بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تركيا : دور مغيب في منع البلقنة

 

 

شبكة المنصور

نزار السامرائي

 

لم تكن تركيا بعيدة عن خطط تقسيم منطقة الشرق الأوسط ، على أسس عرقية أو طائفية ، ويحمل المشروع الإسرائيلي ، لتركيا مقصا حادا إلى حد لا يمكن مطابقته مع علاقات تركيا التاريخية مع إسرائيل ، ومع العالم الغربي ، وكونها الذراع الجنوبية لحلف شمال الأطلسي ، فالغرب ينظر إلى تركيا على أنها وريثة الدولة العثمانية ، التي احتلت شطرا مهما من أوربا ، ووصلت جيوشها إلى مشارف فيينا فهي وإن خرجت عن الجامعة الإسلامية ، فالغرب يبقى ينظر لها بارتياب تام ، ويعتبر ذلك الخروج حالة مؤقتة ، لن تستطيع الصمود أمام قوة الإسلام الغلابة والصحوة الجديدة ، والتي من مظاهرها وصول حزب العدالة والتنمية التركي ، ذي الميول الإسلامية إلى السلطة في البلاد عبر انتخابات حرة ، وهذا الحذر في التعامل مع الانتساب التركي ، أو التشكك من جذوره ، هو ما دفع الإتحاد الأوربي إلى تعليق قبول عضوية تركيا فيه ، على شماعات معلقة بالهواء ، ووضع شروط تعجيزية تريد من تركيا سحب طلبها الانضمام إلى الإتحاد .

ويبدو أن وصول تركيا إلى قناعة مؤكدة بشأن هذا التوجه ، سواء عبر المعلومات الموثقة ، أو عبر الاستنتاج المستند على مؤشرات ما يجري فوق أرض الجار الجنوبي ، هو الذي جعل تركيا تعارض استخدام أراضيها أو أجوائها ، في عملية غزو العراق عام 2003 ، والموقف التركي هذا ، هو الذي دفع بالإدارة الأمريكية إلى انتهاج سياسية معقدة تجاه تركيا ، فيها تقارب حد التلاحم ، وفيها الابتعاد حد التصادم ، فالولايات المتحدة لا تريد أن تغفر لتركيا تلك الخطيئة ، التي أجبرت غرف العمليات إلى إدخال تعديلات جوهرية على خطط الغزو ، وتم بموجب تلك التعديلات جعل الكويت محور الغزو الرئيس .

لكن موقف تركيا المنساق وراء التحالف الغربي ، عام 1991 وبآلية عمياء ، هو ما هيأ الأرضية الخصبة لنمو تيار بات يؤرق الزعامة التركية ، ولم يكن قد وصل إلى هذا المستوى من الخطورة ، لولا دخول الحزبين الكرديين العراقيين على خط الفعل العدائي المؤثر ، في محاولة منهما لوضع تركيا أمام أحد خيارين ، أما التسليم بمبدأ الحوار المباشر مع ما يسمى بحكومة كردستان ، أو قبول خيار المواجهة المباشرة مع القوات الأمريكية عسكريا ، ومع الولايات المتحدة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية سياسيا ، فقد لعبت تركيا في حقبة التسعينات من القرن الماضي ، دورا مؤذيا لوحدة العراق بوقوف حكومات غبية في أنقرة ، كان همها كسب رضا الغرب دون التفكير بعواقب تلك السياسة ، على وحدة الأراضي التركية نفسها ، وتحت لافتات مختلفة ، استقدم الحزبان الكرديان ، إلى شمال العراق ، مئات الآلاف من عناصر حزب العمال الكردي التركي ، لاستخدامه عصا غليظة بوجه الحكومة التركية وقت الضرورة ، وحينما بدأت تركيا تتحسس حجم الخطر ، كان الوقت قد مر متسارعا ، وبدأت أنقرة تلوح برد العصا إلى رؤوس عناصر حزب العمال الكردي , المدعوم بالتسليح من جانب القوات الأمريكية العاملة في العراق ، أو عبر الشركات الأمنية الأمريكية .

