كان "مجلس التضامن الوطني" الذي
أنشأه حديثا تجمع قبائل حاشد
باعتبار إنشائه "ثورة على الفساد"
، كما أعلن رئيسه الشيخ حسين بن
عبد الله بن حسين الأحمر ، والرد
على إنشائه بإعلان تجمع مقابل
لقبائل بكيل ، هو أحدث التناقضات
التي أفرزتها الأزمتان الاقتصادية
والسياسية اللتان تعصفان باليمن
عصفا يهدد الوحدة الوطنية
بمفارقات متضاربة مضحكة مبكية في
آن معا مثل افتراض محاربة الفساد
بالقبلية ومثل دعوة التجمع القبلي
الجديد – القديم إلى تمكين المرأة
في كل مناحي الحياة اليمنية بينما
لا توجد امرأة واحدة بين أكثر من
ألف عضو مؤسس فيه ("يمن تايمز "
في الرابع من أيلول / سبتمبر
الجاري) .
وتتصاعد الأزمتان الاقتصادية
والسياسية في اليمن تصاعدا يفسح
المجال رحبا لكي تطفو على السطح
كل مظاهر النكوص إلى الطائفية
والقبلية والجهوية والفئوية لتخلق
بيئة غير صحية سياسيا تنزلق فيها
الحكومة والمعارضة إلى تخطي
"الخطوط الحمر" للوحدة الوطنية
والسلم الأهلي مما يفتح ثغرة
واسعة لتسلل من أسماهم الرئيس
اليمني علي عبد الله صالح
"الطابور الخامس" المتربص يتحين
الفرص ويستغل الوضع الراهن إما
لإطلاق "جنٌي" الإرهاب من عقاله
أو لإطلاق ريح سموم تحرض على
إعادة تشطير اليمن ، وسط لامبالاة
عربية عامة خصوصا في الجوار
المباشر في شبه جزيرة العرب
المتخم بالعائدات النفطية بينما
الجراد الصحراوي الخطر يهدد
بالقضاء على ما أبقته الأوضاع
الاقتصادية المتدهورة من أخضر
يمني قد يقي عرب الخليج من أن
يتكرر في جوارهم اليمني الجنوبي
السيناريو الذي يؤرقهم في جوارهم
العراقي الشمالي .
فالتجاوز المتبادل للخطوط الحمر
قاد في الأسبوع الماضي إلى انتهاك
حرمة الدم اليمني على اليمنيين في
المكلا بحضرموت ، عندما سقط ما لا
يقل عن ضحيتين للصراع السياسي
المحموم بين الحكومة وبين
المعارضة ، إذ بغض النظر عن
الاتهامات المتبادلة بين الطرفين
بخرق "مشاغب" لحظر التظاهر غير
المرخص به الذي فرضته الحكومة
الشهر المنصرم ، أو بالإفراط في
استخدام أجهزة الأمن للقوة في
تطبيق هذا الحظر فإن النتيجة كانت
خرقا لخط أحمر يحرم على اليمني
أيا كان موقعه من السلطة ، سواء
داخلها أم خارجها ، دم أخيه
اليمني ، في تكرار ينذر بتهديد
حقيقي للسلم الأهلي منذ قاد رفع
أسعار الوقود في شهر تموز / يوليو
2005 إلى احتجاجات شعبية قاد قمع
الحكومة لها إلى سقوط 22 قتيلا و
375 جريحا في العاصمة صنعاء
وغيرها من المدن اليمنية .
إن وحدة اليمن الطبيعي ، مثلما هي
الوحدة الإقليمية للعراق وفلسطين
المحتلين ، ليست ملكا للشعب
العربي في اليمن وحده بل ملك
ورصيد للأمة العربية كافة ،
وحمايتها مسؤولية قومية لأقطار
التجزئة وشعوبها ، وأعداؤها هم
أعداء أحلام الأطفال العرب في
مستقبل قريب ينعمون فيه بالحرية
والاستقلال طريقا إلى مكان لهم
تحت الشمس يتساوون فيه مع الأمم
الأخرى ذات السيادة في دولة قومية
موحدة في مستقبل يبدو بعيدا لكنه
آت لا ريب فيه .
