بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

الحرب على العراق بعد خمس سنوات .. العسكرية المنهكة لدفع اقتصاد متردي
بداية الانتحار على اسوار بغداد .. قراءة في الاهداف والنتائج الاقتصادية

 

 

 

 

شبكة المنصور

محمد لافي "الجبريني"

 

قبل خمس سنوات من الان واكثر، حفلت التعليقات والمبررات لفكرة غزو العراق بأهداف شتى، كان أبرزها على مستوى العالم حماية العالم من "طاغية" يمتلك من الاسلحة ما يمكنه أن يبيد مليون شخص في غضون عشرين دقيقة من لحظة اعطاء الامر، وتزيح الاولوية الدعائية اقليميا لنظرية "العدائية" التي شبت عليها بلاد الرافدين تجاه جيرانها الذين لم ينعموا بالسلم طوال عقود، بسبب وجودها بين ظهرانيهم. بين هذا وذاك وقفت الحقيقة المجتزئة على آراء الانتلجنسيا الغربية بأن الاهداف هي إقتصادية بالمقام الاول لإمبراطورية تكمن أسباب عظمتها في القوة التي تقطف الاقتصاد مع ما يتبع ذلك من تفرعات.


الشركة تقصي كوفي عنان

ومع تجاهل هؤلاء لكل النظريات الاخرى مبررين بإنحيازهم الطبيعي للمادية العلمية ذات الجوهر الاقتصادي البحت في زمن العولمة الشاملة، يثبت جزئيا ماذهبوا اليه بعد السنوات الخمسة للإحتلال الذي كان يحمل آمالا عريضة للنخب الاقتصادية في الغرب الموالي لأمريكا كليا وقد سال اللعاب للمكاسب. ففي الوقت الذي كانت المناقشات جارية فيه داخل مجلس أمن الأمم المتحدة حول إمكانية منع وقوع الحرب، خرج كوفي عنان بعد آخر تلك الجلسات وقد تفصد العرق عن جبينه وعلت وجهه ما يشبه الصفعة وهو يصرح بأن الحرب باتت أقرب من ان يمكن درئها، وهو الساعي لها طوال فترته الثانية وإن بدا انه تعرض لخديعة جانبية لم تسر وفق آماله، الامر الذي يمكن تفسيره بإنهماك واشنطن على هامش حشد التحالف ودق الطبول، بطرح المناقصات أمام الشركات الأميركية حول مشاريع إعادة إعمار عراق ما بعد الحرب.

فيما بعد تتكشف الامور أكثر فأكثر، عن كونه غزو تدميري كامل لحضارة العراق وليست مجرد حرب تغيير نظام، تسير بالقنابل الذكية والاقمار الصناعية والقدرات التجسسية، بعد أن ظهر للسطح أن عروض اعادة الاعمار -وإن كانت قد تركزت على الصناعتات النفطية المهترئة بعد 12 عاما من الحصار- قد شملت مختلف أشكال البنا التحتية و"الفوقية" وبدأت تطالب بعروض استثمار ضخمة تعني بناء حالات ونماذج انتاجية احتكارية امريكية وأسواق استهلاكية.

