بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

  كتاب - عاصفة تحت جمجمة

الحلقة ( 4 )
  هنتنغتون : أميركا لن تنتصر في حربها ضد العراقيين أبداً

 

شبكة المنصور
عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف
تأليف : سيباستيان فومارولي
 
 

يضع المؤلف يدنا هنا على مجموعة من الأفكار التي تعد بالغة الأهمية في الطريقة التي ينظر بها المفكرون الأميركيون إلى العالم وسلسلة الورطات التي تواجهها أميركا على امتداد العالم، ويلفت نظرنا بشكل خاص أن المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون لا يتردد في التنبؤ بفشل أميركا في حربها الراهنة في العراق، ونتوقف طويلاً عند بدء الكثير من منظري المحافظين الجدد في الحديث عن أن الخلل ليس في مشروعهم السياسي وإنما في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، ولا نملك إلا أن نتأمل الدلالات الكامنة وراء الإشارة إلى أن أميركا تراهن على التطور التدريجي للنخب في العالم الثالث.  

«في عام 2012 سيكون رئيس الولايات المتحدة الأميركية»، هكذا قالت سامانتا بوير، الأستاذة في جامعة هارفارد، لمؤلف هذا الكتاب. إنها تقصد باراك اوباما السناتور الديمقراطي الشاب من ولاية إلينوي.ويؤكد المؤلف أن تلك كانت المرّة الأولى التي يسمع فيها باسم هذا النجم الأسود لليسار الأميركي المنبثق من المنطقة التي أعطت بيل كلنتون. باراك اوباما من أب إفريقي هاجر من كينيا ومن أم من كانساس سيتي، في قلب العمق الأميركي. برز نجمه في عالم السياسة عام 2004 عندما غطّى الخطاب الذي ألقاه أمام الكونغرس الديمقراطي في بوسطن على خطاب جون كيري، المرشح الديمقراطي للرئاسة في تلك السنة.  

وفي السنة نفسها أيضاً جرى انتخاب باراك اوباما عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية الينوي، في مدينة شيكاغو حيث توجد الجامعة التي تشكل عرين المحافظين الجدد. وكان من بين الديمقراطيين الذين عارضوا منذ البداية حرب بوش في العراق ولم يغيّر رأيه أبدا. لكنه على عكس هوارد دين، زعيم الحزب الديمقراطي، لا يرى في الجمهوريين الشر المطلق، وهو لا يريد بأي شكل من الأشكال أن يترك لخصومه الجمهوريين الاستئثار بالمسيحيين الإنجيليين في منطقة غرب وسط البلاد فاوباما مؤمن بالله وبأميركا.

 القوة اللطيفة  

كانت سامانتا بوير قد التزمت بتأييد باراك اوباما منذ هزيمة جون كيري في الانتخابات الرئاسية خريف عام 2004. وينقل عنها المؤلف قولها له: «مشكلة جون كيري هي أنه كان يخجل من أن يتفق مع جورج دبليو بوش. كان يخاف من أن يتفق معه. ولم ينقصه سوى شيء واحد كي يفوز في الانتخابات هو أن يقول: أنا اتفق مع جورج بوش ولكنني سأفعل ذلك بنفسي».

ويشير المؤلف إلى أن مثل هذا القول غير منتظر بالنسبة للأوروبيين الذين يراهنون على المعارضة الديمقراطية من أجل إعطاء أميركا صبغة القوة اللطيفة من جديد. بل ويشير إلى أن باراك اوباما قال تقريبا الشيء نفسه في فبراير 2006، عندما أشار إلى عجز الحزب الديمقراطي عن الاستفادة من أشكال فشل الجمهوريين، إذ جاء على لسانه: «لقد اكتفينا أثناء فترة طويلة بالوجود عبر معارضتنا المستمرة. لقد كنّا حتى الآن أقوياء كي نقول لا ولكنني أعتقد بأننا افتقدنا كثيرا الجسارة كي نقول نعم».