ولكن التهديدات التركية لم تأخذ طريقها نحو التنفيذ ، لأن كبار المسؤولين الأمريكيين ، كانوا في كل مرة تلوح فيها نذر العمل العسكري التركي ، يبادرون لتحذير الحكومة التركية من مغبة الإقدام على العمل العسكري ، ولم يكن أمام أنقرة والحال هذه إلا الانصياع لرغبة واشنطن ، مما كان يزيد في تصلب ( حكومة كردستان ) ، ويرفع من سقف طلباتها إلى علو شاهق ، فالبرزاني وجد في هذه الورقة ، ضالته التي يستقدم الحكومة التركية للحوار ، والاعتراف بالوضع الشاذ في شمال العراق كأمر واقع ، يمكن أن يتكرس بالموافقة التركية ، كدولة مستقلة في المستقبل ، واندفع حزب البرزاني في اعتماد النهج الذي اختطه التحالف الصهيوني الغربي ، وخاصة الأمريكي ، في إثارة النزاعات الإقليمية ، وتم استخدام ورقة الأقليات في هذا المجال ، وكان نصيب العراق من هذا التوظيف كبيرا إلى حد بعيد ، وكانت إسرائيل قد دخلت على خط الحركة البرزانية منذ ستينات القرن الماضي ، إذ تم تدريب عناصرها وتزويدهم بالخبرة القتالية والإستخبارية ، عبر موفدين لهذا الغرض اعترف أكثر من مسؤول من الحزب الديمقراطي الكردستاني حتى قبل انشقاق جلال الطلباني عنه ، بحصول ذلك التعاون ، والذي وصل مرحلة الزيارات المتبادلة ، بما فيها زيارة مصطفى البرزاني إلى إسرائيل ، وكانت إيران عراب هذه العلاقة ، أما تركيا التي كانت علاقاتها مع العراق في صعود ونزول تبعا لمدى الضغط الذي تتعرض أنقرة له ، فقد نأت بنفسها عن لعب الورقة الكردية حتى في أكثر أوقات توتر علاقاتها مع العراق ، هذا باستثناء ما جرى في تحضيرات الحرب على العراق عام 1991 ، وما أعقبها من تحول شمال العراق إلى كيان مستقل تماما عن الدولة العراقية من الناحية العملية وكان لتركيا في هذه المرحلة أسوأ الأدوار والتي بدأت الآن فقط تحصد نتائج ما أسهمت بزرعه ، وفي كل مرة كانت الحركة الكردية العراقية هي التي تدفع الثمن ، وبمجرد استنفاد الغرض منها ترمى كما ترمى النفايات .

لقد أيقنت تركيا أن ما اندفعت إليه بقوة العداء للعراق ، ما كان له أن يعيد التاريخ إلى الوراء ، ويعيد جزء من الأراضي العراقية إليها من ممتلكات الدولة العثمانية ، وأن الغربيين يشتغلون على مشروعهم الدولي ، لإعادة تركيب المنطقة ، على أنقاض اتفاقية سايكس- بيكو ، وأن الأكراد في تركيا ، والحزبين الكرديين في العراق ، لدى كل طرف منهم مشروعه الخاص أيضا ، وأن التركة مقسمة منذ زمن بعيد ، ومن لا يعي هذه الحقائق فهو وحده من يتحمل نتائجها .

فأين تقف حدود المرونة التركية ، وخاصة ما يتصل بشؤون الأمن القومي ، ووحدة الأراضي التركية ؟
وأيهما أكثر أهمية للحكومة التركية ، بقاء الدولة التركية بحدودها الحالية ؟ أم العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة ؟

وإلى أي مدى تستطيع حكومة السيد أردوغان قبول خيار الانصياع للضغوط الأمريكية فيما يتصل بالتعامل مع الملف الكردي ؟

