الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

نص من أدب المقاومة العراقية
هلوسات رأس تحت الاحتلال
جغرافية الرأس

 

 

شبكة المنصور

كلشان البياتي /

 

في الكوارث ، والحروب الطاحنة، والغزوات الُمدمرة، وأيام المطر والفواجع والانكسارات يتخذ رأسي موقفاً مشرفاً اضطرُ إلى أن اعتز به بين سلالات الرؤوس ، أفاخر به بين قبائل الغجر برغم سلبياته ، وتناقضاته وهلوساته .

بعد الغزو المدمّر والصاعق لبغداد ، وقف رأسي وقفته المشهودة فلم يخذلني ولم أصاب بانتكاسة من ورائه ، حافظ على هيبته ورصانته وكان رأساً جغرافياً بامتياز ، أعظم الرؤوس هي التي تصمد بوجه الرياح العاتية التي تهب ّ على الأوطان فتقتلع الزرع والحرث من الجذور.

وبما انه ينحدر من أصلٍ كريم ذي حسب ونسب ومكانة ، فقد انتخب رأسا للرؤوس جميعها في مغارب الأرض ومشارقها : قبيلة شمر، قبيلة ربيعة، البو محمد، قبيلة البيات ، البو بزون ، البو جواري...

بعد كل انفجار هائل ،مدوي يحدث قرب رأسي ، ترتج من هولها الأبواب ، والنوافذ، والقلوب والرؤوس ، أعود فأحذف رأسي من الوجود وأنكره إنكاراً تاماً ، وانفي ارتباطه بي : صدقوني يا أصحاب الرؤؤس المرموقة ، عالية الجناب والمقام ، هذا الرأسُ ليس براسي ، لاينتسب إليّ بشي لا بالوراثة ولا بالتبني ، ولا يمت لي بالصلة ، لا من قريب ولا من بعيد ،هذا رأس أبي العتاهية، رأس النعمان بن المنذر ، رأس أبي حيان التوحيدي، رأس أستاذ مادة القواعد، رأس الفرز دوق، رأس عازف بيانو ، رأس محارب عنيد ، رأس زعيم وطني ...

ربما هو رأسي ، أو رأس إنسان أخر يقرب لي ميلاً! لكن كل ما يبدر من سلوك ُمضاد منه يشعرني بأنه لاينتمي إلىّ بشي ، لا صلة قربي ، ولا صلة جوار ، إلاّ انه هكذا وبدون مقدمات وتفاصيل صار وبمحض إرادتي ورغما عني رأسا لي ، يتولى شؤون جسدي فكرا وتطبيقا.

منذ سنوات طويلة وإنا محكومة برأس غيري ، وهذا الرأس ليس رأسي ، أنا جسدُ بلا رأس ، رأسٌ بلا إرادة ، عديمة الرأس، قليل من الوقت وأصير من مشاهير بلادي علماً،وثقافةً وأدباً، عندما قال لي أحدهم يوما ما : اطلبي سيدتي ما تشائين ، سأتيك برأس من ايرلندة الشمالية ، أو جنوب مملكة تايلاند ، أو جنوب مملكة ايرلندة أو بيزنطة ، رأس لرجل ينتمي لعصر امبرطورية روما المنهارة منذ قرون ، أو سأتيك برأس رجل أفغاني ، وإذا طلبت رأس مهاتما غاندي فلن أتأخر به.

قال لي : صدقيني كل الرؤؤس العظيمة الجبارة التي لاتعرف الأحابيل والحيل تتشرف أن تكون رأساً لامرأة مثلك ، لاتملك زمام رأسها بيديها .. بحثت آنذاك عن هدية محبة ثمينة أقدمها لهذا المحب الطارئ ، فلم أكن اعلم انه سهديني رأساً يرفع من معنوياتي أيام النكبات والكوارث ، رأس يبقى مرفوعاً ،عالياً في القمة ، لاينحني لأحد .. فكرت بنفسي أولا ، أحصيت كل ما املك ، قدرت راتبي ومذاخرتي لسنوات الشقاء والمكابدة، قدرت سننين أحلامي وأعدادها ، وجدت كل ما املك لا يأتي بهدية لائقة ، قدرت حينها وبصمت وتضامنا مع قيس بن ملوح العاشق الفذ الذي وهب في لحظة تهور وساعة نحس رأسه هدية لليلى وأبناء عمومتها، فكرت أن أهديه رأسي بنسبه الكريم ، بأخطائه ، وهفواته وطموحه المشروع وغير المشروع ..
ترددت كثيرا قبل أن أخطو خطوة كهذه ، فكرت إلف مرة قبل أن افعل هذه الحماقة ، خفت على الآخرين من راسي وأهواله ونكساته وإنا التي نذرت راسي بنضاله الطويل وكفاحه الشاق، بحسناته وسيئاته ، ورضيت أن أبقى بلا رأس ، ورضيت بأن استعار رأسا بالوكالة ليقودني كيفما يشاء .

تحت خط الاستواء، فوق برج إيفل ، باتجاه شارع فلسطين ، أو قرب نفق التحرير..حتى لحظة الندم كان رأسي عاقدا العزم إن يكون هدية مفضلة عندي لأحد الأصدقاء في عيد ميلاده أو الذكرى الأولى لزواجه أو قدوم طفله الأول..سأقدم رأسي هدية فاخرة عندئذ فقط سأشعر باني حققت هدفا في حياتي ، عهدت برأسي وأنهيت صلتي الرسمية وغير الرسمية به ، لن تمر عيد دون أن اهدي هدية أثمن من رأسي ومتى ما ضاقوا ذرعا به سأسترده وأتبرع به إلى جمعية الرفق بالرؤؤس ،والمنظمة العالمية لرعاية الرؤوس أو الاتحاد العربي النسائي للدفاع عن حقوق الرؤوس المسلوبة ..

