بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تقسيم العراق ذلك الحلم المستحيل

 

 

شبكة المنصور

نزار السامرائي

 

حينما تم الإعلان عن قيام (دولة ) إسرائيل ، منتصف عام 1948 ، كان واضحا أنها تمتلك هوية مركبة من عدة عناصر في وقت واحد ، لا يتوفر لأية دولة اخرى في العالم ، ويمكن إجمال هذه العناصر بما يلي :-

1- أنها دولة يهودية الديانة وتستند على جملة من المعتقدات الدينية لقيامها .

2- أنها دولة عنصرية ترتكز على نقاء العنصر الإسرائيلي كأساس لصحة الانتماء للديانة اليهودية .

3- أنها دولة أقيمت بتعهد من دولة كبرى وهي المملكة المتحدة ، عبر وعد بلفور لليهود ، بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين التي كانت وقت صدور الوعد تحت الانتداب البريطاني ، فهي والحال كذلك تعيش عقدة غربة أبدية في المنطقة التي زرعت فيها ، وتعيش هاجس التهديد من محيطها الجغرافي ، خاصة أنها اعتمدت سياسة الإجلاء لشعب الأرض التي أقيمت فوقها ، وهذا كله كان يستتبع نظرية القوة ، طريقا وحيدا للبقاء .

4- إن صغر المساحة الجغرافية ( لدولة إسرائيل ) ، بحيث يكون من المستحيل استيعاب يهود العالم جميعا ، تدعوها إلى اعتماد سياسة التوسع على حساب المنطقة الإقليمية ، هذا يجب أن يجعلها وبصفة دائمة ، أقوى قوة عسكرية ، ليس مقارنة مع أية دولة في المنطقة ، كبيرة كانت أو صغيرة ، وإنما يجب أن تمتلك تفوقا إستراتيجيا ، على كل دول المنطقة مجتمعة ، وقد لا يتاح ذلك على المدى البعيد بسبب اعتماد خطط تنموية ، على الصعد الاقتصادية والعلمية والبشرية ، مما سيقلص من سعة الفجوة التكنولوجية ، بينها وبين الدول العربية المحيطة بها ، فيقيم توازنا في الردع المتبادل .

5- أنها دولة غير قادرة على الاعتماد على نفسها من حيث الموارد الاقتصادية الكافية ، لتأمين الميزانية الحربية ، مع متطلبات دولة تسعى لطرح نفسها نموذج التفوق في كل الميادين ، للمقيمين فيها ، وأمام أصدقائها وأعدائها على حد سواء .

هذه الخصائص التي تميز ( دولة إسرائيل ) ، دفعت بها بقوة للبحث عن عوامل قوة ، غير ذاتية ، أي بضعف أعدائها ، من دول المنطقة ، ولذا فقد بدأت أولى الإشارات على خطة إسرائيلية ، بعد أقل من أربع سنوات على قيام إسرائيل ، فيما عرف لاحقا بمشروع بن غوريون ، أول رئيس وزراء لإسرائيل والذي رسم مسار المقص المتعرج لتقطيع أوصال المنطقة ، ووردت فيه تفاصيل مشروع التقسيم الجديد الذي يراد إخضاع المنطقة له ، ويقضي المشروع الذي رسم على مراحل طويلة ، بتقسيم العراق إلى ثلاث دول ، كردية في الشمال ، وسنية في الوسط ، وشيعية في الجنوب ، وكذلك كان الحال ينطبق على سوريا والمملكة العربية السعودية ، وحتى لبنان كان موضوعا على مشرحة التقسيم رغم صغر مساحته ، واعتقد مهندسو هذه الخطة أن إسرائيل ستحافظ على مركزها ، كأقوى قوة إقليمية ، حتى في حال تخفيض الإنفاق.

 2

العسكري ، ثم أن إسرائيل تعيش عقدة القوة العراقية ، مستندة على موروث من أساطير دينية ، تقول بنهايتها على أيدي العراقيين ، ولهذا كان التركيز على العراق ، يحتل أكبر حيز من هواجس الفناء الإسرائيلي .