ويرى المؤلف أن سامانتا بوير لم تخطئ بمراهنتها على باراك اوباما،ذلك أن حلمها برؤية بطلها يجلس على كرسي جورج دبليو بوش قد يتحقق قبل أفق عام 2012 ذلك أن أميركا الديمقراطية المنتصرة إثر الحملة الانتخابية للكونغرس في خريف عام 2006 أظهرت اهتمامها الكبير باوباما، وما يسميه المؤلف ب«اوبومانيا». إن هيلاري كلنتون التي حققت فوزا كبيرا للمرّة الثانية في نيويورك عليها أن تأخذ في حسبانها إمكانية أن يكون منافسا كبيرا لها من أجل الترشيح عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية لعام 2008، لاسيما وأنه يحاول تقديم نفسه كمجدد لليسار الأميركي.  

في عام 1993 كان عمر سامانتا بوير 23 سنة، ويومها أخبرت أهلها أنها قررت الذهاب للمشاركة في الحرب الدائرة على الجبهة اليوغسلافية، ومثلما فعل ذات يوم مضى الروائي الكبير ارنست همنغواي عندما غادر كنساس وعمره 18 سنة ليلتحق بالصليب الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولى على الجبهة الإيطالية، عملت سامانتا بوير لمدة ثلاث سنوات كمراسلة حربية لمجلة «الايكونومست» البريطانية من جبهة البلقان، وذلك في الفترة التي كانت فيها حرب البوسنة تلقى قبول اليمين واليسار الأميركي لاستخدام القوة العسكرية للتدخل من أجل خدمة قضية ما.  

وهي الفترة نفسها التي كان ريتشارد بيرل وبول وولفويتز، المنظّران المتحمسان لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بالقوة، يلتقيان مع جورج سوروس ومايكل انياتين، المعروفين بأنهما من بين الطليعة المتنورة بين مثقفي الحزب الديمقراطي. لكن مثل تلك الوحدة المقدّسة تعثّرت منذ مغامرة المحافظين الجدد بشن الحرب ضد العراق.  

وفي عام 1999 أسست سامانتا بوير، بالاشتراك مع الكندي مايكل انياتين، زعيم الحزب الليبرالي في بلاده، مركزا مختصاً بدراسة سياسات حقوق الإنسان. وفي تلك السنة أيضاً قرر الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون أن تترأس بلاده ائتلافا غربيا لقصف صربيا ووقف المجزرة التي كان يتعرّض لها مسلمو كوسوفو. كانت تلك العملية التي تمّت من دون موافقة الأمم المتحدة بسبب استخدام روسيا لحق النقض وإنما بموافقة الحلف الأطلسي، هي الانتصار الأول الكبير لدعاة التدخل على المسرح الدولي. وكان توني بلير هو عرّاب ذلك التوجه.  

وبتاريخ 22 أبريل 1999 ألقى توني بلير خطابا في جامعة شيكاغو حول الحرب العادلة وختمه موجها الحديث للولايات المتحدة بقوله: «عليكم أن لا تقعوا من جديد في مبدأ الانعزال عن العالم الذي لم يعد يستطيع أن يسمح بذلك. عليكم أن تبقوا هذه البلاد المفتوحة على العالم وامتلاك الرؤية المخيلة كما هو معهود منكم. ولكن بعلمكم أنكم تستطيعون أن تعتمدوا على انجلترا كصديق وحليف سيكون بجانبكم وستصيغ معكم مستقبلا يسوده الازدهار للجميع...».  

في ذلك الخطاب حدد توني بلير عدوّين أساسيين هما سلوبودان ميلوسوفيتش الصربي وصدام حسين العراقي. لكن سامانتا بوير انتقدت بشدة الإيديولوجية ذات النزعة التدخلية التي قال بها توني بلير، وعارضت بقوة الحرب في العراق، وذلك ضد معسكرها من «صقور» نزعة التدخل الإنساني.  

تقول:«عندما دخلت أميركا في حرب ضد العراق في ربيع عام 2003، كانت إدارة بوش قد خرقت كثيرا القانون الدولي منذ 11 سبتمبر وبالتالي بدا لي أن القيام بتدخل عسكري في هذه الفترة وفي مثل هذه الظروف خطير بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية نفسها. وكانت أميركا قد بدأت تثير الحذر، وكانت مكروهة في العالم إلى درجة أنني رأيت الحرب ضد الإرهاب غير منتجة. وكان تحليلي أنها سوف تؤدي إلى عكس النتيجة التي نشبت من أجلها وأنها سوف تزيد من الإرهاب».  