في الآونة الأخيرة جرى اهتمام غير عادي بالرؤوس وعلى مستويات رفيعة الشأن توصل نخبة من المهتمين بالرؤوس التي يتبرأ منها أصحابها ومنحهم رأساً مغايراً تماماً وبالمواصفات المطلوبة عالمياً.

عندما فكرت بإهداء رأسي إلى أي محب كنت في لحظة يقظة تامة وفي كامل وعي ولم تكن لحظة تشاؤم ولم يرجع ذلك إلى المعاناة أو النكبات الكثيرة التي تلم بي في زمننا هذا الذي يشبه علك موز هندي.كان القمر بدرا يخزن في جسمه دما اصفر يضي السماء بصفاءٍ تام ، وكانت النجوم متناثرة حوله تنجذب نحو دائرته ، وكان رأسي مازال صاحياً يحتفظ بهدوئه لم يمر بعد بالتشابكات المعقدة والخلل الفكري الذي يصاحبه الأرق قبل ابتدأ مرحلة النوم .

الساعة تجاوزت الثانية أو الثالثة بعد منتصف ليل تموزي ،الطقس حار جداً ، قائض ، تفوح منه رائحة كارثة كبيرة توشك أن تقع ، ساعة نوم واحدة تكفي أن يبقى رأسي وديعاً ، نقيا ً ، ويتخلى عن مشاكله اليومية ، لو أحصيت حجم الخسائر والإضرار التي كبدني إياها رأسي طوال الأعوام العشرين الماضية من حياتي لأدرك الآخرون أن إصراري على قلع رأسي من جذوره أو إخضاعه لسلسلة من العمليات الفيزيائية والكيمائية المعقدة أملاً أن يدخل ضمن حق من حقوقي الشرعية .عندما قلت لك سأهديك أثمن هدية في حوزتي اعتقدت ببساطة إني امرأة ساذجة ، سأفكر بأن أهديك سلسلة مفاتيح أو زجاجة عطر،أو ربطة عنق ، سأفكر بكل الأشياء ووجدت إنها سهلة الضياع ، قلت :سأهدي رأسي واضرب عصفورين بحجر، استرد عافيتي أولا واطمئن أن راسي في يد أمينة لن يرتكب الخطايا والذنوب والآثام الكبيرة .وقد يكون رأسي بيديك رأساً مسالماً يسترد برأته الأزلية وسيزول عني الشك ، لن اشعر بأن رأسي ركبّ خطاءً فوق جسدي وأشعر باني ملاحقة بالأخطاء كلما أغادر بيتي صباحا .

لن اشعر بأن كل الأخطاء المتراكمة حولي هي من صنع رأسي وتدابيره وحده ، سأتمكن من شرح وجهة نظري ولنصف للذين يساندونني في إزالة رؤوسهم عن أجسادهم أمّا بالاستعاضة أو الاستبدال.

في الليلة التي عقدتُ العزم على قطع رأسي من ُالدبر، هبت عاصفة عاتية ، نثرت محتويات المكتبة من الكتب والوثائق والمدونات ، أوقعت سنا دين نباتات الظل وتهشمت أباريق الشاي والتحفيات التي كان رأسي يلح ّ في شرائها من أسواق (الاورزدي بك) قبل أن تطال الأباريق المفخخة والعبوات الناسفة السيارات في محلات التحف .

نثرت العاصفة الهوجاء الأوراق في إرجاء المدينة ، توقفت المداهمات في تلك الليلة فلم يعتقل جن ولا أنس، لكن القوات خرجت من جحورها مثل سرب النمل والجراد ، وانتشرت في الطرقات والدرابين ، وعسكر جيش الاحتلال الأميركي قرب الباب ، تفرقت الكلاب البوليسية والقطط في الإحياء السكنية وبدأت تشمم الرؤوس من خلف الأبواب والنوافذ ، فرض حظر تجوال ، دقت صافرات الإنذار ، حضر المراسلون الإعلاميون بكاميراتهم ، توقفت الفضائيات عن بث الأغاني والأفلام ، وإعلانات الدعاية .

نثرت العاصفة أوراق القصة التي كتبتها قبل أن أقدم على قطع رأسي من الدبر، جاءتني الفكرة وأنا اقرأ تقريراً يشير إلى أن العنف في البلاد أدى إلى الهجرة ، وأن الجثث التي تقطع رؤوسها من الدبر أخذت في التصاعد بشكل يلفت نظر الكلاب السائبة .

طارت الأوراق قبل أن انهي القصة ، واختمها بعبارة إرشادية اضمن من ورائها جزاءً في الآخرة وشهرة في الدنيا : توقفوا عن الهجرة ، اقطعوا رؤوسكم من الدبر، ستمنون بالراحة والآلفة والمحبة ، وستنتهي طنيين المفخخات التي تحدث الشرخ في الرؤوس.

قال لي الضابط الأميركي إثناء التحقيق : لانملك أدلة على انك قمتي بعمل إرهابي ، لكن الأفكار التي اطلعنا عليها في الورق الطائر الينا ، أعطى لنا انطباعاً أن رأسك رأس إرهابي محترف ، سنتحفظ على أطلاق سراحه حتى نتيقن من انه أصبح رأساً وديعاً ، لايشكل خطراً على الأمن القومي لأمريكا العظمى ، ولا يهدد دول الجوار،أنتي ممنوعة من السفر طالما تحملين هذا الرأس.

 

كلشان البياتي
كاتبة وصحفية عراقية
Golshanalbayaty2005@yahoo.com

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

                                            السبت  /  12  ربيع الثاني 1429 هـ   ***   الموافق  19 / نيســـــــان / 2008 م