وفي خضم الانشغال بالهم القومي في
فلسطين والعراق تكاد تغيب عن
الوعي العربي العام مخاطر حقيقية
تهدد الوحدة الوطنية لعرب اليمن ،
مخاطر قد لا تؤرق الأجيال العربية
الشابة التي نشأت في أحضان أنظمة
تجزئة سايكس وبيكو -- التي ما
زالت دون جدوى تنقب عن آثار تقنع
شعوبها بأنها أمم جذورها
"المستقلة" ضاربة في أعماق
التاريخ -- لكنها بالتأكيد مخاطر
تقض مضاجع الجيل الذي عاش تجربة
الوحدة المصرية السورية وعاصر
نهوض الحركة القومية خصوصا في
مستهل النصف الثاني من القرن
الماضي قبل أن يقود الاحتلال
الإسرائيلي عام 1967 إلى انتكاس
هذه الحركة وهي ما زالت طرية
العود .
وهناك اليوم في اليمن من يتصيدون
في أخطاء الوحدة ومصاعب ولادتها
لاقتناص ذرائع للانقضاض عليها .
فها هو رئيس ما يسمى "التجمع
الديموقراطي الجنوبي" (تاج) عبد
الله أحمد بن أحمد المقيم في لندن
، على سبيل المثال ، يخوض "حربا
إلكترونية" لإعادة شطر اليمن إلى
شطرين ويصدر بيانا يوم الخميس
الماضي يستهله بعد البسملة بالآية
الكريمة "وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيل
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ
وَعَدُوَّكُمْ" ليحرض ضد "احتلال
الجنوب" من قبل "غزاة العصر" في
الشمال اليمني عشية "الأول من
سبتمبر اليوم الوطني للجيش
الجنوبي" ، حيث كان دعاة الانفصال
يستعدون لمظاهرة بمنطقة خور مكسر
في عدن السبت الماضي ، لكي يختم
بيانه بالقول: "سوف يعود هذا
الجيش المؤهل يوما كما كان عليه
وأفضل يذود عن حياض الوطن ودولة
الجنوب العربي وسوف يعود التاريخ
نفسه وما 72 و 79 ببعيد" ،
والإشارة الأخيرة كانت للحربين
بين شمال اليمن وبين جنوبه في
العامين المذكورين .
وكان مريبا أن يخلط بن أحمد بين
الأول من أيلول / سبتمبر 1970
باعتباره اليوم الوطني للجيش
الجنوبي الوحدوي وبين تخصيص معظم
بيانه لتسليط الضوء على أن هذا
الجيش يعود في نشأته "إلى عام
1905 عندما أقدم الكولونيل
البريطاني جاكوب ومن مدينة الضالع
عاصمة دولة إمارة الضالع في محمية
الجنوب العربي الغربية بتقديم
مقترح ينص على ضرورة بناء جيش
عربي لمحمية الجنوب العربي
لمساعدة سلاح الجو البريطاني على
الأرض في صد الأخطار الخارجية
التي يشكلها الأتراك حينها بحكم
تواجدهم محتلين لليمن الشقيق" !
ويكرر بن أحمد في بياناته استخدام
عبارتي "الجنوب العربي" ، بدل
الجنوب اليمني ، و "اليمن الشقيق"
بصورة لا تبقي أي مجال للريبة في
نواياه .
ول"تاج" هذه أمين عام أيضا هو
السفير اليمني السابق أحمد عبد
الله الحسني و"لجنة تنفيذية" عقدت
مؤخرا اجتماعها الدوري في العاصمة
البريطانية لندن ، طبقا لبيان
صادر من عدن (؟) يوم 26 الشهر
الماضي حيا نضال "جماهير الجنوب
... في مواجهة الآلة العسكرية
للاحتلال اليمني" وهي تصنع "ملحمة
التحرير والاستقلال الثاني لوطننا
الجنوب" خصوصا في "مدينة عدن
العاصمة التاريخية والأبدية
للجنوب" حيث تتصاعد "المقاومة
الجنوبية" و "المسيرة التحررية" .
