بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

جراحات التعليم العالي العراقي في ظل الاحتلال الأمريكي

 

شبكة المنصور

أ . د . علي سلطان العراقي

 

من المعروف إن التعليم العالي ، هو الحلقة الأقوى في وجه أي تغيير سلبي للأوضاع السياسية والاقتصادية والأخلاقية للبلدان ، لأسباب تتعلق أولا بالتقاليد الجامعية ، التي تُبنى من خلال التجربة وتبادل الخبرات للأساتذة ، الذين عادة يجلبون ما يعزز التقاليد الجامعية من الجامعات ، التي تخرجوا منها ، وثانيا كون العلوم بكافة تخصصاتها تعتمد على المنطق بعيدا عن الأساليب الملتوية للسياسيين والمتطفلين والطارئين .

ولكن عندما تكون الجامعات هدفاً استراتيجياً لقوى خارجية متخلفة و طارئة ومتطفلة وانتهازية وغير وطنية ، في مقدمتها الاحتلال السيئ وعملاؤه الأذناب ، فهذا أمر خطير ، سينتج عنه انهياراً ملحوظاً للعملية التربوية والتعليمية ، بحيث تصبح عملية التعليم الوطني العام ، وإعادة التنمية الوطنية للجامعات ، أمراً بالغ الصعوبة ، بفعل تغلغل المتملقين والمرتزقة والفاسدين والحرامية .

إنَّ الذي حدث في ميدان التعليم العالي ، منذ بدء صفحة الاحتلال المستمرة في العراق ، كان أمراً مخططاً له بإحكام ، من قبل الغزاة الأمريكيين وعملائهم الصغار ، فقد تحولت المواقع الجامعية إلى مواطئ طيعة للمحتلين ، الذين عسكروا فيها ، بعد أن حلوا مجالس الجامعات ، وعبثوا بالسياقات القانونية والتنظيمية ، وجاءوا بأناس جهلاء عن طريق انتخابات صوريه لم تراعِ المستوى العلمي ( المراتب العلمية ) لضمان تمشية القبول الوظيفي لضعاف النفوس والطاقات وتنصيب عملائهم في مسؤوليات الرئاسة والعمادات ، وقد أغدقوا عليهم بكارتونات من الدولارات الجديدة الطبعات ، وبدون حسابات ولا مراجعة ولا تدقيق ، وقالوا لهؤلاء المسؤولين الجدد: اصرفوا هذه الأموال سريعا بطريقتكم الخاصة ، وبدون لجان مشتريات بحسب الحاجة الملحة والضرورية ...! ولكم أن تتوقعوا ماذا فعل هؤلاء اللصوص بكل تلك الدولارات .؟

فقد حولوها إلى الجيوب الخاصة ، وشراء الشقق والبيوت ، وصنع العصابات والميليشيات .

وأدى ذلك كله ، إلى انحراف هؤلاء الجهلة فوق انحراف ذمتهم المالية وخيانتهم للأمانات ، إلى انحرافهم عن التقاليد الجامعية وأخلاقيات العمل الجامعي، وتحولوا إلى مخربين محترفين في تحجيم دور العلم والبحث العلمي وإصابة العملية التعليمية بالشلل والعقم والتراجع ، وبعض الأمثلة في هذا المجال ، ربما تكون شاهدة على فشل حالة التعليم الجامعي في عراق الإحلال ، وينبغي على مدوني التاريخ أن يقفوا عند هذه الناحية المهمة من نواحي سقوط العقل التعليمي في العراق ، خلال هذه الحقبة الصعبة من تاريخ الوطن والمجتمع والدولة :

فقد حدثني بعض الزملاء من العراق ، عما جرى في جامعة بغداد والمستنصرية ، وهما من الجامعات العريقة بتقاليدها وسمعتها ، بأنهما أصبحتا مرتعاً للمليشيات الطائفية ، التي مارست القتل والنهب والسلب والحرق والتدمير والإقصاء والتهديد والوعيد والتدخل في تعيين العمداء ورؤساء الأقسام ، دون الأخذ باعتبارات المرتبة العلمية أو مبررات الخبرة المهنية ، وإنما طبقا للأجندات المحاصصية والعصابات والميليشيات ، وميزان مصالحها السياسية الضيقة ، التي باركها الاحتلال .