اختناق بأكسجين العراق

هذه الحالة لن تكون غريبة على الادارة الامبريالية الغربية التي تقودها امريكا في العصر الحديث، فالحال الذي انطبق على ألمانيا، إيطاليا، اليابان وعدد آخر من الدول الاقل أهمية بعد الحرب العالمية الثانية -التي شهدت دمارا شبه كلي إن بالقصف السجادي كما كان حال برلين وفولسبورغ، أو النووي كما كانت هيروشيما وناغازاكي- لم ينطبق حتى الان على العراق، بعد أن أثبتت الوقائع على الارض أن استعادة رأس المال المنفق على الحرب لم يتم حتى الان ناهيك عن الارباح، على عكس ماجرى بعد احتلال المانيا واليابان عقب عملية التدمير الشاملة، مما يعني بالضرورة خسائر وإنحدار ينعكس على الولايات الامريكية التي أثبتت يقينا عدم قدرتها على الصمود في وجه التردي طويل الامد مالم تجد له حلولا جراحية سريعة عبر القدرات العسكرية، بمعنى الهروب اكثر للأمام –القفز داخل المستنقع لأخذ نفس سريع وثم الغوص فيه أكثر- وهي حالة تذكر بالكساد والتضخم الكبير الذي ضرب الولايات الامريكية نهاية عشرينات القرن الماضي وما تبعه من دخول أمريكا للحرب ضد ألمانيا بجانب بريطانيا، فكما جاء في كتاب "الكساد الكبير، مبدأ اليد الخفية" فإن "مما هو جديد بالذكر فان الولايات المتحدة لم تستطع التغلب على البطالة وعلى تبعات الكساد بشكل كلى الا بعد ان دخلت الحرب العالمية الثانية ، بعد حادثة بيرل هاربر ،في السابع من ديسمبر عام 1941م... وهكذا استطاعت الولايات المتحدة التغلب على اكبر كارثة اقتصادية عالمية ، والنصر في اكبر حرب عالمية، لتصبح اكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم حتى الآن .."

تكبيل التاريخ بخيط من حرير

ومع علمها بتلك النتيجة ركزت واشنطن خططها أكثر بإتجاه الخطط الاستراتيجية طويلة الامد وقد وضعت نصب عينيها الاعتبار الرئيس بكون العراق صاحب ثاني اكبر احتياطي نفطي عالميا بمخزون يكفي لقرون من الان، تجلى في عقد إتفاقيات الصداقة، وزيارة ديك تشيني لتثبيتها ومحاولة تكريس فكرة ان العراق هو بلد مستقل حليف لمريكا للإستهلاك الامريكي والغربي بعد زيارة الرئيس الامريكي المحتمل ماكين، وما سبقه من اعلان المبادئ بين العراق المحتل وامريكا المحتلة لضمان ربط العراق بالاتفاقات مهما تغيرت الظروف وتقلبت الاحوال امريكيا او عراقيا او حتى دوليا، ومرة أخرى نستعيد ما بعد الحرب العالمية الثانية من اتفاقات مع اليابان والمانيا لا تزال مقيدة بها حتى يومنا هذا، مع الاتخلاف الجذري بين كلا المثالين مقارنة بالعراق العربي الذي يتجاوز النظرية الاقتصادية، الى نظرية صراع الحضارات.

وبذلك يمكن استيعاب الفكرة التاريخية التي سيطرت على الذهن السياسي الاقتصادي الامريكي بأنه لا بد من إزالة النظام القومي في العراق، الذي سيكون من العبث حصره فقط بالمسألة الاقتصادية، فرغم الضربة القاسية التي وجهها الرئيس صدام حسين بتأميم النفط العراقي 1972، فقد كان لذلك ما فهمته القوة الامبريالية الامريكية بإنعكاسه على باقي مناطق نفوذها القريبة، بالبعد القومي الواضح الذي تبناه العراق آنذاك، خصوصا من مسألة الصراع العربي الصهيوني، الامر الذي اتخم ملف العراق في دوائر القرار الاستراتيجي والاستخباراتي بخطط الغزو والتدمير، الى ان تحقق هذا الامر طوال 17 بدأت بالعدوان الثلاثيني عام 91 ولم تنتهي في التاسع من نيسان 2003 برفع العلم الامريكي على صورة الرئيس صدام في ساحة الفردوس "المفقود".

