بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

في الذكرى الثانية والخمسين لاستقلال البلاد
الحصاد المر للسياسة السودانية

 

 

شبكة المنصور

الدكتور/ عصام على حسين

 

اثنان وخمسون عاماً هي عمر دولتنا السودانية منذ استقلالنا السياسي ومازلنا نقف على رصيف محطتنا الأولي بعد أن أضحي فقرنا مدقع وتماسكنا شتاتاً وبعد أن فقدنا كل حقوقنا المعنوية من حرية وكرامة واعتبار اجتماعي وتلاشت حقوقنا المادية من تعليم وصحة وسكن وغذاء وغدونا مستأجري وطن ندفع ثمن إقامتنا الطوعية من عرقنا ورصيد أبنائنا ضرائباً وإتاوات وفقر ومرض وتشرد وأجيال ضائعة حق لنا ونحن نستقبل عاماً جديد يضاف إلى أعمارنا وإلى عمر دولتنا السودانية حق لنا أن يسال كل منا نفسه ما الذي حققناه منذ ذلك التاريخ وإلى الآن؟ ليدرك كل سائل أننا استدرنا حول أنفسنا دورة كاملة ومن ثم وقفنا عند نقطة البداية.

فإذا كنا نعتقد أن السودان قد نال استقلاله السياسي يوم أن حدث الجلاء للقوات البريطانية.. فإن وجود أكثر من 37000 جندي أجنبي على رقعة الوطن الجغرافية إضافة إلى بعض المنظمات المشبوه بغض النظر عن المسمي أو الغطاء الذي دخلت به البلاد، فإن الحدث في حد ذاته أعاد إلى أذهاننا مرحلة ما قبل 1956 وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدد القوات البريطانية التي غادرت البلاد فجر الاستقلال كانت 4000 جندي فإن عدد القوات الأجنبية الموجودة الآن تمثل أكثر من تسعة أضعاف ما تم جلاءه في 1956م هذا قبل ان تنزل قوات الهجين الملعب.

وإذا كنا نرى في الاستقلال الكرامة والسيادة والإرادة الحرة فإن الإملاءات الأجنبية المفروضة على الحكومة وبعض قوى المعارضة والقرارات الأممية الصادرة من مجلس الأمن والتي بدورها قد تدرجت إلى أن وصلت مرحلة التدخلات المباشرة في الشأن السوداني وكذلك توقيع هذا الكم الهائل من الاتفاقيات بين الحكومة الإنقاذية وبعض أطراف معارضيها برعاية ومباركة بل وإملاءات القوى النافذة إقليميا ودولياً قد جعلنا نفكر وبشكل جدى في كيفية وضرورة الدفاع عند سيادتنا وصيانة استقلالنا الوطني.

وإذا كنا نفترض أن الاستقلال السياسي لابد أن يتبعه استقلال ذو مضمون اقتصادي اجتماعي يراعي مصالح الشعب العليا ويوفر العيش الكريم لمواطنيه فإن حكومة الإنقاذ ونسخها المعدلة حالياً وكذلك الحكومات المتعاقبة التي سبقتها عجزت عن تأسيس نظام اقتصادي يستوعب إمكانيات وقدرات البلاد الحقيقية بل سارت على دروب التبعية الاقتصادية التي أورثاها إياه الاستعمار ونهجه الرأسمالي فبدلا من انتهاج طريق الاقتصاد المستقل الذي يوازي ما بين إمكانيات البلاد ومصالحة الاقتصادية ويبني علاقاته الدولية على هذا الأساس بما يوفر مقومات الحياة الكريمة المتعارف عليها اعتمدت سياسات اقتصادية حولتنا إلى أسواق مستهلكة لمنتجات الدول الاستعمارية المصنعة من موادنا الخام المنتجة في بلادنا.

إن سيادة نهج التحرير عبر تولي القطاع الخاص لقيادة العملية التنموية وفتح المجال أمام المستثمرين والارتماء في أحضان سياسة وشروط صندوق النقد والبنك الدوليين قاد إلى تقسيم المجتمع وتوزيع الدخل القومي لمصلحة الفئات الرأسمالية المرتبطة بالاستعمار العالمي ومن ثم أدت إلى إفقار الشعب وتغيب لحقوق المواطن الاجتماعية والاقتصادية.

