بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

العراق : المصالحة "الوطنية" سهم خائب في جعبة بوش

 

 

شبكة المنصور

عوني القلمجي

 

"العمل العسكري ضد التمرد لا يكفي وحده ، وانما يجب العمل ايضا في اتجاه سياسي يقنع المسلحين والقوى المؤيدة لهم بالتخلي عن السلاح والاشتراك بالعملية السياسية مقابل الحصول على مناصب هامة في الحكومة. وان انجاز مثل هذا العمل يتطلب مساعدة عربية مخلصة". هذا ما قالته وزيرة الخارجية الامريكية كونديليزا رايس في مؤتمر صحفي عقدته خلال زيارتها الى العراق في منتصف مايس ايار من العام 2005. بعد ان تبين للادارة الامريكية بان الحل العسكري لانهاء المقاومة بات مستحيلا. وكالعادة كان عرب امريكا عند حسن الظن، فقدموا المساعدة المخلصة واثمرت عن عقد مؤتمر للمصالحة "الوطنية" في القاهرة وتحت رعاية الجامعة العربية، حضرته احزاب الاحتلال الى جانب احزاب وقوى محسوبة على معسكر المقاومة، كان ابرزها هيئة علماء المسلمين والتيار القومي وما يسمى بالتيار الخالصي والعديد من القوى الاخرى. وانتهى المؤتمر الى بيان ختامي وقعه الجميع، حيث حصد المحتل واحزابه في الحكومة المكاسب المطلوبة لتمزيق الصف الوطني، فيما خرج المخدوعون في الطرف الاخر بسواد الوجه.

واليوم يعيد التاريخ نفسه ، فبعد فشل استراتيجية بوش العسكرية التي حشد لها 35 الف جندي اضافي لانهاء المقاومة العراقية، لجأت الإدارة الأمريكية ومنذ عدة شهور، الى احياء مقولة كوندليزا رايس عسى ان يحقق العمل السياسي هذه المرة، والمؤتمر المنوي عقده في القاهرة تحت شعار المصالحة "الوطنية"، ما عجز مؤتمر القاهرة الاول عن تحقيقه، اي اقناع الفصائل المسلحة والقوى المؤيدة لها بالتخلي عن السلاح والاشتراك في العملية السياسية مقابل الحصول على مناصب هامة في الحكومة.

وفي هذا الصدد سلم السفير الأميركي في القاهرة فرانسيس ريتشاردوني، وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط رسالة من بوش تطالب مصر والسعودية والاردن على وجه الخصوص بالعمل على مساعدة امريكا للخروج من المأزق العراقي، وذلك بترتيب اجتماع يعقد في القاهرة أو شرم الشيخ في شهر مارس اذار المقبل على ان يضم الى جانب احزاب الاحتلال، فصائل من المقاومة والأحزاب العراقية المؤيدة لها، في حين وجهت وزيرة الخارجية الأميركية دعوة لوزراء خارجية الدول الست والتي تعرف باسم "دول الجوار العراقي" (مصر والسعودية والأردن وتركيا وسوريا وإيران) لحضور هذه الاجتماعات. ناهيك عن الاتصالات السرية التي جرت في دمشق بين مبعوثين امريكيين ومنهم ريتشارد مورفي وبعض ممثلين عن احزاب وقوى سياسية محسوبة على معسكر المقاومة العراقية. ويدخل في هذا الاطار اللقاءات العلنية التي حدثت بين مسؤولين مصريين وبين فصائل مسلحة لنفس الغرض. وقد بدأ توافد العديد من المبعوثين على بغداد من قبل الجامعة العربية التي سترعى الاجتماع المرتقب لوضع تلك الترتيبات اللازمة موضع التنفيذ. واغلب الظن بان بعض القوى المعنية وربما بعض الفصائل المسلحة الصغيرة ستحضر هذا المؤتمر، خاصة وانها حضرت مؤتمرات مشابهة خلال العام الماضي في اسطنبول وبيروت والبحر الميت.

ترى، هل سيلاقي هذا المشروع القديم- الجديد النجاح هذه المرة، ويحقق لبوش ما عجز عن تحقيقه طيلة سنين الاحتلال؟ ام ان هذا الفعل، في حال نجاحه او فشله، سيصب في خدمة المقاومة العراقية؟

