بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تداعيات الأزمة التركية – العراقية
تبدد أوهام جورج بوش بالنصر في العراق
وتُحكم حبل المشنقة على رقبته

 

 

شبكة المنصور

 

 

يُخيَّل لرئيس الإدارة الأميركية أنه لا يزال إمبراطوراً على العالم، بينما الواقع أن العالم، ومن ضمنه أصدقاء إدارته، يعلنون سخريتهم من أضغاث أحلامه.

ليس من احتل العراق على صهوة انتصاراته في يوغوسلافيا سابقاً، وأفغانستان بعدها، هو كمن سيخرج منه. احتلت إدارة جورج بوش العراق طامعةً بثرواته، واعدة الشعب الأميركي، على لسان رامسفيلد، وزير دفاعها المرغم على الاستقالة، بأنه سيعوم على بحور آبار النفط العراقي وينعم بخيراتها. كما وعدت الشعب الأميركي بأن أبناءه من الجنود سيعودون أبطالاً إلى أميركا يروي الأبناء للأحفاد ما حققته بلادهم من انتصارات وبطولات على أرض الرافدين. إنتصارات ستُضاف إلى انتصاراتهم القديمة في الاستيلاء على أرض الهنود الحمر، وترتفع تلال تلك الانتصارات حتى تتسع لأقدام الإمبراطور الجديد الذي سيحكم العالم بحيث لا تفلت غيمة في السماء قبل أن تمطر الخيرات في خزائن أميركا.

ليس منظر جورج بوش، الذي قرَّر غزو العراق من دون تفويض من مجلس الأمن، بمساعدة طوني بلير، حاكم بريطانيا، وأزنار حاكم إسبانيا، وتأييد مطلق من جون هيوارد حاكم أوستراليا، وحاكم إيطاليا، وغيرهم كثيرون. لقد خرج من مؤتمره معهما قبل غزو العراق معلناً بشرى نهاية آخر نظام وطني في العالم يتمرد على قراراته ويرفض بركاته، أما منظره الآن، بخاصة وقد ثأر البريطانيون من حاكمهم التابع لمتبوعه بوش، وثأر الشعب الإسباني من حاكمهم التابع لمتبوعه إمبراطور أميركا، وهكذا فعل الشعب الإيطالي، فأشد ما يكون تعاسة، وهو يرى المقاومة العراقية تذرو أحلامه في مهب رياح أرض الرافدين.

منظر جورج بوش يتأزم يوماً أكثر من اليوم الذي سبقه، بخاصة وقد انتقل من موقع الآمر الناهي، إلى موقع التسول على أبواب من يستطيع إمداده ببصيص أمل حتى ولو كان خادعاً للإمساك بأحلامه وآماله وتاجه المفقود.
جردة حساب بسيطة، تبرهن على أن رئيس الإدارة الأميركية هائم على وجهه وقد فقد السيطرة حتى على حزبه الجمهوري نفسه، ولن نقول حلفاءه لأنهم قرفوا من مغامراته البهلوانية ووعوده العرقوبية.

فلنبدأ من النهاية، أي من المشهد الراهن، لعلَّ فيه ما يختصر أزمة الإدارة الأميركية:

إن تركيا، حليفة الولايات المتحدة الأميركية منذ سبعين عاماً، تقف في مواجهة جدية ضدها، وقد حشدت جنودها، مدعمة بقرار شعبي تركي عازم على تقويض آخر ما تبقى من نتائج احتلال العراق.

إنها أزمة ليست كالأزمات السابقة، ومأزق ليس كالمآزق السابقة، فهي تتميز بحزم وعزم تركي عنوانه لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، لأنه واحد من حليَّن لا ثالث لهما: إما سيادة تركيا على أرضها الوطنية من دون تهديد انفصالي كردي، أو ترك هذه السيادة سائبة تتلاعب فيها استراتيجية الإمبراطور الأميركي الذي يستعجل تقسيم المنطقة عامة، والوطن العربي بخاصة.