ليس هذا من قبيل الترويج لنظرية المؤامرة ، فالخطة موضوعة وليست مجهولة أو غائبة عن أعين مراكز الدراسات الإستراتيجية ، ولعل القرار ( غير الملزم ) الذي اتخذه مجلس الشيوخ الأمريكي في السادس والعشرين من أيلول / سبتمبر الماضي بتقسيم العراق إلى ثلاث دول ، ما يعزز القناعة بأن التناغم الإسرائيلي الأمريكي ، بشأن هذه القضية قد انتقل من مرحلة التخطيط ، إلى مرحلة التنفيذ ، والذي بدأت خطواته الأولى في دعم سلطة شبه مستقلة في شمال العراق ، منذ عام 1991 ، وأخذت طابعا مقننا بعد الاحتلال الذي تعرض له عام 2003 ، كانت أولى مؤشراته إقرار أخطر دستور في تاريخ العراق ، وهو الدستور الذي أوجد الأرضية الخصبة للتقسيم ، عبر واجهة الأقاليم الفدرالية .

فلماذا تم اختيار العراق ليكون الصفحة الأولى في خطة التقسيم المعدة لدول المنطقة ؟

بالاستناد إلى أحداث التاريخ ، وحقائق الجغرافية ، حافظ العراق على موضع خاص ، في تحديد نمط التفكير الإٌستراتيجي ، للزعامات الإسرائيلية ، ويتساوى في ذلك اليمين بكل فصائله ، المتطرفة والمعتدلة ، واليسار بكل أطيافه ، وكان مؤشرا بخط أحمر على أية خطوة عراقية باتجاه تحديث البلد ووضع برامج تنموية ، وكانت مجسات الموساد تتوزع على مقتربات الشركات الدولية التي تنهض بإقامة مشاريع للتنمية وخاصة في مجال البحوث العلمية ، فالعراق على ما يعتقد الإسرائيليون ، دور وقدرات وامكانات اقتصادية وبشرية ، والعراق يؤثر في محيطه أكثر من قدرة هذا المحيط على التأثير فيه ، ولما كانت المعتقدات الإسرائيلية تؤشر العراق ، على أنه الخطر المرجح على وجودها ، فقد تعرض العراق إلى أوسع جهد منسق بين إسرائيل وسائر القوى الدولية الداعمة لها ، لإضعاف العراق وخاصة باللعب بالورقة الكردية ، في مختلف المراحل التي مرت على العراق ، بما فيها العهد الملكي الذي كان معروفا بتحالفه مع الغرب ، مما يعزز القناعة بأن استهداف العراق لا يرتبط بنظام حكم معين ، بل يرتبط بالموقف من العراق أصلا ، وبصرف النظر عمن يحكمه ، ولعل المواقف التي أعلنت أثناء مؤتمر وزراء خارجية دول جوار العراق ، الذي عقد جلساته في اسطنبول في 3/11/2007 ، تثير الكثير من التساؤلات الملحة ، عن ثنائية الموقف الأمريكي خصوصا ، والدولي عموما ، بشأن الإجماع على اعتبار حزب العمال الكردستاني ، حركة إرهابية ، مع أن هذا الحزب لم يرتكب من الجرائم ، إلا القليل مقارنة بعهد طويل مما ارتكبه الحزبان الكرديان ، الممسكان حاليا بمقاليد السلطة التي جاءت بها أمريكا نفسها ، إذ تعتبرهما الولايات المتحدة حركة تحرر وطني وتقدم لهما كل أشكال الدعم .