وهذا الواقع المؤلم ، وما صحبه من تصفيات مجهولة للعقول الأكاديمية بشكل متواصل لا ينقطع ، هو الذي حدا بكثير من الأساتذة المرموقين والعلماء المعروفين ، إلى الهرب خارج القطر وترك الجامعة ، ومن بقي منهم اليوم ، فهو يفكر كيف يحمي نفسه اكثر مما يفكر في مواصلة عطائه العلمي وحياته المهنية ، أو الانخراط ببحوثه العلمية ، حتى تحولت هاتان الجامعتان إلى ملتقىً لأهل العمائم وأفراخهم ، وإلى فرجة ساخرة لممارسة الطقوس الدينية الطائفية والحزبية ، وهذا بكل تأكيد شيء محزن ومرير على قيمة العلم وأسسه العلمية المطلوبة .

كما وحدثني زميل آخر من جامعة البصرة العريقة بتقاليدها العلمية والإدارية ، بأنها قد أصبحت اليوم موقعا للصراعات الميليشياوية ، ووكراً للنهب المنظم ولتصفية الحسابات السياسية ، ويعاني فيها الأساتذة الجيدون من صراعات مع مجاميع التدريسيين الجدد - المتسلقين المدعومين ميليشياويا وحزبيا ، ممن يسعون إلى تخطي كل سياقات العقل العلمي وضوابط الالتزام الأخلاقي بسطوة العلم ، ليصبحوا قادة ورؤساء غير مستحقين للمناصب الجامعية ، في غمرة الاحتلال وتهاوي القيم والأخلاق والإخلاص للوطن ، والأساتذة الجيدون يقبعون في سبات من الضياع والعزلة والشعور بالانكسار وعدم الاحترام ، ومن بقي منهم ، لا حول ولا قوه لهم ، ويعانون من ضغط الأقوياء المرتزقة والطارئين ضد عملية تطوير العلم والتعليم ، وما عليهم إلا أن يكونوا صامتين أو منصاعين في تنفيذ ما يطلبه منهم ، أولئك المرتزقة الضالين والهامشيين الطائفيين ، وهذا الأمر ينطبق على كل الجامعات في المناطق الجنوبية ، التي باتت تتبع الجهات والتجمعات والأحزاب ، التي لا تمت للوطن بأية بادرة خير أو وسيلة .

أما في مناطق الوسط والشمال ، فإنَّ جامعة الانبار ، حدّث ولا حرج ، وقل عنها ما تشاء ، فقد حدثني كثير ممن غادر عنها ، أو ترك الانتساب إليها ، من أن هذه الجامعة ،التي مضى على تأسيسها عشرون عاماً ، قد أصبحت في ظل الاحتلال ، جامعة تلعب في ساحتها عدة قوى للتخريب بماركة مسجلة تشير إلى دلالة الأمريكان وأذنابهم ، وهذه القوى هي :

1- الحزب الإسلامي ، الذي لا يختلف عن حزب الدعوة أو حزب الثورة الإسلامية الطباطبائية من حيث اللهاث وراء المناصب الإدارية والمراكز العلمية ، حيث أسهم هذا الحزب في تنصيب قيادات ، اشتهرت بالسرقة وعمادات لديها اليوم شقق وفلل في سوريا وبلدان أخرى .

2- الميليشيات الصحووية والعشائرية ، التي صحوتها مخصصه لحماية الأمريكان وصيانة النهب والسلب ، والتي أصبحت تصول وتجول في داخل أروقة الجامعة ، بعد أن نجحت في عقد صفقة مع الحزب الإسلامي ، بإسناد مناصب الرئاسة مؤخراً بطريقة عشائرية ومنحصرة بأتباع الهايس ممثل حرامي العراق أحمد الجلبي ، إلى الحد الذي أصبحت فيه العشيرة تتدخل في مسار الترقيات والامتحانات والعقوبات والمقاولات وسرقة الموارد لصالح الصحوة ومن خلال التهديدات الميليشياوية والسلاح ، التي أصبحت فعلا يوميا معروفا في هذه الجامعة .

ونفس الشيء قد ينطبق على جامعات المحافظات في ديالى وصلاح الدين وكركوك والموصل ، وبابل، حيث أصبحت العملية التعليمية ، تحت رحمة القوى العشائرية ورؤية الأحزاب الشوفينية الضيقة ، التي حشرت أنوفها في هذا المجال ، استغلالا لمواقف سياسية عقيمة ، وانتهازا للضعف الكبير في السلطة المركزية والوزارية ، فيا للهول من هذه التدخلات العشائرية وتقاليدها المنفلتة ، التي مرغت السمعة التعليمية للجامعات العراقية ، وجعلتها مندرجة طبقا لرؤية العوائل والأسماء المتنفذة ، لم يعهدها العراق من قبل .

