام 2004 أخذته إدارة جورج دبليو بوش باعتبارها. وقد كان وراءها ما سمي ب«الانعطاف» باتجاه منظمة الأمم المتحدة، الذي شهدته الفترة الرئاسية الثانية لجورج دبليو بوش. وقد كانت المصالحة بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية حول القانون الدولي غداة الأزمة السورية-اللبنانية قد شكّلت ترجمة عملية لتلك المصالحة. وكان الاقتراع على قرار الأمم المتحدة رقم 1559، الذي نصّ على سيادة لبنان وانسحاب القوات السورية منه ونزع سلاح حزب الله، قد قام على أساس «صفقة» بين جاك شيراك وجورج دبليو بوش.

وكانت تلك الصفقة، كما يقدمها المؤلف، هي أن تقبل واشنطن تدعيم الدور التقليدي لفرنسا كحامٍ للبنان مقابل تضحية فرنسا بحليفها السابق سوريا، والتي كانت وزارة الخارجية الأميركية قد وضعت نظامها بعد تفجيرات 11 سبتمبر على القائمة السوداء. لقد صمم جاك شيراك على إقامة ذلك الاتفاق مع جورج دبليو بوش.

وفعل ذلك من أجل إيجاد مخرج للأزمة الفرنسية ـ الأميركية ولكن أيضاً على خلفية الشك بأن تكون سوريا هي التي وراء اغتيال صديقه رفيق الحريري. هكذا تولّت باريس، بمباركة واشنطن، عملية ديمقراطية لبنان عبر ضمانها تطبيق القرار 1559 الذي جرى التفاوض عليه مع الأميركيين. وكان يمكن لفرنسا أن تبدو وكأنها قد أخذت ثأرها عبر تطبيق سياسة صارمة باسم الأمم المتحدة، كما كانت قد ارتأت بالنسبة للعراق.

هنا يشير المؤلف إلى رواية أخرى، مختلفة تماما، حول الانعطاف الأميركي باتجاه منظمة الأمم المتحدة، قدّمه المحلل السياسي الانجليزي توني جودت وجاء فيه: «لقد أعطت أميركا الانطباع أنها لا تمتلك سوى القوة العسكرية، مما شكّل نقطة ضعف بالنسبة لها. إذ بمقدار ما يكون المرء قويا أكثر يكون بحاجة أكثر لأصدقاء. وكون أن الحرب ضد العراق لا تحظى بتأييد شعبي فإنها جعلت من الولايات المتحدة أحد البلدان المكروهة في العالم.

وقبل عام من إعادة انتخاب جورج دبليو بوش للمرة الثانية جرى نقاش إستراتيجي داخل وزارة الخارجية الأميركية تعارض فيه الجناح الأكثر تشددا في مجموعة المحافظين الجدد ممثل بأشخاص من أمثال بول وولفويتز، مع أشخاص معتدلين مثل فرنسيس فوكوياما الذي كان يرى أن الواجب الملحّ على أميركا هو أن تكسب العالم إلى جانبها بواسطة الحرب. وهنا بالتحديد تمّ تبنّي إستراتيجية الفترة الرئاسية الثانية لإدارة بوش والمتمثلة في تغيير الوسائل وليس تغيير الرغبات.

«أصبح المطلوب ليس تغيير السياسة وإنما محاولة اللعب داخل الإطار الدولي وليس ضد الإطار الدولي. وتعيين جون بولتون كسفير لأميركا في الأمم المتحدة أو تعيين بول وولفويتز رئيسا للبنك الدولي في مطلع رئاسة بوش الثانية كان تعبيرا عن تنفيذ تلك الإستراتيجي.
 
 
 
شـبكـة الـمنصـور
الخميس / 12 / تمـــوز / 2007