فيما مضى كان دخول مثل هذه في مصالحة مع عملاء الاحتلال، يعد طعنة في ظهر المقاومة الوطنية العراقية، على إعتبار ان المصالحة مع العملاء تشكل اعترافا بالاحتلال كأمر واقع، وتبعث الروح في "العملية السياسية" ، وتكسر الحاجز الوطني والنفسي لدى البعض ليجيز التعامل مع العدو والتطبيع مع عملائه. خاصة وأن تلك القوى تمتعت حينها بحضور متميز في صفوف قطاعات واسعة من العراقيين. إلا أن دخولها اليوم في مثل هذه المصالحة يعد خدمة جليلة للمقاومة العراقية وتنطوي على ايجابيات كبيرة تخدم عملية تحرير العراق. فسقوط الأصبع المتهالك أفضل من بقائه معلقا بلا نفع ولا دفع. ثم ان الحضور الذي تمتعت به هذه القوى في الشارع العراقي قد انحسر كثيرا جراء الرفض المتزايد من قبل عموم الشعب العراقي لاية مصالحة سواء مع الاحتلال او مع حكومته بالنظر لما ارتكبته من جرائم يندى لها جبين الانسانية، وبالنظر لافتضاح اهداف الاحتلال وابرزها ان الغزاة قدموا للعراق للبقاء فيه وانهم يرفضون الانسحاب منه طواعية لاي سبب كان. واذا كنا في السابق نغض الطرف على مثل هذه التوجهات، ونكتفي بالاشارة الى مناقشتها واثبات عدم صحتها، حرصا على وحدة الصف المقاوم، فاننا اليوم بحاجة الى وضع النقاط على الحروف. ولكننا نعتبر ان حضور هذه القوى والاحزاب مؤتمر القاهرة المرتقب سيعود بالفائدة على المقاومة العراقية لانه سيطهر معسكرها المقاتل من القوى المترددة، وذات الوجهين، وهذا من شأنه ان يقدم خدمة جليلة للمقاتلين من اجل تحرير العراق.

عند هذه النقطة لابد لنا من الانتقال من العموميات الى التحديد وبقدر كافي من الصراحة والوضوح.
لقد شكلت هذه القوى المعنية بالمصالحة مع الغزاة والعملاء عبئا ثقيلا على المقاومة العراقية المسلحة في صراعها مع قوات الاحتلال لاسباب عديدة. اولها، تعاكس برامجها السياسية مع برنامج المقاومة العراقية. ففي الوقت الذي حددت فيه المقاومة العراقية استراتيجيتها لتحرير العراق عبر انتهاج كافة وسائل النضال ضد قوات الاحتلال وفي المقدمة منها الكفاح المسلح، وقالت ان لا صلح ولا هدنة ولا تفاوض مع المحتل قبل ان يعلن استعداده للرحيل دون قيد او شرط، فقد انتهجت هذه القوى برنامجا سياسيا يتعاكس كليا مع استراتيجية المقاومة، اساسه عرض الصلح او الهدنة او دعوة المحتل للتفاوض تحت ذريعة اخراجه بماء الوجه او تأمين انسحاب مشرف له. وعلى الرغم من عدم استجابة المحتل لهذه الدعوات فان تلك القوى ظلت متمسكة بهذا النهج وواصلت تقديم المبادرات والعروض المجانية بدل ان تتراجع عن برامجها تلك وتعود لتنخرط في صفوف المقاومة العراقية. والاكثر من ذلك فان هذه القوى ظلت تمارس الخداع والتضليل وتوهم العراقيين بان ما تقوم به يدخل في صميم ما تسميه زورا بـ"المقاومة السياسية التي لا غنى عنها لدعم المقاومة المسلحة"، الامر الذي ولد ارباكا في الوسطين العراقي والعربي بحيث اصبح من الصعب التصدي لهذه القوى وفضح مواقفها وكشف الاسباب الحقيقة التي تقف وراءها. والمصيبة، ان هذه القوى لم تسلك هذا الطريق جراء قناعات او استنتاجات خاطئة حتى يمكن تصحيحها عبر الحوار او من خلال تبصيرها بمخاطر نهجها وسياستها الخاطئة، وانما سلكت هذا الطريق لتحقيق اجندة خاصة بها. الامر الذي يدفعها لاجراء مساومات رخيصة مع المحتل في اي وقت، او الدخول في العملية السياسية لتحقيق مصالح فئوية ضيقة على حساب مصالح ومستقبل الشعب العراقي.

وثاني هذه الاسباب ان هذه القوى فقدت قرارها السياسي لحساب دول عربية، وعلى وجه الخصوص امارات الخليج، واصبحت مستعدة لتمرير اجنداتها الخاصة حيث تجد في اشتراك هذه القوى في العملية السياسية، فرصة لخلق توازن في المعادلة السياسية، يحقق لها مكاسب فئوية ضيقة، بزعم ان هذا التوازن يمنع التحالف بين الاكراد والاحزاب التي تعمل في الاساس لصالح ايران من الانفراد بالسلطة، الأمر الذي من شأنه ان يؤدي الي تقسيم العراق واقامة دولة شيعية في الجنوب، تمكن ايران من تحقيق طموحاتها التوسعية وخاصة باتجاه هذه الدول لاسباب معروفة. وهذا ما يفسر اسناد هذه الدول الخليجية وبدرجات متفاوتة، للقوى المذكورة والتنسيق الكامل معها، وتقديم المساعدات المادية والسياسية والاعلامية اللازمة وتمويل نشاطاتها ومؤتمراتها الخ. وهذا يعني بكل بساطة ان هذه القوى لا يؤتمن جانبها لانها لا تخدم عملية تحرير العراق بقدر ما تخدم مصالحها الفئوية الضيقة، ومصالح الجهات التي تمولها لا مصالح الشعب العراقي.

