بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

رأي ص 21
من يزرع الأوهام، يحصد الخسارة

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف / عوني القلمجي

 

كل الذين يتحدثون عن امكانية اجراء مفاوضات مع الاحتلال، او يبحثون عن مقعد حول طاولتها، انما يبدأون من الافتراض القائل ان الولايات المتحدة ترغب بالانسحاب وتسعى للبحث عن "مخرج من المأزق".

ولكن هذا ليس هو الواقع.

المأزق موجود طبعا. وهو سبب كل المجادلات الدائرة، والتي ستظل تدور، في أروقة صنع السياسة في واشنطن، ولكن "المدير التنفيذي" للإدارة الأمريكية لم يقدم أي إشارة، حتى الآن، تفيد ان الإنسحاب هو أحد الخيارات.

وفي الواقع، فان كل ما تفعله هذه الإدارة هو: تعديل هنا، وتغيير هناك؛ زيادة قوات تارة، وسحب جزء منها تارة أخرى. وهذا يعني ان البيت الأبيض يحاول "إدارة المأزق" و"إصلاح أعطاله" وليس التخلي عن اللعبة كليا. والفرق بين "إدارة المأزق" وبين التخلي عن اللعبة، واسع بوسع المسافة بين الأرض والسماء.

ماذا يعني ذلك؟

انه يعني، ببساطة، ان الباحثين عن مقعد حول طاولة المفاوضات، انما يغرقون في نوع من أحلام اليقظة، لن تغنيهم بالكثير، لأنهم يؤسسون رغباتهم على شيء لا وجود له.

طبعا، طبعا، تريد الولايات المتحدة وحكومة عملائها ان ترى الكثير من هؤلاء. بل وكلما زادوا أوهاما كلما كان ذلك أفضل.

لماذا؟ لأن أضغاث الأحلام ستعود لتدخل في دائرة "إدارة المأزق" لا في دائرة ترتيب اجراءات الإنسحاب. وهذا يعني: تسوية هنا، وإصلاحا هناك؛ ضما لهذا الطرف تارة، ونبذا لذاك تارة أخرى.

والتتمة الطبيعية لهذا المعنى هي ان يجد الحالمون مقعدا لهم، ليس حول طاولة مفاوضات الإنسحاب، وانما مقعدا في "العملية السياسية" التي يديرها ويتحكم بعناصرها الإحتلال. وهو ما سوف يؤدي، في النهاية، الى قبول اللعب في ملعب الإحتلال وبشروطه.

البدء من الأوهام، جزء من بيئة السياسة في العراق.

وهذا مرض يمكن تتبع جذوره في الطبيعة الأيديولوجية لعالم السياسة ليس في العراق وحده فحسب، وانما في عالم الثقافة العربية بمجملها أيضا. والأيديولوجيا زرعٌ لأهاوم وحصادٌ لأوهام.

وليس من العبث ان ثقافتنا هي ثقافة شعر وتحليق في سماوات المجاز اللفظي.

وليس من العبث أيضا ان تتحول هذه الثقافة في السياسة الى شعارات مطلقة، ولا تبدأ إلا من أقصى النهايات حيث يكون كل شيء على ما تروم الأحلام. وليس من العبث، أيضا وأيضا، ان المشتغلين بهذا النوع من السياسة لا ينظرون الى الواقع كما هو، بل كما يتصورن انه واقع.

ومن هنا تبدأ أحلام اليقظة.

فاذا أضيف اليها ملح الإفتراضات الأيديولوجية والإيمان بالنهايات، قبل مليون ميل من الوصول اليها، فليس من العجيب أبداً ان تتحول لغة السياسة وسلوكياتها الى هلوسة حقيقية.

وككل هلوسة، فانها تنتهي بخسارة ومأساة.

× × ×

خوض المقاومة، او التحدث بإسمها، بناء على هذا النوع من الهلوسة يهدد بنحرها.

هذا الخطر يتطلب قراءة حذرة للواقع. كما يتطلب التعامل مع شروطه وظروفه بالكثير من صلابة الإرادة من اجل الإستمرار بالمقاومة.

وصلابة الإرادة تتطلب الكثير من رجاحة العقل.

ولعل من المفيد هنا تثبيت بعض الحقائق:

* المقاومة العراقية ليست كغيرها من المقاومات.

* هذه المقاومة ليس لديها غابات ولا جبال ولا أدغال.

* وهي لا تنطلق من أراض محررة.

* ثم انه لا توجد دولة تدعمها في الجوار.

وفي الواقع فان جميع دول الجوار انما تدعم الاحتلال، او تتجاوب مع ضغوطه!

* ولا توجد سوى أصوات قليلة، وفردية، في العالم، تدافع عن المقاومة العراقية او تعتبرها مشروعة أصلا.