لقد فرط التحالف الغربي بالعلاقة مع تركيا ، في أكثر من واقعة ، ولم يتم التعامل مع البلد الذي يمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي ، إلا باعتباره دركيا ميدانيا ، يدافع عن مصالح التحالف الغربي ، و لم يكترث الغرب لوجهات النظر التركية ، سواء ما يتصل بمراهنة الساسة الأتراك على الانضمام للإتحاد الأوربي ، أو لمعالجة تداعيات الدعم الأمريكي للتوجهات الانفصالية ، لبعض الزعامات الكردية العراقية ، والتي مضت تغذي التوجهات الانفصالية في جنوب شرقي تركيا , إلى قبول خيار الصدام مع تركيا معتمدة في ذلك على القوات الأمريكية ، التي لا تجد كسبا إستراتيجيا في الصدام مع حليف معمر مع واشنطن ، بدء من الحرب الكورية وحتى الوقت الراهن ، وتارة اخرى ، وحينما تجد الحركة الكردية نفسها في عنق الزجاجة ، فإنها تتخلى عن كل اطروحاتها الانفصالية ، وتعود إلى بيت الطاعة العراقي ، حينها تبدو حريصة على سيادة العراق من أي انتهك تركي ، وتتجاهل أنها تنتهك السيادة العراقية ، على نحو متصل منذ سبعة عشر عاما ، وبصورة متقطعة منذ نصف قرن .

لقد كان فوز حزب العدالة والتنمية التركي ، هزيمة لخيار التحالف مع الغرب ، على وفق الأسس التي يريدها الغرب نفسه ، وحين بارك الغرب نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، فإنه لم يستطع الخروج عن قناعاته المعلنة من جهة ، ولأنه لم يستطع الطعن في نتائجها من جهة اخرى ، ولكنه وهو يبارك الخطوات الديمقراطية في تركيا ، ويحاول تقليص دور الجيش في الحياة السياسية في البلاد فإنه كان يتطلع إلى رؤية انهيار التجربة ، نتيجة الصدام المحتمل ، بين حزب العدالة والتنمية والأحزاب العلمانية مدعومة بقوة الضغط الذي ينشره الجيش فوق الجميع ، تحت لافتة الدفاع عن ارث أتاتورك ، وصدام هذه أبعاده كان لابد أن يضعف من قوة الجيش التركي ، ويسهل بالتالي تهديد وحدة الأراضي التركية ، وكجزء أساس من هذه اللعبة المزدوجة ، أخذت قضية حزب العمال الكردي التركي مسارا متسارعا ، لفت أنظار مراقبي السيناريوهات المعدة للمنطقة ، فإذا أطلقت الحكومة عملية عسكرية ضد نشاط الحزب في شمال العراق ، فقد تواجه احتمالات متكافئة ، من حيث النجاح والفشل ، وقد يستدرج مثل هذا التدخل موقفا أمريكيا مضادا ، مما قد يعرض حكومة العدالة والتنمية ، إلى أصعب امتحان في تاريخها ، وإذا أحجمت عن التقدم خطوة على هذا الطريق ، فحينذاك ستفقد مصداقيتها أمام الناخب الذي جاء بها إلى موقع المسؤولية ، وقد يتحرك الجيش حينذاك وبدعم شعبي وخاصة من أحزاب المعارضة الحالية ، لإنقاذ البلاد من مفترق الطرق الذي وصلت إليه ، وعندها لن تكون الإدارة الأمريكية وكذلك الغرب عموما ، أمام أي حرج إزاء حكم جنرال جديد ، يمكن أن يضاف إلى قائمة الجنرال برويز مشرف في باكستان ، من الجنرالات الذين يحكمون في الكثير من بلدان العالم ، دون أن يثيروا رد فعل أمريكي .