واعتبر "تاج" في بيانه أن مفاهيم
مثل أن اليمن كان "موحدا عبر
التاريخ" و"إعادة تحقيق الوحدة
اليمنية" هي مفاهيم "لا تقوم على
أساس واقعي"
، هذه المفاهيم التي يقول أحد
الناطقين باسم هذا التيار ، فاروق
حمزة ، بأنها تتدثر بما أسماه
"شماعة أكذوبة الفكر القومي
العربي" وكذلك "أحيانا بشماعة
الفكر الإسلامي أيضا" !
إن استغلال "تاج" للدعوة التي
وجهها "
مجلس التنسيق لجمعيات المسرحين
العسكريين والمدنيين لعموم
الجنوب" للتظاهر السلمي في
منطقة خور مكسر بعدن في الأول من
الشهر الجاري من أجل حقوق يطالبون
بها لكي يدعو إلى "العصيان
المدني" ما هو إلا أحدث مثال على
الكيفية التي يحاول بواسطتها دعاة
للانفصال من الخارج ركوب موجة
احتجاجات نقابية غير انفصالية في
الداخل . وكان لافتا للنظر
التأجيج الإعلامي الذي مارسته
"تاج" لاستغلال الاحتجاجات
السلمية التي نظمها مجلس التنسيق
من أجل حماية من يدافع عنهم من
غائلة الأزمة الاقتصادية إما
بإعادتهم إلى الخدمة العسكرية أو
بتقاعد يؤمن لهم ولأسرهم تقاعدا
كريما ، مما قاد إلى شغب أسقط
ضحايا بشرية أثناء قمعه قبل أن
يقود إلى اعتقال رئيس المجلس
العميد ركن متقاعد ناصر علي
النوبة في عدن يوم الثاني من
الشهر الجاري . ولم تكن آذان
الرئيس صالح صماء إزاء هذه
الاحتجاجات فقد استجاب لها جزئيا
بترقية حوالي 600 ضابط سابق
وإنشاء هيئة رديفة للمتقاعدين كما
وعد بزيادة الرواتب التقاعدية
.
غير أن الأهم من ذلك هو محاولتهم
تزييف دوافع إرادة شعبية لمثل هذه
الاحتجاجات والادعاء بأنهم ورثة
النضال الوطني الوحدوي لعرب
الجنوب اليمني ضد الاستعمار
البريطاني في وقت ما زال فيه قادة
هذا النضال وكوادره أحياء يرزقون
، بيولوجيا وسياسيا ، وما زالوا
فاعلين في الدفاع عن شعبهم وعن
الوحدة الوطنية معا ، متناسين أن
"الجبهة القومية" ثم الحزب
الاشتراكي ، وريثها الشرعي الذي
انبثق عنها ، هو الذي قاد ذاك
النضال التحرري المجيد وهو الذي
قاد النضال من أجل الوحدة الوطنية
وهو الذي أنجز هذه الوحدة وهو
الذي ما زال في طليعة المدافعين
عنها وهو الذي حضن وافرز نخبة من
قادة الدعوة إلى الوحدة العربية
القومية بعضهم لاقى وجه ربه
وبعضهم الآخر ما زال من أعمدة هذه
الدعوة .
إن إحياء الذكرى ال 36 لتأسيس
الجيش اليمني في الجنوب والاحتفال
بها لا صلة لها البتة ب"الجيش
العربي" الذي تأسس في "محمية
الجنوب العربي" عام 1905 ولا يمكن
أن يكون إلا احتفاء بقوة قومية
عربية أساسية للوحدة اليمنية ،
أنجزت أولا عملية توحيد 23 سلطنة
ومشيخة وإمارة ومحمية في الجنوب
اليمني في 30 / 11 / 1967 بعد أن
حررتها من الاستعمار البريطاني
قبل أن تتخذ من عملية التوحيد هذه
منطلقا صلبا لاستكمال الوحدة
الوطنية مع الشمال ، ولا يمكن
أبدا تزييف تاريخ وإرادة قادة
وضباط وجنود هذه القوة وتشويه
أهداف احتجاجاتهم
، بالرغم من عمق الألم في تظلمهم
مما يرون فيه جحودا مركزيا
ونكرانا حكوميا لنضالهم الوطني
الوحدوي .