وتضيف: «ألاحظ أنه منذ الإطاحة بصدام حسين، لا يزال العراقيون يبحثون عن أنفسهم، والخسائر المترتبة على هذه الحرب، والأثر السلبي الذي أثارته بالنسبة للنفوذ الأميركي في العالم وبالنسبة لاحترام القانون الدولي وعلى الاستقرار في المنطقة، إنما هي خسائر تفوق كثيرا المكاسب الممكنة التي كان ربما سيجنيها العراقيون من تغيير العراق. كنت أعتقد أن النفقات تفوق الأرباح. أتمنى أن أكون مخطئة وأن يكذبني المستقبل».  

رؤية مختلفة للعالم  

يرى مؤلف هذا الكتاب أن الآراء التي طرحتها سامانتا بوير حول دور رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إنما هي آراء مهمة جدا إذ تبيّن تأثيره لدى الحزب الديمقراطي في إيجاد شريحة واسعة تدعم حرب بوش في العراق. ويتم التأكيد في هذا الإطار على أن الهدف الأميركي ـ البريطاني للحرب في العراق قد تقرر في شهر يونيو 2002 أثناء لقاء بين توني بلير والرئيس الأميركي في تكساس.  

وقد جاء ما كشف عنه السفير الانجليزي في واشنطن بين 1997 و2003 كريستوفر ماير ليؤكد ذلك ويقول أن بلير كان مأخوذا بالقوة العسكرية الأميركية، ولم يقم بالتالي بأية مناورة دبلوماسية لدفع بوش للانتظار حتى نهاية عمل المفتشين الدوليين في العراق، بل على العكس لعب دورا نشيطا في تسريع الأمور ونشوب تلك الحرب. لكن بلير حرص في الوقت نفسه على أن يبدو في الدور الثاني كي لا يبدو في موقف نشاز على المسرح الأوروبي تاركا مسؤولية الحرب تقع كلية على كتفي جورج دبليو بوش.  

وبعد ست سنوات من خطاب بلير حول الحرب العادلة في شيكاغو بدا أن تجريم العدو باسم الإنسانية لا يمنع تلوث الأيادي بالدماء. لكن سامانتا بوير أكدت لمؤلف هذا الكتاب أن السياسة الخارجية الأميركية قد أخذت درسا كبيرا من تفجيرات 11 سبتمبر 2001. قالت: «إن الفشل في العراق لم يعرقل تقدما حاسما للسياسة الخارجية الأميركية دفعته صدمة 11 سبتمبر إلى ذروته. إن تفجيرات نيويورك قدّمت البرهان على الخطر الذي تمثله الدول المستبدة.  

لكن مثل هذه الحجة لم تكن مقنعة حقا حتى آنذاك كما أثبتت تجربة أفغانستان خلال عقد الثمانينات عندما كانت أميركا تدعم بكل وعي المجاهدين الأفغان. أما اليوم فيبدو أنه من الثابت في الولايات المتحدة مدى الارتباط بين كيفية معاملة الأنظمة لشعوبها وبين الخطر الخارجي المستقبلي الذي تمثله بالنسبة للعالم (...).  

إنه درس مهم جدا بالنسبة لسياستنا الخارجية مستقبلا إذ عندما تدعمون نظاما يسحق شعبه ويصادر حرية التعبير والحرية الدينية، فإن الكره الذي يتكدّس سوف يتوجه ضدكم مثلما، بل أكثر، مما يتوجه ضد ذلك النظام نفسه (...). نعم هناك عودة إلى الوراء فيما يخص حقوق الإنسان، ولكن هناك أيضاً اليوم نافذة صغيرة لتبرير المساعدة الإنسانية سياسيا ومن أجل تقليص الدعم للأنظمة الشمولية ـ التوتاليتارية. إن هذه الطريقة المتبصّرة في رؤية العالم والتعامل معه مفهومة اليوم بشكل أفضل في الولايات المتحدة مما كانت عليه قبل 11 سبتمبر».

