بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

 

ديمقراطية قتل وتفتيت فى « جمهورية » لن تدوم

 

 

 شبكة المنصور

 مفتاح شعيب

 

شهادة حية على جريمة الغزو

قطعا، لن يكون سهلا على أبناء هذا الجيل والأجيال التى تليه نسيان جريمة الغزو الأمريكى للعراق، وما طال هذا البلد الراسخ فى الحضارة الإنسانية من تدمير وقتل وتشريد ضمن صور لم يشهدها التاريخ الحديث، رغم أن مسرح الجريمة "بلاد الرافدين" شهد ذات الصور قبل أكثر من ثمانية قرون مع غزو التتار لبغداد وذبح غالبية أهلها " نحو 40 ألف نفس"، وإتلاف مكتباتها وقتل علمائها وإعدام آخر خلفاء بنى العباس المستعصم دهسا بسنابك الخيل الغازية.

وربما أعاد التاريخ نفسه عام 2003، وزاد مع الغزاة الأمريكيين وأذنابهم القادمين هذه المرة من أقصى الغرب، فكانت الجريمة فى أقسى فظاعتها وبشاعتها، وبقدر الوحشية التى صاحبتها كانت الرجة عميقة فى الضمائر والعقول، لاسيما بعد أن سقطت ذرائع الغزو وتفجرت المقاومة الوطنية وعلى رأسها الرئيس الشهيد صدام حسين، لتنقلب بذلك عدة مواقف رأسا على عقب، وكانت العبرة بحجم المصيبة.

الرئيس الراحل ونظامه ودولته التى بناها للعراقيين والأمة العربية كانت هدف الغزو الأول، وعندما اعتقل وحوكم وأعدم تحول ذلك الرجل إلى قديس ورمز، وأصبح الوقوف فى صفه والدفاع عنه وقوفا مع العراق بعروبته وإسلامه وحضارته وتاريخه الطويل، وفضحا لخطط الغزاة وإسقاطا لصنم "الحرية والتحرير" الذى بنوه على جثث مئات آلاف العراقيين وأولهم الرئيس الشهيد.

وفى هذا السياق، يقف الكاتب والصحافى العراقى المهاجر الأستاذ على الصراف، مستشار تحرير صحيفة "العرب الأسبوعي" الصادرة عن "دار العرب للصحافة والنشر" بلندن، مجردا قلمه دفاعا عن العراق ومقاومته، وفضحا لمؤامرات الغزاة وأشياعهم وجرائمهم ورثاء لعراق ما بعد صدام حسين. الصراف المعارض السابق لنظام الرئيس صدام حسين، كغيره من شرفاء هذه الأمة صعقه الغزو، واكتشف أن الرئيس الذى كان يعارضه طوال سنوات حكمه لقناعة بأن العراق الذى يسع رئيسا بتلك الشخصية الخصبة، لا يسعه، اكتشف بعد فوات الأوان أنه كان على خطأ وأن الرجل الذى كان لا يطيقه، لم يكن حاكما كغيره، بل رجل دولة وأب شعب، جمعت شخصيته مجدا تليدا وتاريخا شامخا، واختصرت دوحة من بطولات وأساطير.

وفى شهادة حية على جريمة الغزو وما تبعها أصدر الصراف كتاب "جمهورية الموت: الحرية الشهيدة فى عراق ما بعد صدام حسين" وهى شهادة، لم تكتف بالوصف والتنديد، بل تجاوزتها إلى رسم بعض ملامح الأفق الوطنى للموقف من الاحتلال الأمريكى وحكوماته المتهافتة فى بغداد.

الكتاب صدر عن "دار قرطبة" فى الجزائر فى 185 صفحة، متضمنا عددا من المقالات التى أثارت اهتماما واسعا بين القراء، وأغلبها نشر فى صحيفة "العرب الأسبوعي"، ومنها رسالة الاعتذار الشهيرة التى بعث بها الكاتب إلى الرئيس الراحل صدام حسين فى سجنه وكانت بعنوان: "رسالة اعتذار الى دكتاتور رائع"، وكذلك "عشرة أسباب لإعدام صدام.. سبب واحد لإبقائه حيا".

مقدمة الكتاب كانت بقلم الصحفى والأستاذ الجامعى العراقى الدكتور هيثم الزبيدي، رئيس تحرير موقع "ميدل ايست أونلاين"، واستعرض خلالها بايجاز السيرة السياسية والصحفية للكاتب على الصراف، وهى سيرة كانت قريبة من قلب التحولات السياسية التى عاشها العراق فى ربع القرن الأخير.