وتكمن خطورة "تاج" بالرغم من
وزنها الهامشي في الحياة السياسية
اليمنية في عاملين يميزانها عن
المخاطر الأخرى التي تواجه الوحدة
اليمنية أولهما بعدها "الانفصالي"
وثانيهما بعدها "الخارجي" . صحيح
أن الخطر الطائفي ، كما يلوح في
صعدة ، والخطر الارهابي ، كما
"انفجر" مؤخرا في مأرب ، والخطر
القبلي ، كما ظهر في الاستقطابات
العشائرية الأخيرة ، والخطر
الاجتماعي ، كما عبرت عنه مظاهرات
"الخبز والماء" في تعز وغيرها ،
والخطر السياسي المتمثل في
الإصرار على الدفاع عن حكومة
الحزب الواحد والقائد الواحد
كنظام للحكم كان ينبغي إعادة
النظر فيه منذ انهيار الاتحاد
السوفياتي ، الأب الروحي لمثل هذا
النظام ، وانعكاسات ذلك على
المشاركة السياسية والحريات
العامة ، صحيح أن هذه جميعها
مخاطر تهدد وحدة الوطن اليمني إلا
أن أيا منها لم يدع إلى الانفصال
وإذا كان يمكن اتهام القلة
القليلة من مثيري هذه المخاطر
بالنية في الانفصال فإن الله وحده
هو علام الغيوب .
وإذا كان البعد الانفصالي جليا
واضحا في الدعوة الصريحة إليه فإن
البعد الخارجي يجري التعتيم عليه
لكن كشفه لن ينتظر طويلا أذا كان
لتجربة "المعارضات" العراقية أن
تكون دليلا لاستكشاف أبعاد "هذه"
المعارضة اليمنية . ولم يكن
الاتهام الذي وجهه وزير الخارجية
اليمني أبو بكر القربي لبريطانيا
يوم 29 الشهر الماضي بإيواء أمثال
هؤلاء ، بعد أيام فقط من زيارة
قام بها لصنعاء وزير الدولة في
الخارجية البريطانية للتنمية
الدولية شهيد مالك ، وما روجته
"تاج" نفسها نقلا عن صحيفة الوسط
يوم 22 الشهر الماضي عن تقرير
أميركي لروبرت ماير من معهد نورث
كارولاينا لدراسات الشرق الأوسط
جاء فيه أن "واشنطن التقت
بمعارضين جنوبيين من أوروبا وتلوح
بفتح ملف الجنوب" إلا مؤشرين
ينبغي ألا يفوت كل صناع الوحدة
اليمنية التوقف عندهما .
ولا يسع العرب من خارج اليمن
الذين يحرصون على وحدته كلبنة
أساسية لوحدتهم القومية المرجوة
إلا الإحساس بالراحة والترحيب
ببيان اللجنة المركزية للحزب
الاشتراكي اليمني الصادر من صنعاء
، لا من عدن ولا من لندن ، في 29
الشهر الماضي ، أولا لأن هذا
الحزب هو الوريث الشرعي لتجربة
التحرر الوطني في الجنوب اليمني ،
وثانيا لأنه نتيجة لذلك هو المؤهل
لفهم الأخطاء الناجمة عن الوحدة
التي ساهم في صنعها وبالتالي
للدفاع عن المتضررين من أخطائها ،
وثالثا لأنه ما يزال في مقدمة
المدافعين عن هذه الوحدة والداعين
إلى تصحيح أخطائها بتعزيزها لا
بالانفصال ولذلك يحق له انتقاد
أخطائها وأخطاء القيادة في عاصمة
الوحدة مهما بلغت حدة نقده
وقسوتها .
فالحزب الذي يرى أن "القضية
الجنوبية غدت قضية حقيقية غير
مفتعلة يؤكدها الواقع الذي بدأ
بالتشكل منذ اجتياح السلطة للجنوب
في حرب صيف 1994" يرى الحل في أن
"القضية الجنوبية ذات أهمية لا
لذاتها فحسب بل لما لها من حيوية
وطنية تخدم قضية الوحدة اليمنية
برمتها ، بما تحتاجه من حلول
سياسية شاملة تؤدي إلى إصلاح مسار
الوحدة وإزالة آثار حرب 1994" ،
وتقود إلى "الاندماج الوطني" في
سياق "المصالحة والتسامح ...