ويعود المؤلف طويلا أيضاً إلى حواراته مع ليون ويزلتر، اليهودي النيويوركي، وخريج جامعة هارفارد، والذي كان قد انخرط عام 2004 بدعم الحملة الانتخابية لجون كيري، المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية وذلك انتقاما لنفسه من ذلك «الأحمق» الذي احتلّ البيت الأبيض. ذلك أن ويزلتر كان في البداية يساريا متحمسا لجورج بوش باسم أمن إسرائيل. لكن حماس الأمس أفسح المجال لغضب اليوم.  

هكذا أصبح من الصقور الذين فقدوا بوصلة التوجه، وذلك على عكس الحمائم الذين أعلنوا بوضوح وصراحة ندمهم إزاء أخطائهم مثل كولن باول، وزير خارجية أميركا السابق، عندما صرّح بتاريخ 9 سبتمبر 2005 قوله: «أنا الرجل الذي دافع أمام العالم عن ملف الأسلحة العراقية باسم الولايات المتحدة، ومسيرتي السياسية كلها تلطّخت حتى النهاية بهذا الخطأ الفادح».  

أمّا ليون ويزلتر فقد قال للمؤلف: «لم تتراجع أفكاري حيال هذه الحرب، أمام انبعاث المقاومة البعثية ولا أمام الجماعات التي تمارس العنف من السنّة أو الشيعة ولا أمام احتجاز الرهائن للنضال ضد الاحتلال الأميركي. ولم يكن هناك أحد، سوى حفنة من الحمقى في إدارة بوش، يتصور أن الانتصار في هذه الحرب سيكون سهلا وسيتم استتباب النظام بسرعة. ولم أكن أبدا بين أولئك الذين اعتقدوا أن الخير سوف ينبثق كمعجزة إثر الإطاحة بالشر الذي جسّده صدام حسين.  

وقد زعمت دائما أن الديمقراطية في العراق ستبدأ بسياسة إخلال بالاستقرار، مما يفترض قلب المنظومة القائمة مع احتمال أسوأ النتائج. لكن ما لم يستطع ضميري هضمه هو اكتشاف أن تلك الإستراتيجية الأميركية كلها لم تقم على سبب حقيقي. وقد أثار حنقي واقع عدم العثور على أية أسلحة للدمار الشامل في العراق. لا أعتقد أن الرئيس بوش قد كذب، وإنما هو بكل بساطة قد أخطأ. والرجال الذين قادوا تلك الحرب أظهروا نقصا مخيفا في البصيرة إذ أخطأوا بالهدف. وربما كان من الأفضل أن يركزوا مكافحة انتشار الأسلحة النووية ضد إيران. ولو أنني عرفت بعدم وجود أي تهديد نووي عراقي فما كان مني أن أدعم أبدا تلك الحرب».  

الهوة الأميركية ـ الأوروبية  

ما يؤكده المؤلف من خلال حديثه مع ليون ويزلتر أنه فهم مدى الهوة التي تفصل بين أوروبا والولايات المتحدة، لاسيما وأن محدثه من أهل اليسار. لقد فهم أن الحرب ضد العراق قد مثّلت بالنسبة للأميركي العادي مسألة التزام بالقيم الأساسية للبلاد. هكذا بدا عدم تأييدها بمثابة خيانة وطنية تقريبا. وبما أنه جرى تقديمها على أنها حرب من أجل نشر الديمقراطية في العراق، فإن معارضتها بدت، إلى هذه الدرجة أو تلك، كتأييد لوجهة نظر تقول إنه من المستحيل على بلد عربي ـ إسلامي أن يكون ديمقراطيا.  

وينقل عن ليون ويزلتر قوله له: «لا يمكن قسر شعب ما على أن يصبح ديمقراطيا. إن القول باستحالة ذلك يعني قبول وقوع مواجهة حضارية لا يمكن تجنّبها بين كتل تتبادل الكره ولا يمكن التوفيق بينها. كان ينبغي عدم الذهاب إلى العراق، ولكن منذ أن حدث ذلك تنبغي رؤية النتائج الممكنة.  

فإذا أردنا أم لم نرد، فإن مستقبل العراق أصبح اليوم، بفضل الأميركيين، بين أيدي العراقيين، ربما من أجل الأسوأ، ولكن ربما أيضاً من أجل الأفضل. إنهم أحرار في اختيار النظام الذي يتمنونه لبلادهم. إذا كنت لا أزال أدعم التدخل الأميركي فذلك لاعتقادي أن الديمقراطية لا تزال ممكنة في العراق. والثورة الحقيقية من أجل بلد عربي ديمقراطي ممكنة إذا أراد العراقيون ذلك».  

