بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

كتاب - عاصفة تحت جمجمة

الحلقة ( الاخيرة )
  بيل كريستول: هزيمة المارينز في العراق حطمت الحلم الأميركي

 

شبكة المنصور
عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف
تأليف : سيباستيان فومارولي
 
 

في ختام هذا الكتاب يجد القارئ نفسه على موعد مع رحلة أعمق في الفكر والحركة السياسيين الأميركيين، فإذا كانت أميركا قد وجدت نفسها وسط ظلام دامس بالمعنى الحقيقي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن هناك من كانوا قد أعدوا مشروعاً متكاملاً جاءت هذه اللحظة لتدفعه قدماً. 

ونحن نكتشف هنا أن معدي هذا المشروع كانت أعينهم على غزو العراق بالقدر الذي كانت لا تفارق دعم إسرائيل، ولا يتردد مفكرون أميركيون في طرح تساؤلات تجعلنا نتوقف طويلاً عند نمط تفكيرهم ذاته، فهم يتساءلون: هل لليابان مستقبل؟ ما قيمة غزو مدينة عربية تضم خمسة ملايين نسمة؟ ما الذي يميز أميركا عن بقية الإمبراطوريات التي عرفها العالم؟ «فرنسا ترفع من شأن مثقفيها الذين يلفظونها، والولايات المتحدة لا تتساهل حيال مثقفيها الذين يمجّدونها»، بهذه العبارة التي قالها المفكر الفرنسي الليبرالي الكبير ريمون آرون، يبدأ مؤلف الكتاب حديثه عن بيل كريستول مؤسس مجلة «ويكلي ستاندارد» عام 1995 المموّلة من الثري الأميركي-الاسترالي روبرت مردوخ. وهذه المجلة، كما يصفها المؤلف، هي: «أداة قوية للعمل السيكولوجي في خدمة الحزب المحافظ الجديد وإدارة بوش». 

والد بيل كريستول هو ايفرنج كريستول، الذي يطلقون عليه تسمية «عرّاب» المحافظين الجدد، بعد أن كان قد ترك صفوف الحزب الديمقراطي. «لقد انتقل بأسلحته وأمتعته إلى معسكر نيكسون ضد السناتور ماكجفرن. ومجلة بيل كريستول الأسبوعية خدمت كمثال في أوروبا لمجلة «ال فوجليو» في إيطاليا وبتمويل من زوجة سيلفيو برلسكوني. وكان برلسكوني نفسه، بعد عام من دعمه لحرب بوش في العراق، من موقعه كرئيس لوزراء بلاده آنذاك حيث يمتلك ثلاث قنوات تلفزيونية، قد تفاوض مع روبرت مردوخ حول فتح فرع لقناة «فوكس نيوز» التلفزيونية الأميركية. وذلك من منظور أن يجعل من روما رأس جسر لأفكار المحافظين الجدد في أوروبا. تخرّج بيل كريستول من جامعة هارفارد، وكان منذ سنوات شبابه الأولى معجبا بسنوات الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان. يقول: «كان ريغان شخصية كبيرة بالنسبة لنا. لقد نال إعجابنا ودعمنا. ولم يكن المثقفون يحبّونه كثيرا. 