بآفاق وطنية شاملة" وفي إطار
"مشروع للإصلاح السياسي والوطني
الشامل" .
إن الوحدة التي أجمع عليها عرب
اليمن في 22 أيار / مايو 1990
لا بديل لها سوى الحروب الأهلية
والاغتيال المتبادل للقادة وفتح
الباب على مصراعيه للتفتت الطائفي
والقبلي والجهوي وبالتالي للتدخل
الأجنبي ، اللهم إلا إذا كان هناك
من تراودهم أحلام ببديل لها على
النمط العراقي الراهن ، ولا
يمكن تسويغ الانقلاب عليها باسم
خطيئة حرب ال 67 يوما عام 1994
ولا باسم الأخطاء المستمرة التي
أعقبتها ، أولا لأن أخطاء الوحدة
لا يمكن أن تعالج إلا بتعزيز
الوحدة ، وثانيا لأن "المنتصرين"
و"المهزومين" في تلك الحرب قد
خرجوا جميعهم منتصرين بانتصار
الوحدة ويجب أن لا يعاملوا إلا
على هذا الأساس ، وربما يكون لهم
في حروب وحدة ألمانيا والولايات
المتحدة الأميركية عبرة تصد عنهم
رياح السموم التي تهب عليهم من
خارج الصحراء العربية وتلفح
وحدتهم .
إن حرص الرئيس اليمني على الوحدة
كمفتاح رئيسي للتنمية وللسلم
الأهلي قاده إلى إصدار قانون
حماية الوحدة الوطنية والجبهة
الداخلية والسلام الاجتماعي بمعزل
عن أي توافق وطني عليه مما حوله
إلى سبب جديد لتهديد الأهداف
المعلنة منه بسبب ما اعتبره
"اللقاء المشترك" المعارض تضييقا
للحريات العامة حد أن يشبهه
النائب والقيادي الاشتراكي عيدروس
النقيب بقانون "العيب الساداتي"
المصري الشهير الذي قاد إلى
ازدحام سجون مصر بالمعارضين من
السياسيين والمثقفين وأصحاب الرأي
الآخر في عهد الرئيس الراحل أنور
السادات ، حسب مقال نشره النقيب
في "البلاغ" اليمنية .
أزمتان بنيويتان إقتصادية وسياسية
ومنذ إعادة انتخاب الرئيس صالح في
أيلول / سبتمبر العام الماضي تقود
أحزاب "اللقاء المشترك" المعارضة
مظاهرات شعبية بالآلاف وتعد
بتحويلها إلى احتجاجات "مليونية"
، كما وعد أحد نواب المعارضة
أثناء مهرجان في إب في 28 آب /
أغسطس الماضي ، لكنها جميعها تكرر
التأكيد على "الطرق السلمية"
باعتبارها "الطريق الصحيح لنيل
الحقوق والحريات" وعلى أن "النضال
السلمي هو الطريق الوحيد لنيل
حقوقنا" كما قال عضو الهيئة
التنفيذية للمجلس الأعلى للقاء
محمد قحطان في المناسبة نفسها .
وأقصى ما تهدد به المعارضة في حال
لم تستجب الحكومة لمطالبها هو
"تصعيد" الاحتجاجات إلى
"اعتصامات" .
إن "الخبز والروتي والماء" التي
حملها المتظاهرون ترمز إلى
"الغلاء" في أسعار المواد
الأساسية لا الكمالية نتيجة
للأوضاع الإقتصادية المتدهورة
لمستوى معيشة الأغلبية الشعبية ،
خصوصا "الحضرية" منها التي تعيش
على الأجر الذي تتقاضاه مقابل بيع
جهودها البدنية أو الفكرية ، وكان
من الطبيعي أن يقود ذلك إلى تسليط
الأضواء على الفساد الذي يستنزف
موارد المال العام ليهدر ما هو
متوفر منها للتنمية .