ويعلق مؤلف الكتاب على ما سمعه من محدثه الأميركي بالقول إنه يريد تحويل الهزيمة إلى انتصار، بل وإنه يحاول اتهام الثقافة الأوروبية بأنها المذنب الحقيقي في رفع مقولة صدام الحضارات، بل وأن تردد القارة العجوز في دعم برنامج نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط إنما يدل على إيديولوجية أوروبية تكره الآخر وينتهي ويزلتر إلى القول: «لقد تكشّف الدور المركزي لأوروبا في تاريخ العالم على أنه دور كارثي بصيغة الفاشية كما بصيغة الشيوعية، وملايين الأبرياء الذين فقدوا حياتهم نتيجة ذلك لا سابق لذلك في التاريخ. ولم يعد لي أي أمل تاريخي بالنسبة لأوروبا».  

ثم أضاف: «أعتقد أن أوروبا لن يكون لها، بأي معنى، أدوار أولى في تاريخ العالم. إذا سألتني رأيي عما إذا كنت أعتقد بأن أوروبا ستكون مركز التحالفات الإستراتيجية لأميركا، فسوف أجيبك بالنفي. في الواقع لم يعد لشيراك ولا لشرودر ولا للذين سيخلفونهما إمكانية تغيير مجرى التاريخ لما هو أفضل أو لما هو أسوأ. إنهم لا يملكون القدرة على ذلك. قد تثير المواقف الصادرة عنهم الانزعاج أو الرضا ولكن لم تعد لهذا أية أهمية».  

صدام الحضارات  

يعود مؤلف هذا الكتاب طويلا إلى مقولة صدام الحضارات في حواراته مع صموئيل هنتنغتون. وينقل عن الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي قوله إن المفكر الأميركي هو «جزء من تيار المحافظين الجدد الذي جعل من المواجهة الكونية مع الإسلام المسألة المركزية للقرن الجديد». لكنه قد يفاجئ الكثيرين عندما يؤكد خطأ مثل تلك المقولة. بل ويؤكد أن هنتنغتون كان بعيدا عن تشجيع إعلان حرب بين الغرب والعالم العربي-الإسلامي وأنه عندما تحدث عن صدام حضارات محتمل في سنوات التسعينات إنما كان يرمي إلى تشجيع أميركا على اتخاذ موقف متعقل من أجل تجنب ذلك.  

ويؤكد المؤلف أيضاً أن هنتنغتون كان منذ البداية معاديا للحرب ضد العراق. وينقل عنه قوله: «ما قلته قبل بداية الحرب هو أنه إذا دخل الأميركيون في العراق ستكون هناك حربان. الحرب الأولى ضد صدام حسين وضد نظامه وجيشه وضباطه. هذه الحرب سوف ينتصرون بها خلال شهر ونصف الشهر. أما الحرب الثانية فستكون حرباً ضد العراقيين. ولقد بدأت منذ سقوط الدكتاتور، وانفجرت بوضوح مع تمرد السنّة في مدينة الفلّوجة. هذه الحرب لن ينتصر الأميركيون فيها أبدا».  

كذلك ينقل عنه قوله: «أنا مؤمن بالقيم الغربية وبضرورة المحافظة على ما نحن عليه. وأؤمن أيضاً بضرورة الدفاع عن حقوق الإنسان وتشجيع انتشار الأفكار اللبرالية. لكن ينبغي أن يكون المرء واقعيا ذلك أن الغرب لم يعد يسيطر على العالم كما كان الأمر غداة الحرب العالمية الأولى.  

والعالم الإسلامي خاصة يشكل كتلة إيديولوجية ترغم الغرب على أن يتخلّى عن أي زعم بامتلاك البعد الكوني. وعلينا أن نعترف أن مجاميع كبرى مثل الصين والعالم العربي الإسلامي تحتل مقدمة المسرح دون أن تشاركنا قيمنا. إنها تتطور وتتعزز حسب إيقاعها وتوجهاتها. وبالتالي تغدو محاولة فرض تغيير نظامها أمرا غير مرغوب وغير ممكن. إن هامش مناورتنا ومصلحتنا يكمنان بالأحرى في المراهنة في هذه البلدان على التطور التدريجي للنخب المحلية».