وكان الأوروبيون يحتقرونه. لقد كان آخر رئيس واجه المظاهرات الكبرى لليسار في نيويورك وهوليوود. انتصر ريغان. كان الدرس الكبير الذي جعلنا ننخرط في العمل السياسي هو أن ريغان قد انتصر والمثقفون انهزموا. كما ترى أنني مثقف يعرف أن المثقفين على خطأ غالبا». كان بيل كريستول يعتبر المفكر الفرنسي ريمون آرون أستاذا فكريا له. - العودة إلى الواقع: بيل كريستول هو الذي ألّف، بالاشتراك مع روبرت كاجان، البيان الشهير للريغانية الجديدة عام 1996 والذي أرسى أسس السياسة الخارجية لأميركا بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001. ويقدمه المؤلف على أنه ناطق رسمي ممتاز يدعى بكل بساطة عالم النزعة المحافظة الجديدة ذي النزعة اليمينية وذي التوجه الليبرالي اقتصاديا. وما يمكن أن يمثله نيكولا ساركوزي في فرنسا وانغيلا ميركل في ألمانيا. وينقل عنه المؤلف قوله: «بدأ الرأي العام في أوروبا يفتح عينيه ويصل إلى نوع من النزعة المحافظة الجديدة على صعيد السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. هذا هو العالم الحقيقي، وليس هناك عالم آخر. يمكنكم القول أنه ينبغي العمل 35 ساعة أسبوعيا فقط، ويمكنكم القول إن الأمم المتحدة سوف تحل جميع المشاكل. لكن الاقتصاد يرفض السير في خطاكم والأمم المتحدة تبدي عجزها. وإذا أردتم حل مشكلة كوريا الشمالية أو إيران فإن مثل هذا النوع من القول الجميل لن يفيد في شيء، وتنبغي العودة إلى الواقع». 

هكذا يرى المؤلف أن النزعة المحافظة الجديدة لدى بيل كريستول هي ذات جوهر واقعي، ولا تشكل السياسة الخارجية سوى جزء منها. وبالتالي لا تشكل المغامرة العراقية لإدارة جورج دبليو بوش سوى أحد وجوه «النظام الجديد» الذي تريد واشنطن فرضه على العالم. وتشكل الليبرالية الاقتصادية أحد أعمدته الأساسية، وحتى بالنسبة لأوروبا، إذ ينقل المؤلف عنه قوله: «إن المسألة الأساسية المطروحة على أوروبا اليوم هي الليبرالية الاقتصادية لألمانيا وفرنسا. يمكنكم أن تحلموا كما تريدون لكن إذا لم يكن لديكم اقتصاد قوي فإنكم تذهبون في طريق مسدود». 

ويؤكد بيل كريستول في حديثه على أهمية «الثورة الليبرالية الجديدة» التي شهدتها سنوات إدارة رونالد ريغان والتي مثلت، حسب رأيه، انتصارا للفرع التاريخي للحزب المحافظ الجديد. وكان النهج الذي خطته سنوات ريغان قويا إلى درجة أن إدارة بيل كلينتون لم يكن أمامها أي خيار سوى متابعته. وتتم الإشارة هنا إلى أن كلينتون،من أجل فوزه في الانتخابات، أقام تحالفات عديدة مع اليمين، خارج حزبه، كي يحصل على تأييد أغلبية الأميركيين. هكذا يبدو أن بيل كلينتون والديمقراطيين الجدد في أميركا قد فتحوا الطريق أمام توني بلير في انجلترا كي يتبنّى نهجا يساريا ليبراليا يمشي، دون أي عقدة، على خطى الإرث التاتشري والريغاني. 

وفي محصلة حوار المؤلف مع بيل كريستول يصل إلى فكرة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية قد انتصرت في الحرب الداخلية التي خاضها المحافظون الجديد، خاصة منذ عهد رينالد ريغان. لكنها انهزمت في حرب أخرى، خارجية، في الشرق الأوسط. ويؤكد أن هزيمة الجيش الأميركي في العراق حطّمت الحلم الأميركي الذي كان قد تحقق على المستوى الداخلي عبر ما تمّ التوصل إليه من ازدهار في هذه البلاد الشاسعة. وينتهي المؤلف إلى القول: «أية سخرية سوداء. إن الأشخاص الذين نجحوا في تحقيق معجزة الداخل هم أنفسهم الذين جلبوا لبلدانهم تلك الكارثة الخارجية». 