وكان من الطبيعي أيضا أن تنعكس
الأزمة الاقتصادية في جنوبي اليمن
أكثر من شماله حيث كانت الحياة
الحضرية أوسع انتشارا وحيث يقارن
الناس بين إرثهم "الاشتراكي" قبل
الوحدة وبين السياسات الاقتصادية
لصنعاء التي تستوحي العولمة
والانفتاح الاقتصادي واقتصاد
السوق ، هذه السياسات التي توسع
الفجوة بين الأغنياء والفقراء ،
لكن الأهم أنها إذا لم يتم بسرعة
ترشيدها فإنها ستقود إن عاجلا أم
آجلا إلى فجوة اقتصادية بين جنوب
الوطن وبين شماله ولن يطول الوقت
قبل أن تجد مثل هذه الفجوة
تعبيرات سياسية عنها ليس من
المستبعد أن تستثمرها قلة عارضت
الوحدة في الأصل وما زالت تراودها
أوهام أو أحلام الانفصال .
وربما يجدر بالقيادة اليمنية في
الحكم وفي المعارضة على حد سواء
فتح قناة أو قنوات مع الألمان
للإطلاع على تجربتهم في دمج
الاقتصاد الاشتراكي لجمهورية
ألمانيا الديموقراطية (الشرقية)
في الاقتصاد الرأسمالي لألمانيا
الاتحادية بعد إعادة توحيد
ألمانيا إثر انهيار سور برلين عام
1989 . وما زالت عملية الدمج هذه
مستمرة بعد 18 عاما وهي لم تكن
وليست حتى الآن دون مشاكل بنيوية
واجتماعية وربما يمكن للخبراء
والباحثين عقد مقارنة بين تنامي
الظاهرة النازية في الشرق
الألماني وبين ظاهرة الإرهاب التي
تطل برأسها في الجنوب اليمني
واستقراء الأسباب الاقتصادية
المشتركة لظاهرتي التطرف في
البلدين بعد إعادة توحيدهما .
وعند محاولة المقارنة ، ودون أي
تبسيط للوضع المعقد والمركب في
اليمن ودون أي تجاهل للفارق
التنموي الشاسع بين الاقتصاد
الألماني الصناعي المتقدم وبين
الاقتصاد اليمني الذي ما يزال
يتلمس طريقه إلى التنمية ودون
إغفال البيئة الإقليمية المستقرة
لألمانيا مقارنة بالمحيط الإقليمي
المضطرب لليمن ، فإنه سرعان ما
تتضح مفارقة تتمثل في وجود نظام
حكم الحزب الواحد بحكم الأمر
الواقع في صنعاء ، بالرغم من
النفي الرسمي لذلك وبالرغم من
حيثيات الحزمة الدستورية
والقانونية التي تنص على خلاف ذلك
، وأن هذا الحزب هو الذي ما زال
يدير دولة الوحدة بكل تعقيداتها
التعددية وهو الذي يشرف على عملية
الدمج الاقتصادي والسياسي على أسس
رأسمالية ، مع أن ظاهرة الحزب
الواحد ارتبطت تاريخيا بالنظام
الاشتراكي والاقتصاد الموجه
والقطاع العام ، بينما النظام
السياسي الذي يشرف على عملية دمج
مماثلة على أسس رأسمالية في
ألمانيا هو نظام تعددي لتداول
السلطة منبثق من الليبرالية
الرأسمالية نفسها .
ولم تغب هذه المفارقة عن المعارضة
اليمنية فهي تأخذ على صنعاء علنا
أنها تحتضن حكم الحزب الواحد
وتتهمه بتضييق الحريات العامة
للحفاظ على احتكاره للسلطة وترى
في الوطأة الشديدة لقبضته خلال
الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة
مجرد تعبير عن إصراره على الدفاع
عن احتكاره لها ، بينما يرى حزب
المؤتمر الحاكم أن في وجوده ضمانة
لوحدة اليمن حتى ترسخ هذه الوحدة
أقدامها فلا تعود هناك أي إمكانية
للتراجع عنها . غير أن كل
المؤشرات تدل على أن الوقت قد حان
لإعادة النظر في هذا الوضع
المتفجر من خلال حوار وطني شامل
يؤسس للشراكة السياسية في صنع
القرار أو في الأقل للتوافق على
أسس واقعية لتداول سلمي حقيقي
للسلطة . وهنا تكمن الأزمة
السياسية التي ما زالت متفاقمة
منذ فجرت هذه الأزمة حرب عام 1994
بين شريكي صنع الوحدة .