ولكن لماذا تقف الولايات المتحدة ضد التدخل التركي ؟
وهل يتصل الأمر بإمدادات القوات الأمريكية في العراق ؟

في ذروة الأزمة التي رافقت التكهنات حول احتمال اجتياح القوات التركية لشمال العراق ، تحدث أكثر من مسؤول أمريكي بمن فيهم روبرت غيتس وزر الدفاع ، وبلغة تحذيرية للحكومة التركية من النتائج المترتبة على مثل هذا التدخل ، ومن بين ما قاله الأمريكيون ، أن الأوضاع الاقتصادية في ( كردستان العراق ) ، ستشهد تدهورا كبيرا في حال نفذت تركيا تهديداتها ، أما انعكاسات العملية المتوقعة على إمدادات القوات الأمريكية ، فقد رسم لها غيتس صورة متشائمة للغاية ، إذ ذكر بأن ثمانين بالمائة من تلك الإمدادات ستتوقف ، وان ثلاثين بالمائة من وقود الجيش الأمريكي القادمة من تركيا ستتوقف ، وأن خمسة وتسعين بالمائة من العربات عالية التدريع تصل إلى الجيش عبر الأراضي التركية ، و حذر غيتس من أن بدء العمليات التركية ضد حزب العمال الكردي ، سيوقف كل هذه الإمدادات وقفا كليا ، مما سيعرض أمن القوات الأمريكية في العراق إلى أخطار جدية .

وهنا يبرز سؤال منطقي عن أسباب الرفض الأمريكي القاطع ، لعملية تركية لحماية أرضها وسكان المناطق الحدودية ؟ وهل ينحصر السبب في حماية خطوط إمدادات القوات الأمريكية ؟ ومدى قدرة الولايات المتحدة على نقل طرق مواصلاتها من الشمال إلى الجنوب ؟ خاصة وأن الكويت كانت خلال السبعة عشر عاما الأخيرة منطلقا لجيوش التحالف الغربي ، الذي نفذ معظم الجهدين البري والجوي ، لاحتلال العراق ، وما تزال الحكومة الكويتية تضع قواعدها الجوية ، وموانئها البحرية وطرق مواصلاتها ، تحت تصرف الولايات المتحدة ، لدعم القوات في العراق .

لا شك أن تركيا هي أقصر طرق المواصلات من القواعد الأمريكية في أوربا ، ومن أمريكا نفسها ، ولكن بلدا بإمكانات الولايات المتحدة ، يمتلك مرونة عالية ، في تغيير الخطط ، وطرق المواصلات ، على وفق ما يطرأ من معادلات ميدانية مستجدة ، مع أخذ تطورات الموقف في البصرة ، إذا انسحبت القوات البريطانية منها بنظر الاعتبار ، لا سيما وأن إيران قد تجد فرصتها في تحريك جيش المهدي لضرب خطوط إمداد القوات الأمريكية من الكويت كلما حصل تسخين على ملفها النووي .

الولايات المتحدة ، إذن ترمي إلى أشياء اخرى ، غير حماية طرق تموين قواتها فقط في العراق ، فما هو دافعها المركزي لموقفها هذا ؟

لقد جاءت الولايات المتحدة إلى المنطقة محملة بأوهام القوة ، لتحقيق هدف إستراتيجي مشترك مع الحركة الصهيونية العالمية ، وهو تقسيم دول المنطقة ، بدء من القوة التي كان العرب ينظرون إليها ، على أنها الخزين الإستراتيجي ، ماديا ومعنويا ، وكانوا يعلقون على العراق آمالا عريضة في التحرر من بقايا عهود السيطرة الاستعمارية ، فإذا الضربة في مركز القوة ، فإن ذلك وحده الكفيل بزعزعة قناعات الأمة بقدراتها ، وقابليتها على مواكبة التطور الإنساني .

هذه الافتراضات لا تتيح فرصة لراسمي تلك الإستراتيجية ، للتراجع ، لأن تراجعا كهذا ، سيعني قطعا هزيمة المشروع الأمريكي ليس في المنطقة فقط ، وإنما هزيمة المشروع الكوني الأمريكي ، وإعادة رسم خارطة القوى الدولية ، بما يعطي لأمريكا حجمها الحقيقي بعيدا عن أوهام مراكز دراساتها .

ولذا فإن خيار ( سلطة كردستان العراق ) ، لم يأت من فراغ ، بل تم اختياره نقطة الشروع في سياسية البلقنة ، بسبب وجود تأثيرات متبادلة على أطراف حدود العراق مع دول الجوار ،في هذه المنطقة بالذات ، ولما لم يتحرك أكراد إيران ، وسوريا ، وهما البلدان المؤشر عليهما حاليا في واشنطن كقوى معادية للولايات المتحدة ، بل حصل التحرك في بلد صديق وحليف لأمريكا ، فقد جرت فرملة ميدانية على قوة الدفع للمشروع ، بانتظار إعادة تقييم وبحث لكل الملفات الملحقة بالمشروع الأمريكي .