وجاء الكتاب مقسما إلى خمسة فصول وفق منهج من الخاص إلى العام، جوهره شخصية الرئيس الشهيد صدام حسين رمزا ومشروعا ودولة، ومن ثم الانتقال إلى نقد البديل الذى صاغه الغزاة "الحرية والديمقراطية"، ولكنه بديل لم يكن إلا وسيلة لأهداف هى أبعد ما تكون عن الشعارات المرفوعة، التى حاولت وتحاول الإدارة الأمريكية وأتباعها تسويقها، ولكنها فشلت، بفضل عامل المقاومة الوطنية، وبروز جبهة مضادة لسياسة التفتيت الطائفية التى رهن بها المحتل استراتيجيته، ولكن كل ذلك بدأ فى السقوط خطة بعد خطة، ومؤامرة إثر مؤامرة، ليبقى فى الأخير العراق عراقا للوطنيين، والوطنيين فقط.

والكتاب فى مجمله هو صرخة وعى مدوية، ومراجعة "أركيولوجية" جريئة للموقف من نظام صدام حسين، عبر عنها الصراف فى المدخل الذى وضعه للكتاب، ويقول فى ذلك "لقد خسرنا، نظاما اكتشفنا بعد فوات الأوان، أننا "فى الأساسيات الاستراتيجية" ما كان يجب أن نعارضه، وخسرنا بلدا رأيناه يقع تحت سنابك غزاة، أثبتوا بالشواهد والوقائع اليومية، أنهم أكثر وحشية حتى من النازيين ومن كل أنواع الهمج الذين عرفهم التاريخ" "ص 2".

الشهيد - الحي


ربما يكون كتاب " جمهورية الموت" هو أول كتاب وضعه أحد المعارضين لنظام صدام حسين، لا لنقده والتشفى منه كما يفعل عادة المتاجرون، بل لإنصافه والقصاص له، وجعله فى المكان اللائق به فى تاريخ العراق، لاسيما بعد أن أثبت الرجل أنه من طينة نادرة الوجود، وأنه وطنى لا يستطيع أحد أن ينزع عنه تلك الصفة، ويكفى الوطنى وطنية أن يبقى ثابتا على مبادئه حتى اللحظات الأخيرة فى حياته، وهو ما عرفه العالم فجر عيد الإضحى الثلاثين من ديسمبر- كانون أول 2006، فكان إعدامه خير خاتمة لشخصية ستظل حية عبر الأجيال تحضر فى كل إضحى، وذات قدسية لا طعن فيها.

وعبر الفصل الأول من الكتاب، وخلال تسع مقالات، يعرف القارئ الكثير من الأسرار والتفاصيل عن هذا "العراق الجديد"، ويعرف أيضا أن الرئيس الشهيد صدام حسين، لم يكن رئيسا اسمه صدام، له أعداء وأنصار، بل هو رجل عصر و+ظاهرة عراقية+ ذات معنى تاريخي، وكانت محاكمة الرجل محاكمة لحضارة وثقافة وإرث سياسى وديني، وفوق ذلك محاكمة للعراق بدلالاته وأبعاده ومشروع الدولة ذات السيادة الذى بناه صدام الذى من أجله ضحى بنفسه وولديه وحفيده" .. لم يكن الرئيس صدام سوى مشروعه للعراق، المشروع هو الرجل، والرجل هو المشروع، وهذا المشروع هو الذى دفعه لخوض الحرب ضد ايران، وهو نفسه المشروع الذى دفعه لبناء أسلحة دمار شامل، كان يريد أن يحول العراق إلى قوة إقليمية عظمى، وكان يريد أن يرسى قاعدة صناعية وتكنولوجية وعلمية متطورة" "ص 33".

ذلك هو الرئيس صدام حسين كما يراه الكاتب، بل ذلك هو ما أثبتته الوقائع والأحداث، فهل مات الرجل؟، الجواب القطعى "لا" فهو ما يزال حيا بمشروعه وسيرته، وربما أصبح أعظم خطرا على أعدائه أعداء العراق من غزاة وعملاء، وصدام نفسه أعلن ذلك قبل أن يلقى وجه ربه راضيا مرضيا "ستخافون منى ميّتا أكثر مما تخافون منى وأنا حي".


ديمقراطية الدم


فى الفصل الثانى من الكتاب يسترسل على الصراف فى فضح ما يسميه الغزاة " المشروع الديمقراطي" فى العراق، بأسلوب حاد حينا وهادئ آنا آخر، فيكشف زيف هذه "الديمقراطية" التى يرى أنها لم توضع إلا استكمالا لمشروع الغزو والتدمير، فلا يمكن أن تحتل قوة بلدا من أجل خير شعبه، فالتاريخ لم يخبرنا عن تجربة أبدا من هذا النوع، وغزاة مثل الأمريكيين بتلك الوحشية والأرواح المجرمة التى تسكن صناع القرار فى البيت الأبيض والبنتاجون، لا يمكن أن يكونوا رسل حب وديمقراطية.