أما جامعات المنطقة الشمالية ، فهذه لبست الثوب الفاقد للشخصية ، وجنحت وراء التدخلات العقلية الموسادية في وضع مناهجها وطرائق تدريسها ، وفي عمليات التدريب وتأهيل الكوادر ، مستغلة أحلام الانفصالية الموعودة عند قادتها الداعين لها ، كما تجري على لسان الطلباني والبرزاني ، الذين يكنون إعجابهم بإسرائيل ويرتبطان بها بعلاقات مشبوهة ، أسهمت في تقويض الواقع العربي وقوة اللسان العربي في المنطقة الشمالية ، وحولت الجامعات الكردية إلى بؤر صارخة لمحاربة الوطنيين العراقيين وتكسير تطلعاتهم ، من خلال قوى البيشمركة ومرتزقة الأحزاب الخائنة للتعليم الوطني الجامعي العراقي .

ونتيجة لكل ما تقدم فقد انهارت المسيرة الجامعية انهيارا محزناً ، ومن أبرز معالم ذلك الانهيار تمثل في الآتي من المؤشرات :

1- شهدت الجامعات العراقية حركه كبيره من الترقيات العلمية الباطلة ، فنجد أن أعداد الذين يحملون مرتبة الأستاذية ومرتبة الأستاذ المساعد ، قد تضاعفت بشكل كبير ، وهذا آمر جيد إذا كانت لجان الترقيات تعمل بنزاهة وأمانة علمية وعدالة موضوعية ، ولكن الأمر كان بعكس ذلك ، لان جميع المعلومات والشواهد والحالات ، تشير إلى أن لجان الترقيات المركزية في الجامعات ، أصبحت لجان هزيلة ومخترقة وتفشي أسماء المحكمين والخبراء خلافا للتعليمات الموصية بالسرية ، بدليل تدخل أصحاب النفوذ والقوة للتلاعب فيها حسب المصالح السياسية ، وإن خبراء الترقيات في الجامعات العربية ، باتوا يتذمرون من متابعة أصحاب الترقيات وتوسطانهم المريبة لهم ، لغرض تمشية ترقياتهم على بحوثهم الضعيفة ، فما بالك بالخبراء في العراق والذين وصل الآمر بهم إلى التهديد والتحذير في حاله عدم تمشية ترقيات بعض الأساتذة ، وهذا الآمر حدث وبشكل مستمر في المرحلة الحالية ، وتحت فترات المسئولية لرؤساء الجامعات الجدد ، بوصفها ( الفترة الضبابية ) لنهاية معايير العلم والتعليم .

2- عدم وجود آي مفهوم للحرم الجامعي ، إذْ أصبحت الجامعات مرتعا لهمرات المحتلين وجنود الغزاة ، وللمليشيات ولرجال الدين والأحزاب والمسلحين واصبح التدريسيون مهددين حتى في داخل القاعات الدراسية ، وهذا ما لم يوجد ولم يحدث في أية جامعه في العالم .

3- تدهور المستوى العلمي في الدراسات العليا ، وذلك بسبب عدم وجود معايير محدده للقبول ، ونتيجة للتدخلات الحاصلة في شؤون لجان الدراسات العليا ، من قبل أناس جهلاء وعدم وجود الخبر لدى كثير من رؤساء الأقسام العلمية ، الذين هم غير مؤهلين علميا والذين جاءوا بفعل التدخل من خارج الجامعة ليحتلوا تلك المناصب .

4 – فقدان معايير النزاهة وشرف الأداء السليم ، سواء في نتائج الامتحانات النهائية ، أو في التعيينات الجديدة ، أو في توزيع المناصب والمراكز الإدارية والقيادية ، وإلإيفادات العلمية ، وإحالة عطاءات عقود المشاريع للمقاولين ، ذلك لأن المعايير أصبحت بيد الرئيس الفاسد وعصابته الفاسدة التي أوجدها لخدمته في مركز الرئاسة من مساعد ومدراء آخرين وعمداء مشكوك في نزاهتهم ، وهم وحدهم المتحكمون في النشاطات الجامعية ، لما يصب في فائدتهم ومصالحهم الخاصة فقط .

فمن ياترى ينقذ جامعات العراق من جحيمها ومحنتها .؟

وكيف يمكن فعل ذلك ،ما لم يتحرك العلماء والمفكرون لرفض الاحتلال ورفض الانتهازيين الذين خرجوا من تحت وصايتهم ، ليكونوا مطاعين مفسدين في غرق سفينة العلم والتعليم ، هكذا بشكل مدمر أساء للمجتمع العراقي أولاً، كما أساء لمطالب تقدم وتطوير عجلة الجامعات في العراق . ؟

 

 

 

 

شبكة المنصور

الثلاثاء / 09 ذو الحجة 1428 هـ  الموافق 18 / كانون الأول / 2007 م