* وحتى الأمم المتحدة التي اتخذت قرارات مهدت السبيل للغزو، بناء على أكاذيب، لم تتراجع عن دعمها للإحتلال حتى عندما انكشف ستر تلك الأكاذيب.

وظلت، هي وكل منظماتها "الانسانية"، متورطة بأعمال الخداع والتستر على جرائم وفظائع الاحتلال.

* المقاومة في فيتنام الجنوبية، كانت تدعمها فيتنام الشمالية، وهذه يدعمها الإتحاد السوفياتي، بقضّه وقضيضه، ومن خلفه "المنظومة الإشتراكية" (أسكنها الله فسيح جناته)، وما يسمى "حركة التحرر الوطني العالمية"، ومئات الملايين من البشر في كل أرجاء العالم.

* وكان العرب، من العراق الى مصر الى ليبيا، خلف المقاومة في الجزائر.

الكل كان يزودها بالمال والسلاح والدعم المعنوي. وكانت عاصمة الجامعة العربية سندا ليس لممثلي حكومة الاحتلال، بل سندا لقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية.

* وكل العرب كانوا يقفون خلف المقاومة الفلسطينية.

كل أغانينا وشعاراتنا وتظاهراتنا كانت تهتف بحياة الفدائيين الفلسطينيين، وكان سيل المتطوعين العرب يكاد لا ينقطع لدعم فصائل المقاومة الفلسطينية.

* في المقابل، الاحتلال الأمريكي إحتلال ليس أقل تعسفا وانحطاطا وبشاعة من أي إحتلال آخر.

بل أنه من أكثر ما عرفت البشرية وحشية من أنواع الاحتلالات.

وعلى الأقل فان أرقام الضحايا والمشردين والمعذبين بلغت حدودا فلكية (مليونية بامتياز).

ومع ذلك، فان الإحتلال لا يبدو وكأنه إحتلال في الخطاب السياسي الرسمي المتداول! والمتطوعون العرب يُنظر إليهم على انهم "إرهابيون".

وأكثر من ذلك، وبرغم كل الشهادات الأمريكية التي تقول ان 95 في المائة من المقاتلين هم عراقيون، فان صورة المقاومة العراقية لا تُقدم إلا على إنها "إرهاب"، وإلا على انها تابعة لتنظيم "القاعدة"!

هذا الوضع يعني ان المقاومة العراقية تحارب عدواً ما على كل جبهة من الجبهات. والاحتلال ليس سوى واحد من هؤلاء الأعداء!

حتى انها لم تنتصر بعد على جبهة المفاهيم، فما بالك بالوقائع!

ولكنها مازالت تقاوم بقوة شيء واحد: دعم الشعب العراقي، واحتضانه، وصلابة إرادته الوطنية.

الآن،...

إذا كانت هذه الحاضنة هي الشيء الوحيد الذي تملكه المقاومة، فكم تحتاج من الحذر في التعامل معها؟ كم تحتاج ان تكون إيجابية مع كل مكون من مكوناتها؟ وكم تحتاج ان تراعي مشاعرها ومصاعب حياتها؟ وكم تحتاج ان توفر لها ما تستطيع من المؤازرة والتفهم؟

الكثير قطعاً.

* لقد خسرت المقاومة الكثير، عندما كان بعض أطرافها يُكفّر الشيعة ويُقدّم المقاومة على انها سنية.

 وكان هذا عاملا ساهم في تعزيز مشروع الاحتلال الطائفي وساهم في تغذية مليشياته بالكثير من فرق الموت.

* ولقد خسرت المقاومة الكثير، عندما لم تنتبه، منذ البداية، انها يجب ألا تكتفي بمقاومة جنود الإحتلال ومعداته وعملائه، بل أن تقاوم مفاهيمه ولغته ومشاريعه الطائفية، وأن تبتعد عنها، بل وأن تتبنى خطابا مضادا لها.

* ولقد خسرت المقاومة الكثير عندما ظلت، لوقت طويل، فصائل متفرقة يحسب كل منها انه قادر بمفرده على قيادة مشروع التحرير.

* ولقد خسرت المقاومة الكثير عندما تبنّى بعض أطرافها دعاية الإحتلال وقبل خداعه فانتقل ليحارب "القاعدة"، فاذا به يحارب مقاومين عراقيين.

* ولقد خسرت المقاومة الكثير عندما لم تجد سبيلا لتشكيل هيئة أركان موحدة للتنسيق الميداني وتبادل المعونات والخبرات والتسهيلات.

* ولقد خسرت الكثير عندما لم تجد سبيلا لتوحيد خطابها السياسي على مشروع يبدأ من قيم جامعة وشاملة تُلهم وتحفّز القيم الوطنية التي ظل عملاء الاحتلال يفتقرون اليها.

ولكنها برغم كل ذلك، ظلت تقاتل، وظلت تكيل الصاع تلو الصاع لقوات الاحتلال وتلحق بها الخسارة تلو الخسارة.