وقد أثبتت "الانتخابات" التى جرت فى العراق فى 2005، والاستفتاء على ما يسمى "الدستور الدائم" بداية 2006، وهما محطتان لم تكونا على أية حال ناجحتين إلا فى أذهان المخططين لهما، فكانت النتيجة مزيدا من الدم والقتل وتصعيدا للمقاومة، دفعت فى الأخير الأمريكيين إلى مراجعة حساباتهم، بعد أن تكرست الطائفية ودخلت البلاد فى حرب أهلية صنعها المحتل وغذاها، وأسفرت عن مئات آلاف الشهداء وملايين المهجرين، فكانت الديمقراطية مظلة أخرى لتدمير العراق، باسمها، لا باسم أسلحة الدمار الشامل، ومحاربة "ديكتاتورية" صدام حسين.

الديمقراطية بهذا المعنى، لم تعد قيمة سياسية فى هذا العراق الجديد، بل أصبحت المناداة باسمها جريمة تشرع للعنصرية والطائفية والتفتيت وتفريخ المليشيات والأحزاب، وعنها يقول الكاتب" لقد أمضينا، مثقفين وكتابا وصحفيين، عمرا فى الدفاع عن الديمقراطية، والنطق باسمها، وقد حان الوقت لتقديم اعتذار علني، فقد كنا على خطأ" "ص46".


مشروع الكراهية


وبالمعنى السالف لـ "الديمقراطية" التى جاء بها الغزاة الأمريكيون والصهاينة متبوعين بالعملاء والأذناب، يقوم الكاتب فى الفصل الثالث بالبحث فى الأسباب التى استدعت كل تلك الوحشية والبربرية التى جنت على العراق وأهله، فيؤكد معتمدا الكثير من البراهين والإحصائيات أن مشروع الغزو الأمريكى انبنى على قيم هى أبعد ما تكون عن الحرية والديمقراطية والحقوق، فاكتشف أن الحقد والكراهية والإذلال هى المفاهيم الثلاثة التى تتخفى خلف المعلن وتقود السياسات الجارية التى شرعت للنهب والتعذيب والاغتصاب وهدر الأعراض، "أبوغريب- الجادرية- أقبية وزارة الداخلية- فرق الموت"، وهى ممارسات غريبة عن الروح العربية والعراقية، حتى وإن عرفت عبر التاريخ بقسوتها، إلا أنها لم تبلغ تلك الدرجة من الانحطاط والنذالة، إلا بفضل الغزاة الأمريكيين الذين بذروا كل تلك القيم وغذوها وسهروا على تنفيذها.

ويشير الصراف إلى أن ما حمله الغزاة الأمريكيون من حقد على العراق نيابة عن العرب والمسلمين، ويوازى بين حقدهم وحقدنا، فيؤكد أن الحقد الأمريكى لا يفرق بين رئيس دولة ومواطن عادي، بل هو جامع مانع يطول كل شيء، أما الحقد العربى على الولايات المتحدة فلا يتجاوز سياسييها وطبقة الحكم الفاسدة، ويقول فى هذا الشأن موضحا" لايوجد فى الثقافة العربية السائدة، بما فيها الثقافة السياسية المناوئة لـ "الإمبريالية"، ما يبرر الافتراض أن العرب أو المسلمين يكرهون الولايات المتحدة، وبالتأكيد لا يوجد شيء يبرر الافتراض أن هذه الكراهية، إن وجدت، تمس الشعب الأمريكى نفسه" " ص 65".

وبهذا المعنى تأكيد من الكاتب على أن هذه المعادلة هى التى تصنع الفارق، وعلى أساسها يكون الانتصار والغلبة لمن كانت ثقافته ذات إرث انسانى تليد، تقدس الانسان وتحترمه، وتختزن فى بنيتها حضارات وثقافات وذلك هو جوهر العراق.

واحد متعدد

والعراق بكل تلك الحيوية والخصوبة لا يمكنه أن يذوب فى بعد واحد حتى وإن أطبق عليه كل أشرار العالم وخربوه، فقوة هذا البلد مستمدة من وحدته وتعدد طوائفه وأعراقه، وهو ما يتناوله الفصل الرابع من كتاب "جمهورية الموت"، وقد عرضت غالبية المقالات الواردة فيه إلى ما سعى المحتل إلى أن يجعله أمرا واقعا، من خلال لعبه على الوتر الطائفى وتحريض أبواقه على توليد مشاريع التقسيم والفيدراليات، ظنا منه أن ذلك سيكفل له سرقة العراق من العراقيين الوطنيين بمختلف طوائفهم وقومياتهم.