... وأزمات متفرعة
إن عدم التوصل إلى حلول توافقية
للأزمتين البنيويتين الاقتصادية
والسياسية قد خلق البيئة المثلى
لتفاقم الأزمات المتفرعة عنهما ،
بيئة توفر حاضنة للأصوات
الانفصالية النشاز وطنيا التي
بدأت تطلق رياحا سموم إن استمر
هبوبها فإنها ستشوش الرؤية وقد
تعمي بعض البصائر للاستهتار بها
والاستهتار كذلك بالأهمية الملحة
للحوار الوطني الشامل حول التوافق
الوطني على أسس تغلق إلى غير رجعة
كل الثغرات التي يمكن أن تتسلل
منها أصوات داخلية أو خارجية تدعو
إلى إعادة التشطير .
وهذه مهمة ملحة لم يعد من المجدي
المماطلة فيها في بلد يعتبر من
أفقر بلدان العالم خارج إفريقيا ،
ويعيش أربعة من كل عشرة مواطنين
فيه على أقل من دولارين أميركيين
في اليوم ، بينما توقعت وزارة
التنمية الدولية البريطانية نضوب
النفط اليمني عام 2015 ، مشيرة
إلى أن انخفاض الإنتاج النفطي من
380000 إلى 300000 برميل يوميا
خلال عام 2007 الحالي طبق لرويترز
في الثاني من الشهر الجاري .
فالنكوص إلى الطائفية هو لعب
بالنار تحول إلى أداة غوغائية
يضرب دعاة الانفصال على وترها
النشاز . وعلى سبيل المثال ما هي
شهادة الدكتوراه التي تسوغ
"للدكتور" فاروق حمزة -- الذي
يعرف نفسه كرئيس ل "تيار
المستقلين الجنوبيين" ويخوض منذ
فترة حربا إلكترونية دونكيشوتية
لبث الرياح السموم لتاج – كي
يتجاهل اللغة الواحدة ودين
التوحيد المشترك والثقافة العربية
القومية الجامعة والمصير المشترك
لعرب اليمن لكي يعلن في مقال وزعه
على الشبكة العنكبوتية "الإنترنت"
يوم الاثنين الماضي بأنه "لا توجد
أية روابط يمنية وطنية بيننا
وبينهم إطلاقا" ، أي عرب الشمال
اليمني ، وإذا كان يقصد الحكومة
اليمنية لا مواطنيه الشماليين
لماذا فات تأهيله الأكاديمي
التمييز بين الطرفين ؟ إن دعوته
الانفصالية التي تضرب العروبة في
الصميم لا يمكن أن يغطيها تكرار
استخدامه لكلمة "العربي" لوصف
دعوته التي لا يمكن لأي عربي
قبولها : "فنحن أبناء الجنوب
العربي وهم أبناء الجمهورية
العربية اليمنية ، نختلف عنهم
وحتى في طريقة اللكنة والمشرب
والملبس إن لم نقل والشكل
والعادات والتقاليد" كما يقول .
ولا يترك الدكتور مجالا لأي شك في
أنه ينفخ في رماد فتنة طائفية بين
الشافعية والزيدية لكنه يتفادى
إعلان ذلك خشية غضبة مواطنيه
الذين ما زال يوحدهم الوطن
والعروبة والاسلام .
ومثله يتفادى الإعلان عن طائفيتهم
النافخون في رماد الطائفية في
الشمال ،حيث احتوت الوساطات ،
وآخرها الوساطة القطرية ، عبر
اتفاقيات لوقف إطلاق النار ثلاث
جولات من الحرب الأهلية في منطقة
صعدة في أقصى الشمال منذ عام 2004
، كانت كلفة الجولة الأخيرة منها
حسب بعض التقديرات مليار دولار
أميركي منذ كانون الثاني / يناير
الماضي ناهيك عن آلاف القتلى
والجرحى من العسكريين والمتمردين
والمدنيين وأكثر من 50000 مهجر من
البلدات والقرى المدمرة التي يعلم
الله كم ستبلغ كلفة إعادة إعمارها
.