ولكن الحركة الكردية في تركيا كانت قد قطعت شوطا بعيدا ، في تنظيم صفوفها ، ودخلت معترك العمل العسكري ، مستفيدة من الظروف التي رافقت حرب الخليج الثانية ، عام 1991 ، وما أعقبها من دخول حكومات تركية قصيرة النظر ، اندفعت في تحالفات مع كل القوى السياسية المحلية والإقليمية ، المعادية لنظام الرئيس الراحل صدام حسين ، وكان من أخطر هذه القوى على وحدة تركيا بالذات ، الحزب الديمقراطي الكردستاني ، الذي يترأسه بالوراثة من أبيه ، مسعود البرزاني ، والإتحاد الوطني الكردستاني ، الذي يرأسه العدو اللدود لمسعود والمنشق عن الحزب السابق ، جلال الطلباني ، الذي يشغل حاليا منصب رئيس الجمهورية ، فقد بدأت رياح تحمل بذور الفتنة من شمال العراق إلى جنوب شرقي تركيا ، وكان من الصعب تطويق آثار هذه العدوى ، في منطقة ظلت تنظر إلى الجار الجنوبي ، بكثير من الإعجاب لما تحقق لهم من مكاسب منذ 11/3/ 1970 ، وإلى اللحظة الراهنة ، إذ يقف العراق على أعتاب مرحلة تاريخية من حياته ، ولم ينظر حزب العمال الكردي التركي ، إلى تداخل الحلم الوردي مع احتمالات تحوله إلى كابوس مرعب ، بل مضى في طريقه لا يلوي على شيء متجاهلا حساسية هذه القضية عند تركيا ، على مستوى كل الأحزاب السياسية ، واتخذ الحزب وبدعم مباشر و معلوم من الزعامة الكردية العراقية ، مقرات داخل الأراضي العراقية للتدريب ، والانطلاق لتنفيذ العمليات ضد القوات التركية ، واستندت الحركة الكردية العراقية ، على ما تلقاه من دعم أمريكي ، يوفر لها مظلة الحماية من أي رد فعل عسكري تركي ، وتلخص الهدف الكردي العراقي في فتح قناة رسمية تركية للاتصال معها ، يمكن أن تنطلق منها لمد جسور إلى العالم الخارجي ، للحصول على اعتراف دولي بها في حال إعلان الدولة الكردية المستقلة ، ولما حافظت تركيا على رفض واضح الأسباب ، للحوار مع ( سلطة كردستان ) العراقية ، بدأت تلك الزعامات بممارسة المزيد من الضغط على أكراد تركيا ، وسط تجاهل أمريكي لمصالح الحليف التركي ، وذلك بتشجيع حزب العمال الكردي ، على شن المزيد من العمليات ضد القطعات التركية العاملة في المنطقة ، أوقعت خسائر لم يكن لأنقرة القبول بها أو تحمل تبعاتها على صعيد الشارع التركي ، أو على جبهة الجيش الذي ألقى بمسؤولية اتخاذ قرار الدخول إلى الأراضي العراقية ، على عاتق حكومة السيد أردوغان .

هذا كله قرب احتمالات المواجهة ، فقد نفد الصبر التركي ، وأمريكا التي تعرف حساسية هذه القضية بالنسبة لتركيا ، تمضي في خطة تفتيت المنطقة ، وتترك حليفتها الأطلسية تسبح وسط موج متلاطم من الأزمات المتلاحقة والمعقدة ، وكأنها تريد أن ترد على أنقرة موقفها في رفض استخدام الأجواء والأراضي التركية في غزو عام 2003 .