وإن كنا نعتقد أن قضية الوحدة الوطنية قد تم حسمها بانعقاد مؤتمر جوبا 1947م ومغادرة قوات المستعمر صبيحة الاستقلال إلا أن الواقع وبعد أكثر من 60 عاماً أعادنا إلى التحدث عن حق تقرير المصير ومآلات الانفصال..

كل ما ذكر آنفاً يؤكد وبوضوح شديد أن بلادنا لم تبارح محطة العام 1956م.

اثنان وخمسون عاماً ومازلنا في نفس المربع الأول.. فهل يجوز ذلك؟ سؤال يدور في ذهن أي باحث في مسيرة التطور الوطني منذ الاستقلال وحتى الآن.. إن كل النظريات تؤكد أن عجلة التاريخ لا ترجع إلى الخلف كما أنه لم يكن في يوم من الأيام في حالة ثبات استاتيكي ولا يتحمل الفراغ إلا أن واقع السودان بات يشككنا في هذه الثوابت لان أحزابنا التقليدية والاسلاموية الرجعية وبغياب افقها الاستراتيجي وبرنامجها التنموي الذي يحمل مضامين التغير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لمصلحة المواطن السوداني لم تستطيع الإجابة على الأسئلة الأساسية لمحاور الصراع في البلاد.

لقد فات على ساستنا بعفوية حدسهم السياسي أن السودان بموقعة وتراثه ومستقبلة والطاقات الكامنة في شعبه ركيزة هامة في الوطن العربي وأفريقيا لمسيرة الاستقلال والتقدم والبناء وفي مواجهة الاستعمار وأطماعه ومخططاته، لقد فات على هؤلاء إدراك أن السودان مستهدف كوطن والأطماع الاستعمارية للتدخل فيه قديمة وأن قضايانا الوطنية من سلام ووحدة وديمقراطية وتنمية وغيرها كانت وما تزال البوابة التي يلج عبرها التدخل الاستعماري أو التأثير الخارجي على مجريات الحياة العامة.. لقد ساهموا في الأزمة الوطنية بشكل مباشرة بعدم الإجابة على أسئلة محاور الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في التنمية المستقلة والمتوازنة إقليميا وجهويا واقتسام الثروة والسلطة ونظام الحكم والهوية وعلاقة الدين بالدولة وتضمين ذلك في دستور إجماع وطني ديمقراطي إلا أن الكرة مازالت في ملعبهم لإيجاد مخرج من هذه الأزمة التي أدت إلى تفريط في وحدة وسيادة البلد عبر وضع محاور نضال شعبي ووطني لتجاوز هذه المحنة ولقد كنا نعتقد ولوقت قريب أن الاستعمار لا يمكن أن يعود بصورته القديمة ولكنه عاد وإن اختلفت وسائله، أي أن الرضوخ لمخططات وأهداف الإمبريالية بفصل الجنوب وتفتيت السودان وغيرها هي انتقاص واضح للحرية والكرامة وإهدار للسيادة الوطنية وإن غطت الدول الاستعمارية الإستكبارية أهدافها الشريرة بشعارات وذرائع الدفاع عن القيم الإنسانية كدعاوى إيقاف الحروبات الأهلية ومنع الاضطهاد الديني والتطهير العرقي ودرء أثار المجاعة والنزوح ومقاومة أهدار حقوق الإنسان ومصادرة الديمقراطية والحريات العامة ومواجهة بؤر الإرهاب.