غير أن هذه اللوحة التى لم يفهمها المحتل، واستخف بها أتباعه، هى العامل الأعظم فى الحفاظ على وحدة العراق، وسالت من أجلها دماء غزيرة وأزهقت أرواح وعذب رجال كثيرون ونساء، وهدمت مساجد وحسينيات ومقامات ومدن بكاملها "جريمة تدمير الفلوجة".

وحدة العراق بثرائها وتعددها هى التى هزمت مشروع الاحتلال" الفسيفساء الطائفية والقومية العراقية ضخمة فعلا، ولكنها بسبب من طبيعتها التاريخية، فسيفساء وحدة، لا تقسيم، ليس لأن كلا منها لا يعرف حدود تمايزاته الثقافية أو الدينية، بل لأن هذه التمايزات لم ترق إلى مستوى هوية مستقلة قادرة على أن تعرف نفسها بمعزل عن الآخر" "ص109". وفى هذا الفصل إشادة بالمقاومة الوطنية فى العراق التى يرى الكاتب أن الفضل يعود إليها وحدها فى إحباط كل مشاريع التفتيت، كما أنها نجحت فى الاقتصاص من الغزاة، فكبدت الاحتلال الأمريكى نحو 30 ألفا بين قتيل وجريح، وآلاف الملايين من الدولارات، وفوق ذلك مرغت سمعة الولايات المتحدة فى العفن، وأظهرتها مكسورة أمام الأمم التى تراها قوة باطشة غير مقدور عليها.


النصر الآتي

ويبدو أن كل هذا الصمود المتعدد هو الذى عجل بهزيمة الولايات المتحدة، وعبارة هزيمة الولايات المتحدة تؤخذ بمعناها الحرفى لا المجازي، ويشدد الكاتب فى الفصل الخامس والأخير من كتابه على البراهين التى تدعم هذا الاتجاه، فيعود مرة أخرى إلى شخصية الرئيس الشهيد صدام حسين، ليؤكد أن علامات الانتصار العراقى بمقاوميه ووطنييه وشهدائه بدأت من قرار الحكم بالإعدام على الرئيس صدام، فى تلك المحاكمة التى اعتبرها مهزلة القرن وفضيحة لا تقع إلا فى بلد احتشد فيه لصوص ومجرمون وقتلة، وفى موقف ربما يفاجئ فى الوهلة الأولى أى قارئ، فالكاتب رحب على طريقته بحكم الإعدام فى حق الرئيس صدام، وهو ترحيب تجاوز المألوف، وعبر عن غيرة غير محدودة على العراق، فالكاتب رأى فى إعدام صدام استكمالا لبطولته، وفخرا للعراق، بلد الأبطال والملاحم والأساطير، وهو بحاجة فى هذا العصر إلى أسطورة جديدة، فجريمة مثل جريمة الغزو الأمريكى تستوجب بطلا فى حجمها وأعظم.

وقد كان للصراف ما أراد، إذ أعدم صدام فى يوم مشهود، شدّ توقيته الانتباه "عيد الأضحى"، وكان استشراف الكاتب بأن تكتمل صورة البطل قد تم فعلا، فاستشهد منتصرا، وعلم الوطنيين من أبناء العراق كيف تكون التضحية ويكون النصر " أبعد من الموت هذا الرجل، ووجوده أبقى من وجود الزائلين، وسيكون أسطورة، وسيخلد كما يخلد كل حجر من حجارة سومر وبابل وآشور، ويزول جلاوزة الاحتلال، كما يزول الزبد." "ص 152".

ومن استشهاد صدام بدأ النصر يولد، وهو نصر لم يكن خيارا بل نتيجة طبيعية لاحتلال جاء بمنطق اقتلاع هوية العراق من جذورها، ولكنه لم يقدر، وتنقلب المعادلة التى بدأت أول الغزو فبغداد دار السلام وأم العواصم لم تسقط بل الغزاة هم الذين سقطوا وبدأوا فى الانتحار على أسوارها.. ولينبعث من تحت الركام والدمار عراق جديد بالفعل هو عراق المقاومة والوطنية والوحدة والبطولة والرجولة، لا عراق المخانيث واللصوص والقتلة.

كتاب" جمهورية الموت" لعلى الصراف يشد قارئه، وفضلا عن أسلوبه الآسر ولغته النابضة، المُقاومة، لم يكن كتابا كغيره من الكتب، فقد وضعه صاحبه لكشف جزء من الحقيقة، والمساهمة فى المشروع التحررى للعراق، كما خصص ريعه لمنكوبى الغزو والاحتلال والمدافعين عن العراق ورموزه، و"جمهورية الموت" هذه مهما طالت، سيولد من ركامها العراق الحر، السيد، الرائد، وتلك هى رسالة الكتاب الأخيرة .

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاثنين / 20 محـــــرم 1429 هـ الموافق  28 / كانون الثاني / 2008 م