ويرى مؤلف هذا الكتاب أن هنتنغتون يدعو لقبول «التعايش» بين الغرب والعالم العربي-الإسلامي الذي لا يشاركه بشكل عفوي القيم الليبرالية والدنيوية للديمقراطية، بل يرى أنه من مصلحة الغرب، من أجل حمايته والدفاع عن نفسه تجنب أي مجابهة مباشرة مع هذا العالم الصاعد أو الذي يصعد من جديد.

ويؤكد المؤلف أيضاً في السياق نفسه أن جون ميرشيمر، الأستاذ في جامعة شيكاغو والاختصاصي في السياسة الدفاعية للولايات المتحدة الأميركية، والمشهور بنزعته القومية المتزمتة يقاسم صموئيل هنتنغتون وجهة نظره، إذ يؤكد بدوره أن الولايات المتحدة باللجوء إلى احتلال عسكري للشرق الأوسط تلعب بتهور كبير ضد مصالحها وتخاطر بالدخول في حرب شاملة ضد عدو قوي. ثم إن المحافظين الجدد، بمتابعتهم للهدف غير المدروس المتمثل في نشر الديمقراطية بالقوة في العالم العربي-الإسلامي، إنما يغامرون بتوريط الغرب في نزاع يمكن أن يؤدي إلى تدمير الديمقراطية في المجتمعات الغربية نفسها.

لماذا يترنح الأميركيون؟  

ينقل المؤلف عن جون ميرشيمر قوله له: «النزعة القومية هي أقوى إيديولوجية على وجه الأرض. والسبب الرئيسي الذي دفع الولايات المتحدة إلى الترنح في العراق، هي أنها نسيت هذا المبدأ الذي كان وراء نجاحها طويلا. إن النزعة القومية، وليست الديمقراطية، هي الحامل الأكثر عقلانية للقوة فيما عرفه العالم.

ويتابع: «أعتقد أنه فيما يخص فهم الإرهاب، وفهم الشرق الأوسط، أظهرت السياسة الخارجية لفرنسا، رغم ما فيها من نواقص، أنها تتفوق على السياسة الخارجية الأميركية. وأغلبية الأوروبيين يعرفون ما نسيته أميركا. وأي طالب فرنسي في مجال العلاقات الدولية فهم أن الأميركيين سيواجهون عقبات جدية إذا اجتاحوا العراق أو أي بلد آخر في الشرق الأوسط. ذلك أنهم سوف يواجهون النزعات القومية المحلية القوية.

وكان الفرنسيون قد دفعوا الثمن كي يفهموا ذلك في الهند الصينية والجزائر خلال سنوات الخمسينات. والأميركيون كانوا قد فهموا الدرس في فييتنام خلال سنوات الستينات. لكنهم نسوه بعد نهاية الحرب الباردة. والعراق وضعنا من جديد أمام هذه الحقيقة التاريخية المتمثلة في قوة النزعات القومية بينما أننا قد نسينا نحن نزعتنا».

ويؤكد المؤلف أيضاً أن جون ميرشيمر لا يحتج على التحالف الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة وإنما ينتقد الدعم المفرط الذي تقدمه واشنطن للدولة العبرية والذي يجعلها مكتوفة اليدين في الشرق الأوسط ولا تستطيع أن تلعب دور الحكم. وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن ميرشيمر قد بدأ بدراسة العلاقات الخاصة بين البلدين اعتبارا من عام 1976 .

حيث أصبحت إسرائيل منذ ذلك التاريخ المستفيد الأكبر في العالم من المساعدات المباشرة الاقتصادية والعسكرية الأميركية. واعتبارا من عام 1982 استخدمت واشنطن حق النقض 32 مرة ضد إدانة إسرائيل في مجلس الأمن بشأن سياستها في الأراضي المحتلة. وتندرج حرب العراق ضمن إطار «العلاقة الخاصة» التي تضمن لإسرائيل أمانا أكبر في الشرق الأوسط.

 
 
 
شـبكـة الـمنصـور
الخميس / 12 / تمـــوز / 2007