الإمبراطورية الأميركية   

الصفحات الأخيرة في هذا الكتاب مكرّسة لاستعراض آراء «روبرت دوجاريك»، ذي المولد الفرنسي، الذي غادر فرنسا وهو في الثالثة عشرة من عمره كي يقيم نهائيا في نيويورك. تابع دراساته في جامعة هارفارد وجامعة يال. نشر العديد من الكتب حول آسيا الوسطى والقوقاز ومستقبل أوروبا والمسألة الكورية قبل أن يكرّس جهوده كلها للكتابة عن الإمبراطورية الأميركية. وكان دوجاريك قد عارض الحرب ضد العراق منذ البداية، ولكن باسم المحافظة على قوة الإمبراطورية. ويرى أنها إذا أرادت أن تبقى كذلك فليس أمامها سوى خيار واحد، هو تحمل تبعات ما يمليه البعد الإمبريالي. ويؤكد أن الوصول إلى مثل هذا الهدف يتطلب إقامة تحالفات متجددة باستمرار مع القارة العجوز، أوروبا، ومع الحلفاء الآسيويين كنهج بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية في القرن الحادي والعشرين.   

وينقل عنه المؤلف قوله: «ما ينبغي أن يبقى أساسيا بالنسبة للولايات المتحدة هو المحافظة على الدعامتين الأساسيتين لقوتها، أي أوروبا واليابان، أي المنطقتين القادرتين على توليد الثروة. أما البلدان المحيطية فليس لها أهمية إستراتيجية بالنسبة لأميركا. بهذا المعنى، تتميز أميركا عن بقية الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ. من حظ أميركا أنها بلاد ستكون دائما أكثر قوة طالما عرفت كيف تركز جهودها على حلفاء ذوي مردودية. هذا إلى درجة أنها قد تسمح لنفسها باقتراف أخطاء تكلّفها غاليا، مثل فييتنام في الأمس والعراق اليوم. لكن لا شيء يستعصي على التدمير فغزو العراق أساء كثيرا للولايات المتحدة».   

بل ويرى دوجاريك أن حرب العراق قد أصبحت رمزا حزينا لخلل عمل حكومة أميركا الإمبريالية، وإنها خرقت دستور الإمبراطورية القائم على واقع تاريخي محدد هو نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. كما يرى أن الإمبراطورية تسمح، إذا دعت الضرورة، ب«جرعة من التصرف من جانب واحد» تمارسها الولايات المتحدة، لكنها تضمن في الوقت نفسه حرية الحلفاء في التخلّي عن «التحالف» إذا أرادوا ذلك. ف«أميركا هي إمبراطورية يمكن للحلفاء أن يغادروها متى أرادوا.   

وفي عام 1967 ترك الجنرال ديغول الحلف الأطلسي ووافقت واشنطن يومها على جلاء القوات الأميركية. كانت فرنسا ضعيفة جدا، وربما كان بمقدور الولايات المتحدة أن تحيك مؤامرة ضد الديغولية، لكنها لم تفعل ذلك ولو فعلت لكان ذلك خيارا يعادل في مأساويته غزو العراق. لقد تركت ديغول يتابع بحرية سياسته في الاستقلال الوطني في إطار الاحترام المتبادل. ولم يتم عقاب فرنسا بل ساعدتها الولايات المتحدة ببناء قوتها الضاربة عبر بيعها طائرات للتزويد بالوقود من تصنيع شركة بوينج».  

بهذا المعنى بدت أميركا الإمبراطورية، بنظر روبرت دوجاريك، قوة كبرى يمكنها أن تميل للاعتدال،حيث تخدم التحالفات كمؤشرات للوصول إلى حالة من التوازن. لكن «حكومة بوش لم تفهم مدى المسؤوليات التي تفرضها القوة الأميركية على رئيسها. ورئاسة بوش هي النقيض تماما لرئاسة إمبريالية إذ لم تفهم فائدة التحالفات الأميركية من أجل ضمان الاستقرار العالمي»، حسب تعبير دوجاريك، المعيار الذي يطبقه هو أنه بمقدار ما تزداد القوة ينبغي التفكير بالآخرين أكثر.   