تبعثر الاوراق

بعد السنوات الخمس وجد الخبراء أخيرا ما يسخرون منه في الدعاية الامريكية التي راهنت على خفض أسعار النفط عالميا الى أقل من 15 دولار للبرميل بعد أن تتمكن من استخراج ستة ملايين برميل يوميا من الابار المدفونة في رمال العراق، لتستمر خيبتها مع حدوث النقيض بالارتفاع المطرد في الاسعار ليكلفها تضاعف اسعاره ثلاث مرات منذ الاحتلال الى تهديد وجودي ثان وربما أشد قسوة مما حصل في 1929بعد تصاعد مالم تصادفه بعد احتلالها لألمانيا واليابان، ألا وهو المقاومة العسكرية المنظمة عالية التدريب التي كان قد أهلها الرئيس الشهيد صدام حسين قبيل الغزو، لتقلب الطاولة على أمريكا وحلفائها، ماتجلى اخيرا بانفراط سلسلة الحلفاء حتى وصل البلل الى ذقن الحليف التاريخي –بريطانيا- التي ما عدات -حكومة وبرلمانا- تستطيع اخفاء أسفها وقلقها لما جرى ويجري من هذا الغزو وما انعكس عليها تحديدا، خاصة وأن خبرائها اكدوا أن البصرة احد اهم المدن الكبرى -يسيطر عليها الشيعة- المسالمة نسبيا منذ الاحتلال قد باتت مدينة فدائيين لا تقل عن مدن المثلث السني وفق التقسيمة الطائفية. بل والادهى هو الانتعاش الاقتصادي الذي تم لألد خصوم الولايات المتحدة(ايران، روسيا وفنزويلا) كما جاء في تقرير (أنتوني كرودسمان) الخبير الإستراتيجي الأميركي في مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية، وهو ما يدعم أكثر نظرية الحرب القادمة نحو احدى تلك الدول لإعادة عملية الانعاش ولو لزمن قصير للإقتصاد بعد تشغيل معامل الاسلحة اوليا، وثم شركات الانتاج، والانتظار أملا بإستجابة الدعاء بأن تتهيء الظروف أكثر للصيد الاكبر "صناعة النفط"، بعد الارقام الخيالية التي تكبدتها الخزائن الامريكية والتي رجحت التقارير أنها أكثر من 12 مليار شهريا، رغم التعتيم الذي تمارسه حكومة جوروج بوش على مصروفات الدفاع الذي لا يمكن اضطلاع الكونغرس عليه، مما يرجح ان يكون الرقم الحقيقي هو أضعاف هذا الرقم.

لا ضوء في نهاية النفق

الهدف الاولي لأمريكا "الصدمة والترويع" نجح جزئيا، لكن الى اي مدى يمكن لأمريكا ان تنجح فيما تسعى اليه، المستقبل يبدو مظلما بالنسبة لها وأكثر لحلفائها خاصة بعد ما اثبتته المقاومة العراقية، التي بات الرهان عليها أكثر جدية في هذه المرحلة التي ستدفع امريكا اكثر للإنزلاق في المستنقع مع حروب اخرى ستشعلها هذه المرة سيشارك فيها مباشرة حليفها الصغير "اسرائيل" لإنقاذ الحالة الاقتصادية من جانب وهدم اركان المعبد لإعادة الخلق الجديد، وما حالة التحريض على سوريا ومحاولة تحريض العرب على مقاطعة قمتها الا جزء من هذا المخطط الذي لا مكان فيه لأنصاف الحلول، وقد بات العالم أكثر ضيقا من ان يتسع لأكثر من عملاق يحكمه، ويمسي معنى الوجودية متلخصا بالتواجد على أكبر مساحة ومخزون اقتصادي في هذا الكون، مع تصاعد المنافسة وبدء ملامح مستقبل اقل وردية لأمريكا عطفا مستقبلها في "رقبة العالم" كما وصفها نابليون بونابرت التي يحكم العالم من يحكمها..

 

 

 

 

شبكة المنصور

                                         الاربعاء  /  12  ربيع الاول 1429 هـ   ***   الموافق  19 / أذار / 2008 م