3

الأمر يرتبط بالجهد المنسق لإضعاف العراق تدريجيا ، تمهيدا لتقسيمه ، وهذا ما يفسر الدعم الأمريكي المباشر ، أو بواسطة إيران الشاه للحركة الانفصالية في شمال العراق ، وكذلك دخول إسرائيل على خط الدعم المتواصل للحزب الديمقراطي الكردستاني ، والتي وصلت مرحلة الزيارات المتبادلة بين الجانبين لعل من أهمها الزيارة التي قام بها الملا مصطفى البرزاني ، إلى إسرائيل وقراءته لسورة الفاتحة ، في مقبرة لقتلى الجيش الإسرائيلي ، في حروب إسرائيل ضد العرب ، وكذلك وجود بعثات عسكرية إسرائيلية في شمال العراق ، تتولى تدريب البيشمركة على فنون القتال والعمل الاستخباري ، ومن اللافت للنظر ، أن إيران الخميني اقتفت خطوات إيران الشاه بتقديم الدعم للحركة الكردية نفسها وبرموزها المنقسمة على نفسها ، وأخذ الدور الإيراني يأخذ بعدا أكثر خطورة في دفع مسيرة التقسيم إلى الأمام ، وذلك بتشجيع الأحزاب الشيعية على تبني مشروع فدرالية الوسط والجنوب ، وهكذا يحصل التقاء فريد بين إيران الإسلامية والشيطان الأكبر ، مما يؤكد أن رأس العراق مطلوب من قبل أطراف تختلف فيما بينها على كل شيء ، ولا يوحد بينها إلا الحرص على تفتيت وحدة العراق .

هكذا يتضح أن العراق مستهدف بخطوات عملية على طريق التقسيم منذ أمد بعيد ، أخذ قوة الدفع بعد الاحتلال الأمريكي ، وبشكل خاص ، بفرض الدستور بقوة الفتوى الدينية ، أو الضغوط التي مارستها المليشيات ، أو التزوير الذي شهدته صناديق الاقتراع ، واستندت الأحزاب السياسية التي جاءت من خارج الحدود ، على آلية رسمت أسسها سلطة الحاكم الأمريكي بول بريمر ، وأخذت ترفع من سقف مطالبها في تطبيق الأقاليم الفدرالية ، متناغمة في ذلك مع تصاعد وتيرة المطالبة الكردية ، بسرعة إيجاد الإطار القانوني المنظم لعمل مؤسسات تم تشكيلها في المنطقة ، قبل وضع أطرها القانونية ، مستغلة الظرف الشاذ الناشئ عن عدوان عام 1991 .

فماذا يحصل لو تحققت الخطوات الأولى على طريق التقسيم ؟

أي ماذا سيقع من تطورات فيما لو قامت الأقاليم الفدرالية ؟

قد لا نكون مغالين إذا ما قلنا ، إن العراق سيتحول إلى ساحة لحروب بين أقاليمه ، من أجل الحصول على مكاسب ( إقليمية ) ، يمكن أن نتوقع بعضها الآن ولكن الكثير غيرها ستفرزه ظروف لاحقة ، تنشأ عن نمو نزعة محلية عند كل إقليم ، يريد تعزيز موقعه أمام الأقاليم الاخرى ، هذا غير ما ستدفع به مصالح دول مجاورة للعراق ترى أن مصالحها يمكن أن تتعرض للتهديد فيما لو تحققت مكاسب لأقاليم على حساب اخرى ، أثناء توزيع تركة العراق على ورثة الكثير منهم لا يستحقون منها شيئا بأي حال من الأحوال .

4

ويمكن أجمال صورة الصراعات المحتملة بين الأقاليم بما يلي :-

1- صراعات حدود برية :- ومن المرجح أن تشمل حدود كل الأقاليم المقترحة ، أو تلك التي من المحتمل أن تقع مطالبات بإقامتها ، انطلاقا من استشراء حالة العدوى المرضية،فالحدود المتحركة التي رسمتها الحركة الكردية لإقليمها ، تعد وصفة نموذجية لحروب ستنطلق بمجرد إعطاء شارة البدء لرسم حدود الدول التي ستقوم على أنقاض الدولة العراقية ، فالكيان الكردي يرسم مسارا متعرجا لحدوده ، قد تتعدى محافظة ميسان لتصل إلى حد ملاحقة ظل أي مواطن كردي يمكن أن يكون قد اضطرته ظروف الوظيفة للسكن في الفاو على سبيل المثال ، أما ما يحصل في محافظة نينوى والتأميم ، فهناك مطالبات كردية بضم أجزاء شاسعة من أراضيهما لإقليم ( كردستان ) حتى مع وجود الدولة العراقية .