ويضيف دوجاريك: «أميركا هي إمبراطورية تعمل دون وجود أية سلطة مضادة لها، وليس لها عدو واحد سوى نفسها. ولنأخذ مثلا أزمة السويس عام 1956. فعندما أخطأ الفرنسيون والانجليز وأرادوا تنحية جمال عبد الناصر، قام ايزنهاور بدور الحكم. كان هناك حكم، وعندما اجتاح جورج دبليو بوش العراق، لم يكن هناك حكم. وعلى عكس غي موليه ـ رئيس وزراء فرنسا أثناء حرب السويس ـ وانطوني ايدن ـ رئيس وزراء بريطانيا آنذاك- لم يكن هناك من ينقذه من نفسه».   

ويؤكد دوجاريك من جهة أخرى أنه ينبغي على الإمبراطورية الأميركية أن تكون وفيّة حيال واجب حماية حلفائها، الأمر الذي يقتضي وجوداً عسكرياً أميركيا على أراضيها. ويقول: «أعتقد أن نقل القوات العسكرية الأميركية من أوروبا نحو الشرق الأوسط، مثلما فعلت إدارة جورج بوش، قد زاد من هشاشة الإمبراطورية. إن القارة العجوز بحاجة دائما لعنصر استقرارها الأميركي. ومن المفيد وجود 000 100 جندي أميركي في البلقان أكثر من وجودهم في الشرق الأوسط. وربما كان التدخل المباشر للولايات المتحدة قد أدى إلى تجنب المجزرة في البوسنة، وتمويل القوات الأميركية من أوروبا وكوريا، حيث تتمركز، باعتبارهما مركزين حيويين للقوة، إلى مناطق يتم احتلالها في أمكنة غريبة عن مصالح الولايات المتحدة، يناقض السلوك السليم للإمبراطورية».   

النادي المغلق   

على أساس ما سبق يرى روبرت دوجاريك أن الإمبراطورية الأميركية ليست ذات بعد أممي، عالمي. وإنما هي ناد مغلق تكوّن عبر مسار تاريخي خاص يمارس كل بلد بداخله التقاليد الليبرالية نفسها. لكنه لا يستبعد إمكانية أن ينفتح هذا النادي أمام بلدان توصلت عبر عدة عقود من الزمن إلى أن تصبح ديمقراطيات ليبرالية حقيقية. المثال الذي يقدمه على هذه الديمقراطيات هو كوريا الجنوبية. وبالتالي يعتبر أن فكرة نشر الديمقراطية في أفغانستان أو العراق فكرة عبثية لا طائل منها. وسوف تذهب أوهام بعض المحافظين الجدد بتطبيقها إدراج الرياح إذ أن أقصى ما يمكن تأمله في السياق الراهن هو أن يتحقق في المنطقة المعنية أشكالا بطيئة ومحدودة من التقدم.   

ويتوقع دوجاريك أن يعرف العراق، بعد الانسحاب الأميركي منه، مواجهة صعبة مع الذات ومع المصير. ويحدد خطأ أميركا الكبير في أنها جعلت من المحيط مركز اهتماماتها، لاسيما وأن بلدان المحيط لا تبدو اليوم أنها قريبة من القبول بتحول ليبرالي. يقول: «إذا توصلت تركيا خلال 50 سنة للتماثل مع اليونان، وإذا وصلت المكسيك بعد 100 سنة إلى مستوى اسبانيا عند نهاية نظام فرانكو، فسيكون ذلك كمعجزة». 

 إن روبرت دوجاريك وبعد 11 سنة أمضاها في واشنطن، في قلب القيادة العسكرية السياسية للولايات المتحدة الأميركية، قرر أن يقيم في اليابان كي يتعرّف بشكل أفضل على آليات عمل هذا البلد الآسيوي، والحليف الاستثنائي للحضارة الأميركية التي يدافع عنها دفاع المؤمنين عن معتقداتهم. وهو الآن بصدد إعداد دراسة تحت عنوان «هل لليابان مستقبل«؟ ويشير المؤلف أنه التقاه مرات عديدة عندما كان في طريقه إلى أميركا مرورا بباريس. وكان حديثهما دائما حول الأوضاع في العراق. وكانت هذه المسألة هي أيضاً موضوع الرسالة التي تلقاها منه في منتصف شهر نوفمبر 2006 حيث كان موجوداً في نيويورك للمشاركة في انتخابات الكونغرس. 