وثالث هذه الأسباب، ان هذه القوى لم تكن ثابتة يوما في مواقفها السياسية ضد الاحتلال والنضال من اجل انهائه بكافة الوسائل وفي المقدمة منها الكفاح المسلح. وانما اقتصرت مواقفها ضد سياسية المحتل كونها اعتمدت المحاصصة الطائفية التي حرمتها حصة مساوية لاحزاب الحكومة او في تقسيم الغنائم سواء في مجلس الحكم او الحكومات المتعاقبة او في البرلمان. فاذا حدث واجرى الاحتلال تعديلا على نسب المحاصصة الطائفية تؤمن لها مثل تلك الحصة فانها ستسارع الى قبول المساومة. وعلى ضوء ذلك فان دخول هذه القوى في مشروع المصالحة السيء الذكر سوف يكفي المقاومة شر القتال معها بعد ان تفضح نفسها بنفسها، حيث لن يعد لديها ما يبرر انتقالها الى معسكر الاحتلال.

الأهم من كل ذلك، فان انتقال هذه القوى الى معسكر الاحتلال سيجعل من الصراع الدائر على ارض العراق صراعا واضحا ومحددا بين قوتين عظيمتين هما المقاومة العراقية من جهة، وقوات الاحتلال من جهة اخرى. والوضوح في الصراع (سواء بين اطرافه او بين اهدافه) هو شرط لازم لانتصار احد الطرفين. فاذا كان هناك من يظن بان انتقال هذه القوى سيشكل خسارة للمقاومة العراقية، فان مثل هذا الظن ينسفه واقع الحال، بدليل ان انتقال "التيار الصدري" الى معسكر الاحتلال عزز من المقاومة العراقية في الجنوب، وبدليل ان انتقال بعض العشائر الى نفس المعسكر (تحت مسميات "مجالس الصحوة") طهر المقاومة من العملاء والمندسين في حين شكلت هذه المجالس ثقلا على المحتل وولد خلافات لاتزال قائمة في صفوفه حول وضع هذه المجالس ودورها ومهامها وعلاقاتها بالتشكيلات التي خلقها الاحتلال، من جيش وشرطة، اضافة الى تعاكسها مع اهداف المليشيات الطائفية المسلحة التابعة للسلطة.

اما فيما يخص الشعب العراقي الذي كان القسم الاعظم منه يعتبر هذه القوى قوى مناهضة فعلا للاحتلال وتسعى الى انهائه بالتعاون مع المقاومة المسلحة، فانه يعتبر انتقالها في هذا الظرف بالذات كشفا مفيدا للفارق بين الغث والسمين داخل الحركة المناهضة للاحتلال. فقد كشف المحتل عن كل اقنعته واثبت انه جاء ليبقى ولن ينسحب طواعية لا من خلال التفاوض معه ولا من خلال الجامعة العربية او الامم المتحدة. والشعب العراقي لن يقبل هذه المرة أي تبرير للمصالحة مع المحتل او مع حكومته العميلة كما قبل مثل هذه التبريرات في السابق. لقد مضى عهد الخداع والتضليل وظهرت مساويء الطروحات التي كانت تنتهجها هذه القوى بتقسيم المقاومة الى مقاومتين واحدة مسلحة والاخرى سياسية، وتبين لهذا الشعب بان المقاومة واحدة، وان تعددت راياتها، وهي المقاومة باستراتيجيتها المعلنة والتي تقول بان العراق احتل بالقوة ولا يتحرر الا بالقوة. والمقاومة هي حقا الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي.

لندع بوش يتحمل عبء المنتسبين الجدد الى معسكره، اذا ما قدر لمؤتمر القاهرة المرتقب "النجاح". اما اذا فشل لأي سبب كان، فان الإصبع المتهالك لن يتمكن من مواصلة تهالكه ونهجه الخاطيء. وستجد تلك القوة نفسها امام خيارين لا ثالث لهما فإما الالتحاق بالمقاومة والتسليم بخطها الكفاحي من دون أوهام، أو الوقوف على التل والضمور تدريجيا.

والشعب العراقي مؤمن تماما بان لا قدسية لمن يتعامل مع الاحتلال. وكل املنا ان تراجع هذه القوى مواقفها وان تغلب مصالح الشعب العراقي على مصالحها الفئوية وتطهر نفسها من اوساخ الغزاة ونجاسة حكومته ومخازي الحكام العرب الذين كانوا جزءا من المؤامرة ضد العراق.

 

 

 

 

شبكة المنصور

الخميس / 02 محـــــرم 1429 هـ الموافق 10 / كانون الثاني / 2008 م