أما بالنسبة لإقليم الجنوب ، أو الدولة الشيعية المقترحة ، فإن المسؤولين في محافظة كربلاء لم يمنحوا أنفسهم فسحة من الوقت لدراسة ملف الحدود مع محافظة الأنبار ، وتشير المطالبات التي تم تقديمها خلال زيارة قام بها وفد من محافظة كربلاء ، أن الدولة الجنوبية تريد قطع صلة الأنبار مع المملكة العربية السعودية ، وهذا بحد ذاته يخفي نوايا غير التعديل الإداري لحدود المحافظة ، ويتعداه إلى الاستعداد لمواجهة أية تطورات ميدانية لاحقة .

هذا ليس وحده من خلافات الحدود التي قد تعيد إلى الأذهان حروب الحدود البرية بين جمهوريات الإتحاد السوفيتي بع انهياره ، ومما يفاقم من أخطار الخطة المرسومة والتي تجد لها رواجا من قبل إيران بشكل خاص ، ما يراد لمدينة سامراء ، فالمقترح أن تكون إقليما مختلطا ، أي بعبارة أكثر وضوحا إقليما سنيا شيعيا ، بدعوى وجود أضرحة مقدسة عند الشيعة ، هذا معناه أن المنطقة يخطط لها أن تكون ساحة حرب تطهير للسكان الأصليين للمنطقة أو طردهم منها ، وجلب آخرين إليها ، و إلا كيف تكون مختلطة ، وهي منطقة من لون واحد ، ولم تشهد طيلة تاريخها القديم أو الحديث أي شكل من أشكال الصراع المذهبي ، بخلاف ما شهدته مدن شيعية خالصة مثل كربلاء والنجف ، أو مدن غالبية سكانها من الشيعة ، مثل مدن الفرات الأوسط وجنوب العراق ، ولم يكن الصراع فيها بين سنة وشيعة ، وإنما بين أحزاب شيعية ، على النفوذ السياسي والامتيازات المالية الناتجة عن استخراج النفط وتهريبه ، أو النفوذ الديني والسيطرة على المزارات ، فإذا كان النزاع على الأرض والثروة على هذا النحو ، حتى في إطار العراق الفدرالي ، فكيف يمكن أن نتصور شكل هذا الصراع بين دول مختلفة على كل شيء ، وما هو المدى الذي ستصل إليه التدخلات الخارجية في دعم هذا الطرف أو ذاك .

2- صراعات على الثروة :- لعل الثروة والنفطية منها بالدرجة الأولى ، أكثر دوافع الحركة الكردية للإصرار على ضم كركوك إلى الإقليم الكردي ، لأن دولة لا تمتلك ثروة أو إطلالة بحرية ، تفقد قدرتها على مواجهة التحديات التي يمكن أن تعترض مسيرتها ، ولهذا فإن الزعامة الكردية تسعى لامتلاك أحد عاملي قوة أية دولة في العصر الحديث ، و لأن النفط مصدر قوة سياسية للدول المالكة له فضلا عما يمنحها من قدرات اقتصادية ، فقد أحدثت الحركة الكردية ومن خلال هجرة واسعة النطاق إلى مدينة كركوك ، تغييرات على تركيبتها السكانية ، كل ذلك بهدف كسب الاستفتاء المقرر عقده لتقرير مصير هذه المدينة ، بالمقابل فإن المناطق الغنية بالنفط في المنطقة الجنوبية ، ستواجه حروبا للسيطرة على هذه الثروة ، وهنا يلتقي
صراع الثروة مع صراع الحدود ، خاصة وأن الدول تسعى لتوسيع رقعتها الجغرافية مع ما يحمله ذلك من زيادة مؤكدة في مكانتها الإقليمية والدولية ، إذ أن اتساع المساحة الجغرافية لأية دولة يمنحها مكانة أكبر ، فالدول الصغيرة عادة لا تشغل نفس المكانة التي تحتلها الدول الكبيرة ، ولأن دولة جنوب العراق الشيعية ، ستكون حديثة التكوين وصغيرة المساحة بالقياس إلى الدول المجاورة ، ذات الخزين الموروث من الأطماع الإقليمية ، فإن إيران بشكل خاص ، والكويت بحدود ما ، ستدخل بقوة على خط التنافس لأخذ جزء من تركة بلد يراد تقطيع أوصاله .