وقد قال دوجاريك في رسالته أنه إذا كان فوز الديمقراطيين في الانتخابات أمرا أكيدا فإنه أعلن عن خشيته أن لا يكون ذلك إعلانا عن فوز الانسحاب من العراق. وإذا كان يؤكد أن فوز الديمقراطيين يشجع أكثر فأكثر الانسحاب، فإنه يشير أيضاً إلى أن أغلبية الديمقراطيين ليسوا مستعدين لمغادرة العراق. ولا يتردد في الإعلان عن اعتقاده الجازم بأنهم لم يفهموا بعد التاريخ المأساوي الذي دفع بوش أميركا إليه. بل إن إدارة بوش قد قررت أن تعزز الوجود العسكري الأميركي عبر إرسال قوات جديدة إلى العراق من أجل الوصول إلى «استقرار بغداد». ويشير دوجاريك إلى أن أحد أصدقائه العاملين في مجلس الشيوخ أخبره «إننا باقون في العراق لمدة عشر سنوات مقبلة». ثم إن أميركا الغنية يمكنها أن تخوض حربا «استعمارية» لعدة عقود من الزمن.   

ويشير دوجاريك إلى أن إدارة بوش تتلقى كل يوم «عشرات التقارير حول الوضع في العراق من أجل إيجاد حل تكتيكي أو عملياتي أو إستراتيجي لهذه الأزمة التي كانت في أصلها». وتتم الإشارة في هذا الإطار إلى تقرير اقترحه السناتور الأميركي جوزيف بايدن دافع فيه عن الحل المتمثل في تقسيم العراق، ويتساءل دوجاريك عن كيفية تنظيم عملية التقسيم مع وجود 000 100 جندي أميركي فوق الأرض العراقية؟ وعن كيفية إدارة عملية نقل السكان؟ والجيش الأميركي؟ إن هذا يبدو لي أمرا ليس فيه أي شيء من الواقعية كما يقول. 

 ويضيف: «يمكن لعملية التقسيم أن تكون مجزرة حقيقية مع وقوع خسائر أميركية كبيرة». يضاف إلى هذا خطر تفجر البلاد بعد، أو ربما قبل، رحيل الجنود. وينتهي إلى القول في هذا الإطار: «إن الولايات المتحدة عاجزة في الواقع عن التأثير على مجرى التاريخ في العراق. الجميع في واشنطن يعملون 24 ساعة من 24 على المسألة العراقية. لكن الحقيقة هو أنه ليس هناك مفكرون بخصوص العراق وليس هناك حل آخر سوى أن نعود إلى ديارنا».   

ويعلن دوجاريك بصراحة وقوة أنه من مؤيدي الانسحاب المباشر وغير المشروط للجيش الأميركي من العراق. ذلك أن كسب الحرب مستحيل، هذا إلا إذا كنّا على استعداد لتبنّي الطرق التوتاليتارية، أي قتل الملايين من العراقيين. كما يعتبر أنه من المستحيل أيضاً إقامة حكومة ثابتة في العراق. بل يرى أن استمرار وجود الجيش الأميركي قد أصبح «العقبة الرئيسية» أمام إمكانية انبثاق حكومة تتمتع ب«ما يشبه السلطة».   

ويضيف: «إن نهاية حرب بوش في بلاد الرافدين لن تكون مصدر فخر، وسيكون على العراقيين أن يتدبروا أمورهم وعلينا أن ننتظر حماما من الدم». إنه يشير إلى العمليات الانتحارية اليومية، ولا يرى أي أمل إلا بتفاهم السنة والشيعة والأكراد فيما بينهم للخروج بالبلاد من الجحيم الذي تعاني منه. «إن هذا غير مضمون، ولكن من التوهم الاعتقاد أن وجودنا يمنع العراقيين من الاقتتال فيما بينهم». 