عرفت تركيا مبكرة خطورة تداعيات احتلال العراق، وإسقاط سيادته، على الوضع التركي وسيادته، فأحبطت استخدام الأرض التركية، في أواخر آذار من العام 2003، ممراً لقوات الغزو الأميركي تجاه العراق، وهو السبب الذي أربك خطة قادة البنتاغون في حينه. وإن كان الأميركيون قد التفوا عليها ببدائلهم الماكرة، إلاَّ أن هواجس تركيا ومخاوفها على سيادة بلدهم لم تبددهما تداعيات ما بعد الاحتلال وإنما العكس هو الذي حصل، خاصة عندما استمرأ الانفصاليون الأكراد لذة طعم (دويلتهم في شمال العراق) مدعومة بالتحالف الاستعماري الصهيوني، مما أثار شهية حزب العمال الكردستاني التركي، فنشط بشكل ملحوظ بعد احتلال العراق. الأمر الذي وجد فيه الأتراك الحبل يضيق على رقابهم خوفاً من تداعيات إعلان أميركا خطة تقسيم العراق، تلك الخطة التي تعني عملياً تقسيماً للمنطقة كلها، وتقع في القلب منها الدولة التركية ذات العشرة ملايين كردي الجاهزين للاستقواء بمشروع الشرق الأوسط الجديد من أجل إنجاز أهدافهم الانفصالية.

نتيجة ذلك، لا نرى في القرار التركي في ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني خبطة تكتيكية، بل هو قرار استراتيجي عنوانه الرئيس حماية السيادة التركية على أراضيها، ولا يمكنها أن تضمن ذلك بأقلّ من إعادة توحيد العراق. كما أن هذا القرار يعني مواجهة حادة وجدية مع مركزية القرار الأميركي – الصهيوني، لا تنتهي مفاعيله بتسوية أو تهدئة مؤقتة، بل له علاقة وثيقة بمواجهة أي تخطيط تقسيمي لأي دولة من دول الجوار الجغرافي لتركيا. وعلى هذا الأساس اعتبر الأتراك ان قرار الكونغرس الأميركي ليس موجهاً للعراق وحده، بل خطره يطال تركيا أيضاً.

لم تخلخل الخطوة التركية، عندما قررت ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، قواعد مخطط الاستيلاء على العراق، وإنما جاءت لتساعد على تهديمه بعد أن خلخلت المقاومة الوطنية العراقية ذلك المخطط، ودفعت بالإدارة الأميركية لتختار المتاح مما بقي لها من خيارات. وكان ذلك المتاح هو الكشف عن تصغير المخطط الأساس، في الاستيلاء على العراق كاملاً غير منقوص، وتقليصه إلى حجم حماية دويلة كردستان، تحت تواطؤ كردي، وإسناد صهيوني، وجعلها بقعة آمنة لما سوف تبقيه الإدارة من جنود في العراق بعد انسحابها منه عاجلاً أم آجلاً.

فإذا راهنت تركيا في السابق، بامتناعها عن تأزيم الأمور مع حكومة العراق المحتل وإيصالها إلى الدرجة التي عبَّر عنها البرلمان التركي والشعب التركي في الآونة الأخيرة، فإنما السبب يعود إلى أن العراق الذي قُسِّم بمسرحية دستورية أميركية، لن يصل إلى حدود انفصال فعلي لشماله، وإنه سيكون كله عملياً محكوماً ومُداراً من قبل الأميركيين، الأمر الذي يُبقى أي هدف كردي في جنوب تركيا غير فاعل وغير خطير. هذا إذا لم تأخذ مخطط الشرق الأوسط الجديد على محمل الجد.

أما وأن الانسحاب الأميركي من العراق قد أصبح مسألة اختيار وقت وتوقيت مناسبين، خاصة وأن من أهم سيناريوهاته وأقربها للتنفيذ الأميركي، يقتضي فصلاً أميركياً فعلياً لشمال العراق، ففيه ما فيه من الاعتراف العملي بانفصالية كردية عراقية ستتيح الفرصة لانفصالية كردية في جنوب تركيا، الأمر الذي سيعزز دور حزب العمال الكردستاني وستفتح شهيته إلى أقصى درجاتها في استمرار حرب عصابات ضد السلطات التركية من أجل الحصول على دولة كردية ثانية، تمهِّد أو تترافق مع العمل لقيام دولة كردية ثالثة في شمال شرق سورية، ودولة كردية رابعة في غرب إيران.

فإذا كان هم الإيرانيين الآن، وسكوتهم على ما يجري، من قبيل السكوت للحصول على فيدرالية في جنوب العراق، فإن الانفصالية الكردية، فيما لو استقر الوضع لمصلحة استمرار دويلة كردستان العراق، لن توفِّر في المستقبل الأمن في الداخل الإيراني، حتى لو بعد حين.