3- صراعات على المياه :- لعل المنطقة التي نعيش فيها ، من بين أكثر مناطق العالم نقصا في الموارد المائية ، وهذا بالمقابل يجعلها أكثر المناطق المرشحة لعوامل التوتر والاضطراب ، ولما كان الحديث المطروح في أوساط الكتل السياسية المتبنية لفكرة إقليم الوسط والجنوب ، يركز على أن المناطق الوسطى من العراق ، خالية من أية ثروة تمكنها من تلبية مستلزمات الدولة الحديثة ، وهذا بحسب تلك الفرضية هو الذي أدى إلى بروز حركة المقاومة المسلحة في المناطق السنية ، لأن السنة خسروا سلطة يريدون استعادتها ، ولأنهم يبحثون عن وحدة تؤمن لهم موارد مالية ، توشك أن تمنع عنهم ، وهذا معناه أن هذه الأطروحة ، لا بد أن تخلق حافزا وإصرارا ، على تنمية مصادر للدخل ، ولما كانت المنطقة تفتقر إلى المصادر الطبيعية ، على وفق الفكرة السابقة ، فإن الزراعة لا بد أن تكون الخيار الإستراتيجي لأية تنمية سليمة ، فما يسمى بالصحراء الغربية يمكن أن تتحول إلى أرض زراعية وفيرة الإنتاج من مختلف المحاصيل فيما لو توفرت لها الحصة المائية ، ولما كانت النزاعات متعددة الدوافع والأسباب ، ستنطلق على نطاق واسع ، بين الأقاليم وداخل كل إقليم فمن حق المراقب أن يتوقع لجوء الأطراف الممسكة بمفاتيح المياه ، إلى التحكم بها على نحو يؤمن حاجتها الآنية والمستقبلية للمياه ، طالما كانت الدول الاخرى تمتلك مصادر دخل كبيرة ، وحينها ستجد الدولة الجنوبية بشكل خاص أنها قد جرت على نفسها مشاكل مركبة ، لا تستطيع الإفلات منها إلا بخوض حرب مع الطرف المتحكم بالمياه ، فالسدود الحاكمة ، والقادرة على تخزين الكميات الإستراتيجية من المياه ، تقع خارج حدود الإقليمين الكردي والشيعي ، مما سيمنح إقليم أو دولة الوسط قدرة غير محدودة على التحكم ، ليس بكميات المياه المطلقة ، من سدود الموصل وسامراء وحمرين على دجلة وديالى، والقادسية والرمادي ، على الفرات ، وقد يمر وقت طويل جدا قبل التوصل إلى اتفاقات ملزمة بشأن توزيع الحصص المائية ، وفقا للقانون الدولي ، إن وصلت وحدة العراق إلى مفترق طرق ، فالدستور الحالي لم يحسم قضية المياه حتى في إطار مفهوم الدولة الفدرالية ، فكيف له أن يعالج مشاكل ستصبح في مرحلة من التقسيم المقترح ، من الشؤون الدولية ؟ وقد يكون الحديث عن إقليم سامراء ، نتيجة لعوامل مركبة ، منها ما يرتبط بنزعة السيطرة والتوسع ، والبعد الطائفي لقضية المزارات الشيعية ، والتحكم بعقد المواصلات الإستراتيجية ، وكذلك السيطرة على أهم سدود دجلة وأكثرها قدرة على التحكم بكميات المياه المحولة من النهر إلى خزان الثرثار ، الذي يعد مستودعا لأكبر كمية من المياه يستوعبها أي خزان آمن بين سدود العراق قاطبة ، وخاصة بعد أن تم فتح قناة بينه وبين نهر الفرات ، ومن ثم فتح ذراع الثرثار دجلة ، وأخيرا فتح قناة من بحيرة السد لتوازن درجة الملوحة في المياه القادمة من خزان الثرثار ، عبر ذراع دجلة ، مع مياه القناة المسماة بقناة الكتم .