ولم يقتصر الأمر عند توفير الغطاء السياسي ، مباشرة أو بالنيابة ، لإيجاد كيان يحمل جرثومة التقسيم ، على حدود تركيا الجنوبية ، بل تحرك الكونغرس ليقلب صفحات الماضي البعيد ، وكأن العالم لم يعد يعاني من أية قضي إلا ما يسمى بإبادة الأرمن وهنا لا بد للمراقب أن يلاحظ انتماء لتركيا الحديثة ، إلى تراث الدولة العثمانية مما يعكس قطعا موقفا إستراتيجيا في اختيار الماضي ذي الجذور الإسلامية ، على انتماء ملفق إلى أوربا المسيحية ، ولم تتحرك ضمائر من صوت على هذه التوصية ، إزاء جرائم أمريكا نفسها في العراق ، وهي ليست من الجرائم الملتبسة ، التي تحتاج إلى دراسات تاريخية ، أو الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ، هذا كله أشر أن تركيا وضعت على لائحة الدول التي يجب ردعها ، وإعادتها إلى حجمها الحقيقي .

لقد اختارت تركيا منذ انسلاخها عن محيطها الإقليمي والإسلامي ، نهج الاستجداء لرضا الغرب ، حتى لو كان ذلك على حساب ثوابتها الوطنية ، رغبة من بعض حكوماتها في نزع ثياب الشرق والإسلام عن الجسد التركي ، وبالمقابل حافظ الغرب على نهج يتعمد في إبقاء تركيا في دائرة القلق ، فلا هو قبلها في صفوفه بصورة جلية ، ولا هو تركها لبيئتها الحقيقية ، ومارس معها دور الرقيب الصارم على سلوكها ، يوبخها متى أراد ، ويمنحها الشعور بالرضا عندما يسعى لقطع الطريق على محاولات الانسلاخ عنه ، والعودة إلى المنبع ، والاستفادة من الإمكانات الاقتصادية لدول الجوار العربي ، والأسواق العربية والإسلامية وإقامة منظمة للتعاون الاقتصادي الإقليمي ، لتحقيق تطور اقتصادي متوازن ، أكدت التجربة العملية أن الغرب لن يمكن تركيا من تحقيقه ، ولو أن الغرب عموما ، والولايات المتحدة بشكل خاص ، جادين في نقل التكنولوجيا إلى تركيا ، لأمكن تحقيق ذلك منذ زمن بعيد ، خاصة وأن تركيا اختارت التحالف مع الغرب منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى ، انتقلت دول كانت تقف وراء تركيا ، إلى مصاف أكثر الدول تطورا في العالم ، مثل كوريا الجنوبية ، التي شاركت تركيا في حربها مطلع خمسينات القرن الماضي ، ولكن أنقرة لم تكافئ على جهودها تلك ، إلا بإثارة المزيد من المشاكل لها .

ولعل المرحلة الراهنة ، التي تحاول روسيا استعادة الدور الإستراتيجي ، للإتحاد السوفيتي ، لعلها تشكل بالنسبة لدول كثيرة في العالم ، اللحظة التاريخية الحاسمة التي يجب استثمارها ، لإعادة التوازن إلى العلاقات الدولية ، بعد أن اختلت نتيجة انفراد الولايات المتحدة كمركز استقطاب دولي وحيد في عالم اليوم ، كما أن صعود الصين اقتصاديا لا بد أن يتبعه صعود سياسي وعسكري لها ، وهذا بدوره سيجعل دول العالم ، وخاصة الصغيرة منها أكثر أمنا ونزوعا إلى التنمية .

ومما يعزز الحاجة لتوجه تركي متفاعل مع دول المنطقة لقطع الطريق على مشاريع التفتيت ، أن مجلس الشيوخ الأمريكي ، وفي ذروة التأزم في قضية حزب العمال الكردي التركي ، قرر تقسيم العراق على أساس فدرالي ، هو من الناحية العملية ، الخطوة الأولى على طريق تقسيم العراق ، ثم تتابع الخطوات لبقية دول المنطقة ، والتي تشعر بالاطمئنان ، لأنها لم تكن بداية مشروع التجزئة .