كما أن إرسال قوات دولية إلى السودان تحت أي ذريعة وفرض مراقبين لأوضاع حقوق الإنسان في السودان بشكل عام هي عودة الاستعمار وللأسف الشديد وجدت هذه الذرائع الترحيب والقبول من ما يسمي بحكومة الوحدة الوطنية وبعض أطراف المعارضة الشمالية والجنوبية لأسباب شتي منها الارتباط وتغطية المخططات الاستعمارية أو التمهيد لفصل الجنوب أو الاتكاء على القوى الاستعمارية لتحقيق انتصارات عسكرية وسياسية على النظام أو بهدف الضغط عليه للتراجع عن سياسات القمع والتنكيل وهي ذرائع استخدمت في أكثر من منطقة وقد أدت في لحظة الشروع فيها إلى انتشار للوجود الأجنبي وتواجد غير محدود المبعوثين والمراقبين لحقوق الإنسان ثم ما لبثت وفقاً للمخطط الإمبريالي الصهيوني إلا أن اتسعت وشملت المناطق الأخرى في بلادنا ومن ثم أشاعت ثقافة الاستنجاد بالأجنبي بين مواطنين مناطق أخرى من قطرنا بالاستعادة من سياسات النظام التي تنكر التعددية الثقافية ولا تعتمد نهجاً مقبولاً للتنمية المتوازنة لأقاليم البلاد.

أيضا أتخذ التدخل الأجنبي مسلك امتطاء معظم قوى المعارضة الخارجية وبعض أمتدادتها بالداخل التي ارتهنت لإرادة الهيمنة الاستعمارية الغربية وحلفائها وعملائها في المنطقة وداخل السودان والتي قادت إلى التغطية السافرة للتدخل الأجنبي في السودان لان بعض قوى المعارضة اعتمدت على الدعم العسكري الخارجي لإسقاط النظام.

أيضا من ضمن الأساليب التي أتخذها التدخل الأجنبي في السودان هي سياسة الاحتواء الكامل للنظام الحالي عبر الضغوط المتواصلة التي ظل الغرب والرجعية العربية ممارستها على نظام الخرطوم بهدف التحكم في علاقاته الخارجية وتبديل مواقفه وربط النظام بقوى الاستعمار بشكل مباشر وكذلك بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية في الحكومة بعناصر تشمل قوى أخرى تنسجم من موقعها في المعارضة مع مخططات الامبريالية والصهيونية في السودان والمنطقة عموماً.

هذه الأساليب قد حذر عنها حزب البعث العربي الاشتراكي في إحدى وثائقه قبل أكثر من خمسة أعوام فهل خرج الوضع الاستعماري الجديد عن هذه السيناريوهات؟ سؤال يجعلنا العودة مرة أخرى إلى إعادة النظر في كيفية الاحتفال بالذكرى الثانية والخمسين للاستقلال وما يتطلبه هذا الاحتفال من جرد حساباتنا معتمدين نهج الربح والخسارة لنكشف دون مغالاة إننا وكما أسلفت القول نقف على رصيف المحطة الأولي.

إذن الاحتفال بالذكرى الثانية والخمسين للاستقلال تقضي مواجهة التدخل ا لاستعماري وسد ذرائع التدخل الأجنبي في بلادنا والضغط على نظام الإنقاذ للتخلي عن نهجه وسياساته الداخلية التي تشكل بوابة الأطماع ومعبر المخططات الاستعمارية وكما يلقي على عاتق القوى الوطنية وأجب التصدي من قواعدها ومنابرها المستقلة لمخططات ومشاريع التدخل العسكري الأجنبي في بلادنا فإن النضال الوطني والقومي لكافة أقسام الحركة السياسية والجماهيرية في بلادنا في هذا الوقت بالذات يتطلب توحيد جبهة الشعب لمقاومة الأجنبي الدخيل وتحمل المسؤولية التي تترتب على هذا الهدف المركزي وفي هذه الحالة فإن المحك لاقتراب أي حركة سياسية نحو البعد الوطني أو الانزلاق إلى الخيانة إنما يتحدد بمدي القدرات والإمكانات الفعلية التي توفرها الحركة السياسية في مواجهة ومقاومة الأجنبي.

إن على قوانا السياسية والاجتماعية الحية بناء موقف وطني جديد وعلى أسس مبدئية وإستراتيجية كسبيل وحيد لتجاوز الوضع السياسي الراهن والارتقاء بالعمل السياسي إلى مستوى العمل النضالي التاريخي وتفعيل آلية النضال الشعبي لأن السيادة والتحرر هي خيار الشعب في كل مراحل تاريخه.

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاحد / 28 ذو الحجة 1428 هـ الموافق 06 / كانون الثاني / 2008 م