5

ومع أن أطروحة فقر المناطق الوسطى من العراق ، لا تصمد أمام حقائق التحري والاستكشاف التي أجريت فيها في عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ، فإن الحديث بهذا المنطق سيغدو قاصرا عن فهم حقائق التاريخ القديم والحديث للعراق الذي صمد أمام كل التحديات التي واجهته ، واستهدفت تمزيق وحدته الوطنية ، ومع ذلك فإن الصحراء الغربية تضم في باطنها أكبر حقل للغاز الطبيعي في منطقة الشرق الأوسط ، وكذلك الفوسفات واليورانيوم والألمنيوم والحديد والسليكات ، التي تعد من أنقى الأنواع في العالم ، وكذلك مادة الكوئولين ، وهي المادة الأولية لصناعة الخزف .
هذه هي الصورة المختصرة لما تخطط له إسرائيل و الولايات المتحدة ، و تتحرك قوى محلية لتنفيذه بدوافع مختلفة ، كل طرف له حساباته الخاصة فيها ، فإذا كانت النوايا على هذا المستوى من الخطورة والوضوح ، فهل هناك ما يقابلها من التدبير المضاد ؟ ومتى تبدأ صفحاته الأولى ؟ وما أمكانية كل طرف في تحقيق أهدافه ؟
من أجل إعطاء إجابة قريبة من الواقع المعاش على الأرض ، لا بد من سؤال محدد ، وهو هل أن المقصود تقسيم العراق فقط ؟ أم أن الهدف يتعدى ذلك إلى شمول دول الإقليم بكامله بهذا المخطط ؟
بقدر ما يسهل نجاح مشروع تقسيم العراق ، الصفحات اللاحقة من هذه الخطة ، فإن بقاء دول الجوار الإقليمي على قوتها وتماسكها ، سيعرقل من خطوات تقسيم أي بلد آخر .