فما هي قدرة تركيا للوقوف بوجه هذا المشروع ، الذي سيجعل من اتفاقية سايكس- بيكو شعارا للأحزاب المطالبة بالوحدة ؟ وقبل هذا ، هل لتركيا الاستعداد للنهوض بواجب الدفاع عن وحدة أراضيها ، من خلال الرفض السلبي لتقسيم العراق ؟

وتأسيسا على ما تقدم ، فإن تركيا موضوعة على مشرحة التقسيم ، حتى وإن حصلت على ضمانات مؤقتة بالحفاظ على وحدة أراضيها حتى عام 2025، وطالما كانت أمريكا مصممة على تقسيم العراق كخطوة أولى على الطريق ، فلا بد والحال هذه أن تلتقي جميع الدول المهددة بمشروع التقسيم ، للوقوف ضد صفحاته المتعاقبة ، وأن تؤجل خلافاتها ، بل عليها أن تنسق جهدا مشتركا فيما بينها ، لرفض ما يسمى بمشروع الفدرالية في العراق ، والذي يجسد في حقيقته التمهيد العملي للتقسيم ، ومن الواضح أن السلطة المتمردة في شمال العراق ، لا يمكنها الصمود أمام أي شكل من أنواع الضغط الاقتصادي ، فالمنطقة لا تمتلك مقومات دولة بكل المقاييس ، ولعلنا نستل دليلا على ذلك مما عانته ، بعد أن أغلقت إيران منافذها الحدودية مع المنطقة الشمالية للعراق لبضعة أيام ، وأشارت تقارير أولية أن هذه المنطقة ، ستتعرض إلى كارثة اقتصادية وإنسانية فيما لو أغلقت تركيا نقطة حدوده مع زاخو العراقية .

ولو أن (سلطة كردستان) ، توصلت إلى قناعة بأن دول جوار العراق ، لن تكون على استعداد لمد يد العون لها في حال إعلانها الانفصال ، وأنها ستقدم على فرض حصار اقتصادي عليها ، فإنها سوف لن تتوقف عن نواياها بالانفصال فقط ، وإنما ستتراجع عن كثير من أوهامها المعلنة حول خارطة الإقليم الفدرالي ، وخاصة ما يتصل بمدينة كركوك ، ومحافظة التأميم وعموم المناطق المطالب بها في محافظات نينوى و ديالى و صلاح الدين ، أما إذا أقدمت تركيا على عمل عسكري في شمال العراق ، فإن ذلك قد يبعث برسالة قوية ، إلى الحزبين الكرديين ، مفادها أن تركيا لن تبقى أسيرة للضغوط الأمريكية إلى الأبد ، فالمرونة التركية في مسألة الأمن القومي ، لا تسمح لأية جهة أن تتلاعب بمصير وحدة الأراضي التركية ، حتى إذا كانت الحليف الإستراتيجي ، وهو الولايات المتحدة .

فأي الخيارات هو الذي سيفرض نفسه على حكومة السيد أردوغان ؟

وراء الستار تجري اتصالات لتطويق الأزمة قبل أن تنتقل من أروقة السياسة ، إلى ميادين القتال ، ولكن إذا اندلعت المعركة ، فإن أطرافا كثيرة ستجد نفسها قد خسرت الكثير ، منها الحركة الكردية ، ولكن هذه الحركة التي تعودت أن تجعل من نفسها بضاعة في سوق المساومات الإقليمية والدولية ، ستبلع النتيجة وتعلن التوبة ، ولكن خسارة أمريكا هي الأكبر ، فستخسر هيبتها الدولية ، وقدرتها على فرض خياراتها على الآخرين ، وسينبأ ذلك بنهاية الزمن الأمريكي ، وبدأ مرحلة جديدة في العلاقات الدولية ، وتدحرج القوى الكبرى عبر التاريخ ، كان بسبب غرور القوة ووهم استخدامها ، في كل مكان وزمان دون دراسة خصائص الشعوب ، وهذا ما حصل بالضبط في غزو العراق .

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاحد /  03 شــــوال 1428 هـ  الموافق  14 / تشــريــن الاول / 2007 م