لقد استباح المشروع الأميركي بعد أن احتل العراق سيادته الوطنية، وهي المدخل الرئيسي لاستباحة وحدة الدول المجاورة للعراق، وبالتالي استباحة سيادتها.

فإذا كان قرار تقسيم العراق عنواناً عاماً في قرار الكونغرس، فإنه يُعتبر مدخلاً أساسياً لتبرير استمرار دويلة كردستان. وهي تأتي كأمل أخير في الاحتفاظ بموقع قدم أميركية في تلك الدويلة بعد الانسحاب.

وإذا كانت الانفصالية الكردية، في مشروع الكونغرس الأميركي، تبدو وكأنها قطعة مقطوعة الجذور عن غيرها من الانفصاليات الأخرى، داخل العراق وفي دول الجوار، فهذا ليس إلاَّ تعمية لمخاطر تلك الانفصاليات، وهي تمهيد عملي واعتراف غير مباشر بها، فهي تمرير لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أقرته الإدارات الأميركية السابقة. ذلك المشروع الذي لم يبق مشروعاً وإنما وُضع على سكة التنفيذ، وقد أطلق الكونغرس الأميركي رصاصة البدء به، وتلك مسؤولية لا يتحمل الحزب الجمهوري أوزارها لوحده، وإنما أميركا مجتمعة تتحمل تلك الأوزار، فلولا موافقة الحزب الديموقراطي الأميركي على إقرار مشروع تقسيم العراق لما كُتبت له الحياة.
لقد كان الموقف التركي هو الأنموذج العملي لما كان على الدول العربية المهددة كياناتها السيادية بالتقسيم، أن تقفه، وعلى الأقل تلك الدول التي تحيط جغرافياً بالعراق. وإذا كان الموقف التركي محكوماً بسقف الحؤول دون قيام دولة كردية في شمال العراق، فإن المخطط التقسيمي لكل العراق يُعتبر المكمل له، والمترافق معه، بحيث يعيشان معاً، أو يجب أن يموتا معاً.

ذلك المخطط يشمل انفصاليتين:

-جنوب العراق الذي يُصر ما يُسمى بـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، وحزب الدعوة، على قيامه، وكلاهما مدعومان من إيران.

-ومشروع انفصالية وسط العراق الذي أعلنت عنه بعض الفصائل، التي تنسب نفسها إلى المقاومة الإسلامية في العراق، وأطلقت عليه اسم «جمهورية العراق الإسلامية»، وهذا يحمل أكثر من بصمة مشبوهة لأنه يعطي مبرراً لانفصاليتيْ جنوب العراق وشماله، ويُخشى أن يكون مدعوماً من السعودية ودول الخليج العربي.

إن تكامل المشاريع الثلاثة، وترابطها، يعنيان أن الموقف التركي يعالج الجزء من المشروع الأكبر، وستبقى معالجته قاصرة وضعيفة، ومن دون فائدة، إذا لم تتم معالجة المشروع، بأجزائه الثلاثة كرزمة واحدة. وفي هذا الإطار لا يجوز أن تتعاون سورية مع تركيا من أجل إفشال خطوة شمال العراق التقسيمية فحسب، وإنما هي معنية بمفاتحة إيران من أجل معالجة داء الانفصالية في الجنوب أيضاً، وهي مدعوة للعمل والتنسيق مع دول الخليج العربي، خاصة السعودية لمعالجة الأجزاء الأخرى من مشروع التقسيم.

يجب أن تفتح موافقة الكونغرس الأميركي، وهي لم تكن لتحصل إلاَّ لأن تقسيم العراق أصبح قيد التنفيذ، البوابة واسعة أمام كل العرب من أجل اتخاذ مواقف جريئة وحاسمة، لأن الأمر تجاوز مزاعم الإدارة الأميركية بتخليص تلك الأنظمة من ديكتاتورية النظام الوطني في العراق إلى مرحلة التهديد الفعلي لسيادة تلك الدول ووحدة أرضها وشعبها.