6

لكن الولايات المتحدة التي جاءت لغزو العراق ، محملة بأوهام القوة ، عاقدة العزم على تنفيذ سلسلة من التدابير التي رأت أنها ستفضي في نهاية المطاف،إلى تقسيم العراق ، على نفس السيناريو المرتبط بمشروع بن غوريون ، غير أن الولايات المتحدة واجهت منذ الأيام الأولى مقاومة ضارية من الشعب العراقي ، حاولت التقليل من شأنها ، وظنت أنها قادرة على سحقها خلال أيام معدودة ، وأطلقت عليها الكثير من الأوصاف الساذجة ، التي لم تتمكن من ملامسة حقائق ما يحصل فعلا ، وظنت واشنطن أن قوة الماكنة الحربية الهائلة التي تمتلكها ، والتي مكنتها من استكمال احتلال العراق ، هي نفسها التي ستؤمن لها بقاء طويلا ومستقرا في العراق ، بعد أن يتم تحويله إلى رأس جسر للقفز إلى الأهداف الاخرى ، ولكن حشد القوة لم يأت بنتائج ملموسة ، وكما أخفق في المرحلة الأولى للغزو في تثبيت الاستقرار ، فإنه أخفق بدرجة أكبر في تصفية حركة المقاومة ، لأن المقاومة كانت قد رسخت جذورها في المناطق الحاضنة لها ، فهي تعبير طبيعي لإرادة العراقيين في ممارسة حق مشروع ، بمقاومة الاحتلال ، فضلا عما تركته قوات الاحتلال من ردود فعل غاضبة لدى المواطن العراقي ، الذي انتهكت سيادة بلده ، ومورست ضده أشكال كثيرة من الظلم والاضطهاد ودوس الكرامة ونهب الممتلكات ، والاعتداء على القيم والتقاليد والمقدسات ، وهذا بدوره أقام جدارا إضافيا بين المحتل ، وآخر شريحة كانت على استعداد للتعاون والتعامل معه ، وحينما توصلت الولايات المتحدة أن أساليبها في التعامل مع ملف المقاومة ، كان الوقت قد أفلت من يدها تقريبا ، وكانت المقاومة أشرف ظاهرة أفرزها العراق بعد الاحتلال ، وبالمقابل فإن الجهات التي مدت يدها للمحتلين ، قد عزلت نفسها عن الوسط الجماهيري ، وفقدت القدرة على أي تأثير فيه ، ويمكن القول دون تردد إن المقاومة أفشلت المشروع الأمريكي الكوني ، وأفشلت خطة تقسيم العراق ، غير أننا يجب أن نعترف أن تعدد الصفحات والبدائل الجاهزة ، أو المعدة ، وفقا لما تفرزه الحقائق الميدانية ، لا يترك مجالا للشك بأن الولايات المتحدة التي عبرت البحار والمحيطات ، وجلبت مئات الآلاف من قواتها ، قد لا ترفع الراية وتسلم بالهزيمة ، فهي ستجرب المزيد من الخيارات البديلة ، كي لا تخرج من المنازلة دون نتيجة ، وحينها سيكون على المقاومة الوطنية تطوير أساليبها بما يضمن إفشال التعديلات الأمريكية .

7

إذا كان هدف الولايات المتحدة تقسيم العراق لوحده ، فهناك عوائق خارجية ستجعل من هذا المشروع محكوما عليه بالفشل ، ستتعاضد مع الجهد العراقي الوطني الرافض للمشروع ، أما إذا كان تقسيم العراق جزء من خطة أشمل ، يراد تصديرها إلى دول المنطقة ، فإن البدء بالعراق كان خطأ إستراتيجيا ، لم يستند على قراءة صحيحة ، لا للتاريخ ولا للجغرافية .

وعلى العموم يكمن إجمال أهم العوامل التي ستقف في طريق تنفيذ الخطة الأمريكية لتقسيم المنطقة :-
1- رفض الشعب العراقي في جميع المناطق ليس للتقسيم فقط ، وإنما لمشروع الفدرالية الذي ينظر إليه على أنه الخطوة الأولى على طريق التقسيم ، لأن التقسيم خلاف لمصالح العراقيين ، اقتصاديا واجتماعيا ، وخلاف لمنطق التاريخ والجغرافية ، وكان لدخول رقم المقاومة الوطنية المسلحة على معادلة التحرك الشعبي ، دورا حاسما في تغيير مسار الأحداث سياسيا وأمنيا ، وقد أجمعت فصائل المقاومة على رفض الفدرالية ومشروع السناتور جوزيف بايدن .