 وينقل المؤلف عن دوجاريك تأكيده أن دونالد رامسفيلد لم يكن أبدا أحد كبار مهندسي غزو العراق، وإنما كانت مهمته الأساسية هي إصلاح بنية القوات المسلحة وقد فعل ذلك بشكل غير جيد. ولا يتردد دوجاريك في القول: إن مسؤولية هذه المغامرة الدامية تقع بالكامل على رئيس الولايات المتحدة الأميركية. لكنه يشير إلى أنه منذ اندلاع الحرب أصبحت مهمة وزير الدفاع هي أن يخوضها. بالتالي قد تنبغي معاقبته بسبب عدم كفاءته، ولكن ليس من أجل اتخاذ قرار اجتياح العراق.   

كما يعتبره مسؤولا عن الإخفاق في معركة بغداد من زاوية عدم القدرة على فرض النظام والأمن فيها. لكن ذلك الفشل كان محتّما، كما يقول، بالنسبة لجيش احتلال. أما المشكلة الحقيقية فهي قرار القيام بحرب من المستحيل الانتصار فيها. لقد دفع رامسفيلد من أجل الآخرين، لكن لم تتم تسوية أي شيء، حسب قوله. 

 ويرى دوجاريك أن إعدام صدام حسين قد جاء في أحلك اللحظات بالنسبة للأميركيين. ذلك أنه بدا بنظر الكثيرين خطأ أو صوابا ك«شهيد» مما سيزيد من غضب الشارع على الأميركيين، ومما سيشكل، برأيه، عثرة إضافية أمام الوصول إلى المصالحة في العراق. ويصف ما يجري في هذه البلاد أنه يعني عودة إلى العصور الوسطى. 

 لذلك من الطبيعي أن «يترحّم» الناس على نظام صدام حسين رغم فاشيته ودكتاتوريته. لكن الديمقراطيين والجمهوريين يرفضون قبول مثل هذا الواقع»، على حد قوله. ويصف دوجاريك الحرب الأميركية على العراق بأنها ثورية. وذلك بمعنى أنها غزوة من أجل تغيير المجتمع وخلق فردوس ديمقراطي. 

تلك هي المشكلة 

لكن المشكلة، كما يراها، ومهما قال المحافظون الجدد، هي أن الحرب العراقية ليست أبدا متابعة لحروب تحرير ألمانيا واليابان التي قادها روزفلت وترومان، ذلك أن أميركا آنذاك لم يكن لديها مشروع تغيير المجتمع الألماني. كما يؤكد أن المحافظين الجدد، ورغم تأكيداتهم المتكررة، ليسوا ورثة رونالد ريغان، بل إن حربهم في العراق خيانة للإرث الريغاني. 

ذلك على أساس أنها حرب غريبة عن الثقافة السياسية الأميركية. لكنهم عرفوا بحكم أصولهم اليسارية، بل والتروتسكية بالنسبة للبعض منهم، من أمثال ايفرنج كريستول ونورمان بودريتز، كيف يستجلبون بعض الديمقراطيين والتقدميين الأميركيين إلى صف المؤيدين للحرب، ويؤكد أنه كان من الصعب على بوش، بدونهم، أن يشن حربه إذ كان بحاجة إلى إجماع يتجاوز الحزب الجمهوري. ومن جهة أخرى يبدو أن المحافظين الجدد قد احتفظوا بنزعتهم الثورية اليسارية، ولم يتخلّوا عنها كما يزعمون. والدليل على ذلك، حسب دوجاريك، هو مشروعهم الطوباوي لتغيير العالم. هذا المشروع الذي تبدو نتائجه المأساوية واضحة في العراق. 

ويتعرض روبرت دوجاريك في حديثه طويلا ل«الدور الذي لعبته الهوية الدينية بالنسبة للمحافظين الجدد اليهود». وبعد أن يشير إلى وجود محافظين جدد مسيحيين، من أمثال وليام بينيت يحيل القارئ إلى كتاب اليوت ابرامز تحت عنوان «الإيمان أو الخشية: كيف استطاع اليهود البقاء في أميركا المسيحية» الصادر عام 1997. واليوت ابرامز هذا هو أحد أبرز مفكري التيار الإيديولوجي المحافظ الجديد. وهو من جيل بيل كريستول وروبرت كاجان. كان من كبار موظفي إدارة رونالد ريغان.  