وكان ذلك من أدلة البسالة التي، قياسا بظروفها وأخطائها، سيثبت التاريخ انها الأرقى والأنصع والأبسل.

 بل انها، وسط كل أنواع الظلم الذي يحيط بها، بسالة أسطورية بجميع المقاييس. ليس كمثلها من قبل، وقد لا يكون مثلها من بعد.

فهل يجوز، بعد كل هذا، ان يزرع البعض بين أحواضها بذور الأوهام؟ هل يجوز القول ان هناك أي مبرر للتفاوض مع الاحتلال عندما لا يكون هذا الاحتلال مستعدا حتى للاعتراف بوجود المقاومة، او مجرد تسميتها بإسمها؟

هذا الوهم يجب كنسه كليا.

يجب تحويله الى عار. تجب إزالته من التداول ومسحه من كل صفحة من صفحات النقاش. يجب القول انه هذيان مخجل من جانب أناس يبحثون عن مقعد حول طاولة الاحتلال.

× × ×

ما نحتاجه لكي نضمن انتصار المقاومة:

1- أن تخطط المقاومة لأعمالها كأن الاحتلال باق الى الأبد، وأن تقوم بتوفير المستلزمات (التوافقية خاصة) لما يجب فعله وكأنه سيزول غدا.

2- أن تكون المقاومة مستعدة للمزيد من الجرائم المحتملة والأعمال الكارثية التي يرتكبها الاحتلال وعملاؤه (من قبيل هدم سد الموصل، او تنظيم حملة أعمال إبادة جماعية جديدة).

3- أن تطوي فصائل المقاومة كل صفحة من صفحات الأخطاء الماضية وتكافحها، فيما بينها، بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالرد على الخطأ بالخطأ.

4- أن تحتفل المقاومة بمساندة الحاضنة الاجتماعية وبوطنية العراقيين وضمائرهم بوصفها الملاذ الوحيد الذي لا ملاذ بعده، وان تمتثل للقيم والاعراف والتقاليد الاجتماعية التي يمثلها هذا الملاذ.

5- أن تضع جدول أعمال واقعي وتتمسك به. وفي إطاره، تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول. لا زيادة ولا نقصان.

6- الموقف الصلب يجب ان يظل صلبا، بناء على وقائع، لا بناء على إفتراضات.

7- أن تتخلى فصائلها، كليا، وبصدق، عن الاعتقاد بان أيا منها قادر على تحقيق النصر بمفرده.

وبذلك، فان كلا منها يجب ان يتعلم كيف ينظر الى رفاقه وشركائه بثقة وتضامن واحترام.

فالمقاومة الصارمة تتطلب أخلاقيات صارمة أيضا.

8- أن تحسب حسابا لكل عدو، على جميع الجبهات.

وان تنظر اليه على انه عدو.

9- أن تشكل هيئات ولجان مركزية مشتركة لكل حقل من حقول المقاومة: من هيئة الأركان، الى التمويل، الى التسلح، الى الإعلام، الى رعاية شؤون الضحايا (المهجرين، وأسر الشهداء، المعتقلين...). فبوجود هذه الهيئات سوف تتوفر الأرضية المادية للاعتراف بوجود المقاومة وبكونها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب العراقي.

حق التمثيل لا يُمنح بناء على مزاعم، وفي ظل تمزقات تدل على إنعدام الأهلية (ونقص العقل)، ولكنه يُكتسب بوقائع التنسيق والشراكة والوحدة.

10- وأن تتخلى عن الأوهام. فلا يعود مسموحا لأي أحد ان يتحدث عن المفاوضات إلا عندما يركع الاحتلال.. بل ولا حتى عندما يركع.

الاحتلال وعملاؤه يجب ان يدفعوا ثمن الجريمة كاملا قبل ان يمكن التحدث عن أي مفاوضات معهم. والحروب سجال، ولكنها لا تنتهي لصالح الضحايا، إلا عندما تكون الوقائع هي مادة الموقف الصلب.

قبل أن يعترف أي أحد بالمقاومة كممثل شرعي ووحيد للشعب العراقي، أليس من الأولى بكل جبهة من جبهات المقاومة أن تعترف بشرعية وجود الجبهة الأخرى وبحقها في التمثيل المتساوي؟

وقبل ان تنتصر المقاومة على أعدائها، أليس من الأولى ان تنتصر كخيار وحيد بين المقاومين أنفسهم؟

ثم، أليس من الأولى ان ينتصر هؤلاء المقاومون لبعضهم البعض بالوحدة والتنسيق والتضامن؟

أليس هذا هو المنطق؟

هل يمكن الفوز بأي منطق آخر؟

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 06  ذو الحجة 1428 هـ  الموافق  15 / كانون الأول / 2007 م