2- لقد جاء احتلال العراق ، خدمة كبرى للنفوذ الإيراني في المنطقة ، ومن أخطر إفرازات الاحتلال ، أن إيران استطاعت أن تمد نفوذا مؤكدا في جنوب العراق ، وأخذ تدخلها مستوى مثيرا لقلق معظم شيعة العراق ، الذين وجدوا أنفسهم وقد أصبحوا ضحية لأكبر عملية سطو لتاريخ التشيع ، و محاولة تحويله إلى وسيلة لخدمة أهداف التوسع الإقليمي الإيراني في منطقة الخليج العربي ، فالفدرالية المقترحة ، توشك أن تلحق إقليم الوسط والجنوب بالنفوذ الإيراني ، عبر الخطط التي ترسمها القوى السياسية المؤمنة بمبدأ ولاية الفقيه ، لسلب هذا الإقليم أية قدرة للتحكم بمصيره ، أو حتى مجرد مناقشة ما يرسم له من توجهات ، ولما كان هذا الاحتمال ، سيكون أكثر صرامة في حال تقسيم العراق مع بقاء نظام الحكم الإيراني الحالي ، أي إلحاق إقليم الوسط والجنوب بالدولة الإيرانية ، فمعنى ذلك أن نفط العراق الذي يزيد إحتياطيه المقدر على 200 مليار برميل ، سيضاف إلى رصيد إيران ، سواء برسم السياسة النفطية إنتاجا وتسويقا وتسعيرا ، أو باستخدام موارده في نشر الفوضى في عموم المنطقة ، بما يدخل العالم في أتون مواجهة خطيرة ، ولذلك فطالما أن الخطوة الثانية من المشروع الكوني الأمريكي ، والمتمثلة باحتلال إيران كما كان مرسوما من قبل ، نتيجة التعثر الإستراتيجي لهذا المشروع ، بسبب انطلاقة المقاومة المسلحة في عموم مناطق العراق ، فالولايات المتحدة لن تسمح لإيران بالتمدد على النفط العراقي ، وبالتالي فإن مصلحتها الآن تتقاطع مع مشروع التقسيم ، بانتظار فرصة مواتية أكثر ضمانا لمصالحها .

3- إن استمرار الدولة التركية بتركيبتها الحالية وقوة الجيش التركي ، ورفض تركيا القوي لقيام دولة كردية على تخوم حدودها ، يجعل من قيام كيان كردي مستقل أمرا محفوفا بمخاطر المواجهة مع الدولة التركية المستهدفة بالمرحلة الثانية من مشروع التقسيم ، الذي يبدأ أولى صفحاته فيها بفصل المنطقة الكردية عنها ، وبوقوف تركيا ضد قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق ، مع استمرار التحالف التركي الأمريكي ، فإنها إنما تدافع عن وحدة أراضيها بالدرجة الأولى ، ولو أنها تعلم أن وحدة أراضيها ليست مستهدفة في مرحلة لاحقة ، ربما كانت تجد مصلحة لها في إضعاف بلد مجاور ، كانت العلاقة معه غير مستقرة بصفة مستمرة .

8

لقد شهدت المنطقة الحدودية لتركيا مع شمال العراق توترا حادا ، كاد أن يجر المنطقة كلها إلى حرب من الصعب التحكم بمسرح عملياتها ، نتيجة للدعم المقدم من الحزبين الكرديين العراقيين ، اللذين يحتكران السلطة في شمال العراق ، لحزب العمال الكردي التركي ، على نحو شعرت معه تركيا ، أنها مستهدفة بخطة ليست من تصميم محلي ، يراد منها ممارسة أقصى درجات الضغط على الحكومة التركية ، لتقديم تنازلات جدية ، ليس لحزب العمال الكردي ، وإنما للحركة الكردية العراقية الساعية لفرض نموذجها كأمر واقع ، تارة بالإغراءات الاقتصادية ، وتارة بالقوة غير المباشرة ، أي قوة حزب العمال الكردي ، بدعم تسليحي وتقديم المأوى الأمن ، ومعسكرات التدريب ، وهذا التطور أنزل سقف طموح الانفصال ، وأعاد للحركة الكردية العراقية إحساسها بأهمية عراقيتها في بورصة العلاقات الإقليمية .

9

وعلى هذا يمكن افتراض أن تقسيم العراق ، لن يكون ميسورا لأي طرف محلي أو إقليمي أو دولي ، ما لم يتم وضع دول المنطقة على سكة البلقنة ، وهذا كله لا يوفر ضمانة بأن العراق سيسلك طريق الآخرين .
Nizar_samarai@yahoo.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

الثلاثاء /  10  ذو القعدة 1428 هـ  الموافق  20 / تشــريــن الثاني / 2007 م