وهنا، وحيث إن الحركة التركية كانت سبَّاقة في دق جرس الخطر، ولاقت استجابة سريعة من سورية، فإن هذا لا يعني أن الدول الأخرى، خاصة السعودية، تعيش حالة استرخاء وحيادية. وفي ظل غياب المعلومات الدقيقة عما يجري وراء كواليسها، إلاَّ أن استنتاج وجود مخاوف جدية عندها من خطورة تقسيم العراق، ليس بعيداً عن الواقع. فهل يجرأون على القيام بمبادرات وضغوطات للحؤول دون تعميق بؤر الخطر، التي كلما تعمَّقت، ستفرض على الجميع أن يدفعوا الكثير من التضحيات، بينما الإسراع في اتخاذ المواقف الواضحة فيه ما يوفِّر الكثير من الثمن الذي سيتم دفعه عاجلاً أم آجلاً.

قد ينخدع البعض بأن دخول الإدارة الأميركية على خط التهدئة بين تركيا وبين حكومة الاحتلال في العراق قد يحل المشكلة. ونحن لن نتوهَّم بأنها ستجد حلاً للمشكلة. فلحلها شروط ومن أهمها:

-تهدئة المخاوف التركية تمر عبر تراجع الكونغرس عن قراره أولاً، والتراجع عن التقسيم الدستوري الذي أقرته حكومة الاحتلال ثانياً.

-تراجع حزب العمال الكردستاني عن استراتيجيته في تكوين انفصالية كردية في جنوب تركيا.
فهل هناك حظ لتوفير تلك الشروط؟

إن الجواب حكماً استحالة ذلك. ولهذا السبب يكون النوم على حرير التهدئة نوماً أرقاً، ولن تكون التهدئة إلاَّ حقنة مخدر سرعان ما ينتهي مفعولها بعد شهر أو شهور، أو أكثر من شهور، ولكنها لن تصل إلى مستوى العلاج. وبهذا يكمن المرض ليظهر في أي لحظة يزول فيها أثر المخدر.

وهل تكون المعالجة الموضعية ناجعة؟

إن كل من يوافق على تقسيم العراق، فيديرالياً، كمن يخدع نفسه بتجميل المصطلحات، لأن القوى التي تحكم العراق الآن لا تحكمه بناء على أسس وطنية وسيادية. فالحكم الذي رسَّخ الاحتلال جذوره قائم على توزيع العراق إلى حصص طائفية وعرقية، أي أن مصلحة العرق أو الطائفة الحاكمتين في العراق المحتل، لها الأولوية على المصلحة الوطنية، حتى لو أدى الأمر إلى التقسيم، ففي التقسيم ما ينفع مصالح النخب في الطوائف والأعراق.

نتيجة احتلال العراق تقف المنطقة كلها اليوم على برميل من البارود لن تستطيع أحابيل جورج بوش وأكاذيبه لتطفئها، فقد أصبح مصير الجميع أمام خطر يدق أبوابها. فلو تشارك المتواطئون والخائفون والمحايدون ضد احتلال العراق لوفروا على العراق، وعلى أنفسهم، مؤونة المخاوف والمخاطر التي يعيشونها الآن. فلا يظنن أحد أنه سالم مما يجري، فلا أوهام إدارة بوش ستسلم ولا هم سيكونون سالمين. اما السبب فهو أن حكومة الاحتلال، التي يمثلها المالكي ومجاميع النخب المحيطة به، يأكل البعض منها بعضها الآخر، فهي مشروع لحروب داخلية لن تنتهي. كما أن الاحتلال ذاته ينحسر ويتساقط بانحدار سريع، ومشاريعه التي ينفذها متوهماً أنها ستنقذه، كمثل قرار الكونغرس، فهي تُدخله في مآزق أشد وأدهى. وإذا كانت الحالة التركية قد برزت على السطح، فإن بروز حالات أخرى قادمة لا محالة.

ونتيجة لكل ذلك، فلا يتوهمَّن أحد أنه يستطيع أن يدرأ المخاطر المحدقة بالعراق من كل الجهات والاتجاهات، من دون التعاون والتنسيق مع المقاومة الوطنية العراقية وبرامجها في تحرير العراق وتوحيده. فهي واضحة في خطتها السياسية والعسكرية بحيث تحفظ للعراق وحدته من خلال تنوعات تشكيلاتها وفصائلها، كما أنها تحتفظ لكل جوار العراق، من عرب وغيرهم، مصالحهم ووحدة أراضيهم وتضمن سيادتهم الكاملة على أراضيهم الوطنية.
فهل يلتقون معها في وسط الطريق قبل أن تزداد الأوضاع سوءاً؟

 

 

 

 

شبكة المنصور

الخميس /  14 شــــوال 1428 هـ  الموافق  25 / تشــريــن الاول / 2007 م