كما تطل القبلية برأسها منبثقة عن
الطائفية ومتفاعلة معها غفي شمال
الوطن اليمني كعقبة أخرى في طريق
بناء الدولة الحديثة على أساس
المواطنة . إن الاستقطابات
القبلية حول قبيلتي حاشد وبكيل
تدق إسفينا في اللحمة الوطنية
بقدر ما تربك الدولة اليمنية بغض
النظر عمن يحكمها وما الخلافات
العلنية بين حزب المؤتمر الشعبي
الحاكم والرئيس صالح وهو من حاشد
وبين "مجلس التضامن الوطني" الذي
أسسه في تموز / يوليو الماضي ألف
من شيوخ حاشد ووجوهها ومسارعة
شيوخ بكيل إلى الرد بتجمع قبلي
مقابل إلا خير دليل على ذلك .
للجيرة حقوق وواجبات
إن زحف أسراب الجراد الصحراوي على
اليمن واستمرار تدفق اللاجئين
الصوماليين الذين يزيد عددهم
حاليا على خمسين ألفا أمران
يسلطان الضوء على أنه لا يمكن
الحجر عل مضاعفات تفاقم الأزمتين
الاقتصادية والسياسية داخل الحدود
اليمنية التي كان ترسيمها مع
الجيران أحد أهم انجازات الرئيس
صالح خارجيا ، حيث يثبت الآن أن
هذا الانجاز قد حيد أي تدخل من
الجوار لاستغلال الأزمة الداخلية
وهو احتمال كان سيصعد هذه الأزمة
حد التفجير .
غير أنه للجيرة حقوق وواجبات إذ
لا يعقل أن يغامر المواطن اليمني
بحياته لكي يتحدى حظرا على
التظاهر دون ترخيص إلا إذا كانت
الأزمة الاقتصادية تهدد حياته
ذاتها ، وبالتالي لا يعقل أن يكون
جيرانه العرب غير آبهين بمحنته ،
غافلين عنها نتيجة تخمة في
العائدات النفطية أو منشغلين عنها
في احتواء مضاعفات الغزو الأميركي
للعراق أو في احتواء المضاعفات
المحتملة لانسحاب كامل أو جزئي
أصبح في الأفق لقوات الاحتلال
الأميركي هناك أو في مقاومة
الضغوط الأميركية للنيابة عن
واشنطن أو لمشاركتها في مواجهتها
مع إيران ، لأن تجاهل ما يحدث في
اليمن اليوم يعدهم بوضع لن يكون
أقل تأثيرا في أمنهم واستقرار
بلدانهم .
لقد عبر المجلس الوزاري لمجلس
التعاون لدول الخليج العربية بعد
انعقاد دورته ال 104 في جدة مؤخرا
عن ارتياحه لما تم تنفيذه من
خطوات لتأهيل الاقتصاد اليمني
للاندماج في اقتصاديات دول المجلس
كما قال أمينه العام عبد الرحمن
بن حمد العطية ، غير أن هذه
"الراحة" قد لا تطول إذا لم يبادر
الجيران إلى ما تقتضيه حقوق
الجيرة وواجباتها بأسرع وقت ممكن
قبل أن يتطور الوضع إلى ما لا
تحمد عقباه في اليمن وقبل أن يرفع
العطية تقريره إلى القمة الخليجية
في الدوحة في كانون الأول المقبل
.
إن الأزمة الاقتصادية اليمنية
والأزمات المتفرعة عنها هي أحدث
دليل على إخفاق التكامل الاقتصادي
العربي بعامة وإخفاق عرب الخليج
بخاصة في استثمار عائداتهم
النفطية من أجل خلق محيط إقليمي
آمن لهم في جوارهم المباشر ، ليس
بديلا عن استثماراتهم الخارجية بل
كجزء منها يستثمر بعضا من 283 ألف
حساب مصرفي لهم في الولايات
المتحدة الأميركية لتأهيل اليمن
لحماية أمنهم الجنوبي إن لم يكن
لدمجه في اقتصادياتهم .
nicolanasser@yahoo.com*
|