ولا يزال أحد الوجوه البارزة من المحافظين الجدد الباقية في إدارة جورج دبليو بوش الحالية بعد رحيل بول وولفويتز ودوجلاس فيت وغيرهما عنها. ويتحدث اليوت ابرامز في كتابه عن عودة بعض المحافظين الجدد اليهود إلى التمسك بدين أجدادهم، رغم اندماجهم الكامل بمؤسسة الدولة. 

ويؤكد دوجاريك، بالاعتماد على كتابات ابرامز وغيره، أن «هذا الجيل يخشى من اختفاء اليهودية عبر الانصهار. فإذا كنت يهوديا متزمتا، كما كان الأجداد غالبا في أوروبا الوسطى، فإن هويتك اليهودية مصانة. لكن إذا انصهرت في المجتمع ـ إذ تمثّلك المجتمع- فلن يعود هناك ما يذكّرك أنك يهودي في بلاد مثل الولايات المتحدة، زالت معاداة السامية فيها عمليا منذ سنوات الستينات. هذا الخوف من الانصهار يشرح عمق العلاقة مع إسرائيل بالنسبة لهؤلاء المحافظين الجدد. إن إسرائيل أساسية بالنسبة لهم فهي الرابطة الأكثر أهمية مع هويتهم الاثنية. أما أهاليهم فقد كانت ثقافتهم يهودية مئة بالمئة، وحتى لو كانوا من العلمانيين أو الشيوعيين. 

ويشير دوجاريك إلى أنه يكفي الاستماع إلى ايفرنج كريستول وهو يتكلم كي تعرف أنه أحد أولئك المثقفين اليهود الذين تعود أصولهم إلى أوروبا الوسطى أو الشرقية حتى لو كان من مواليد مدينة بروكلين. لكن الأمر مختلف بالنسبة للجيل التالي المندمج مع النخبة الأميركية. هكذا كتب اليوت ابرامز أنه ينبغي أن تصبح إسرائيل هي مرجعية الهوية اليهودية في أميركا. بالتالي عندما دفعوا للحرب ضد العراق لم يكونوا يفكرون ببغداد فقط، وإنما أيضاً بإسرائيل. 

ويختتم روبرت دوجاريك حديثه بالتأكيد على أن المحافظين الجدد قد استفادوا كثيرا من 11 سبتمبر. واتخذ بوش، في ظل حالة من الهيجان العام قرارات تتنافى مع المصلحة الأميركية. لكن هذا لم يمنع قسماً كبيراً من المثقفين من قبول تلك القرارات ودعمها. بل وتعميم الاقتناع بأن صدام حسين كان يشكل خطرا حقيقيا. ذلك أن المحافظين الجدد تولوا مهمة التفكير عن الجميع واستطاعوا أن يمارسوا هيمنة إيديولوجية. فأميركا كلها كانت تغوص في حالة من الظلام في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر. ويؤكد دوجاريك أنه كان يمكن ردع صدام حسين. والقادة الجمهوريون كانوا يعرفون ذلك أفضل من الجميع. 

ويشير دوجاريك في النهاية إلى جملة قالها ديك تشيني عام 1991 عندما سئل عن سبب عدم زحف الجيش الأميركي وقوات التحالف الدولية خلفه حتى بغداد. فأجاب: «هل تعتقدون أنه من المهم احتلال مدينة يقطنها خمسة ملايين من العرب؟». ولا يمكن للمرء إلا أن يتساءل لماذا نسي ذلك بعدا ما يزيد عن العقد بقليل؟ هذا هو السر، كما يقول دوجاريك ويضيف: «بوش الابن ليس من المحافظين الجدد، لكنه اتخذ قرار الاجتياح. إنه يتحمل مسؤولية تلك المأساة ومن المستحيل معرفة لماذا اتخذ مثل ذلك القرار». 

 
 
 
شـبكـة الـمنصـور
الخميس / 12 / تمـــوز / 2007