الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

ساوم لا تقاوم
قصة صعود وسقوط حسن نصر الله

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

لعل من أسوأ ما يحصل عليه الثوري، في نهاية رحلة نضال طويلة، أن يجد نفسه يردد، مع محمد عبد الوهاب، "أنا من ضيّع بالأوهام عمره".

ولكن السيد حسن نصر الله ليس الوحيد في "عالمنا" النضالي العربي، الذي يجد نفسه مولعا بمحمد عبد الوهاب.

في الواقع، فـ"السيد" لن يفعل سوى أن يلتحق برهط طويل من كبار المناضلين الذين انتهوا يعدون نجوم الليل، بعد أن وجدوا انهم أنفسهم يطبخون الحصى لجيل آمن بهم وصَدّقهم ومشى وراءهم وضحى بالغالي والنفيس من أجل أن يحقق لهم رؤياهم، ولكنه لم يكسب منهم في النهاية إلا الذل والخسران.

كان من الطبيعي للثوري الذي ولد في اغسطس/آب 1960 في بلدة البازورية لأسرة فقيرة، أن يجد نفسه في صف أكثر تيارات الإسلام السياسي راديكالية في لبنان.

ومثل عشرات الآلاف من الشبان الشيعة الذين التفوا حول السيد موسى الصدر لـ"إنصاف المحرومين"، فقد التحق حسن عبد الكريم نصر الله بحركة "أمل". وفي بلدة كان يهيمن عليها راديكاليون من الصف الآخر (الشيوعيون خاصة)، فقد كان التحاق نصر الله بحركة "أمل" ينطوي على جواب لن يتضح معناه إلا بعد سنوات.

فالراديكالية الوطنية (والأممية) شيء. والراديكالية الطائفية شيء آخر.

الأولى فيها الكثير من الكونية المفتوحة، والكثير الوحدوية بقضايا المضطهدين بصرف النظر عن أوطانهم ودياناتهم.

أما الثانية، فشديدة الواقعية. فالطائفة هي في النهاية جسم مادي ملموس وقابل للحصر، وتسهل خدمته، كما يسهل رؤية نتائج تلك الخدمة. ولكن الثمن البديهي فيها هو أن حدودها حدود. لا وطنية جامعة فيها، ولا أممية مفتوحة، ولا قضايا كونية شاملة. قوقعة واقعية فقط.

ومن واقعية القوقعة تنشأ الحدود، داخل الوطني، بين الآنا والآخر. فيصبح "العدو" ليس ذلك الآخر الخارجي وحده (إسرائيل، الإمبريالية، الرجعية...الخ)، بل الآخر الداخلي أيضا (السني، الماروني، الدرزي، الشيوعي، القومي...الخ).

وهكذا، فبين راديكالية توحيدية بلا حدود، وأخرى طائفية واضحة الحدود، كان الخيار واضحا أمام الشاب نصر الله.

وعلى الرغم من أن حركة "أمل" كانت هي نفسها ردا راديكاليا على الإسلام السياسي الشيعي التقليدي في لبنان، إلا أنها بعد سنوات من تولي زعيمها نبيه بري لرئاسة البرلمان، تحولت الى قوة تنهل من التقليدية ذاتها لطائفة الفقر والحرمان في جنوب لبنان.

بعد انقسام حركة "أمل" في أعقاب غزو إسرائيل للبنان عام 1982 برز "حزب الله" كقوة بديلة تراهن على المقاومة المسلحة لا على "النشاط" البرلماني. ولكن ذلك لم يمنع الحزب من خوض الانتخابات إبتداء من عام 1995 ليحصد مواقع سياسية وبرلمانية ظلت تتعزز بإستمرار.

المفارقة الأهم هنا، هي أن هذه المواقع لم تتعزز مع "صعود تيار المقاومة"، بل مع "نزولها" من "مقاومة وطنية" يشارك فيها جميع الوطنيين اللبنانيين الى مقاومة يحتكرها حزب الطائفة الأكثر راديكالية لنفسه، ويرهن أمجادها به وحده، ويتفاخر بها كشيء خاص بـ"المحرومين" وحدهم، وأبعد ما يكون عن الوطنية وعن معانيها التوحيدية الجامعة.

لم يكن تولي الشاب نصر الله لقيادة الحزب خلفا لعباس الموسوي عام 1992 هو لحظة القمة في مسيرة صعوده الخاص. فالشاب القادم من مدارس قم ظل زاهدا بالمناصب السياسية، ولكنه ظل يمثل الوجه الأكثر إيرانية في حزب تتحول إرتباطاته بالحرس الثوري الإيراني الى عقيدة أمنية وسياسية لا تشكل "ولاية الفقية" فيها إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد.

لحظتان كبيرتان جسدتا قمة صعود السيد حسن نصر الله، وحددتا ملامح شخصيته البطولية.

الأولى، عندما أستشهد إبنه الأكبر محمد هادي عام 1997 خلال مواجهة شرسة مع قوات الإحتلال الإسرائيلي في منطقة "جبل الرفيع" جنوب لبنان.

قبل سماع النبأ كان السيد نصر الله يعد للقاء مع أسر الشهداء. وكان الظن أنه، بعد سماع النبأ، لن يأتي الى ذلك اللقاء لكي لا يبدو الحزن على ملامحه. ولكنه جاء، وبدأ كلمته بالقول: "اليوم صار بوسعي أن أرفع عيني الى عيونكم". وكان في هذا القول من التواضع وبلاغة المعنى ما جعله يكسب حبا لم يكسبه أي زعيم لبناني آخر في طائفته. وكان ذلك كافيا ليكشف عن مواهب رجل يعرف كيف يوظّف البلاغة في إطارها التحريضي المناسب. فيكسب منها، بمقدار ما يعزز بها الدوافع النضالية لحركته.

اما اللحظة الثانية، فكانت عندما خاض حرب صيف عام 2006. حيث اجتمع التواضع والصدق والبلاغة والشراسة القتالية كما لم تجتمع عناصرها من قبل.

وعلى الرغم من أن نصر الله شعر، حيال الدمار الهائل، انه أخطأ قائلا انه لو كان يعرف ماذا سيحصل لما دفع مقاتليه ليشنوا عملية خطف الجنديين الإسرائيليين التي حرضت على إندلاع الحرب. ولكنه، في المقابل، خاض معركته ضد إسرائيل بالشراسة نفسها. وكأي مقاتل حقيقي، لم يرف له جفن، لا في توجيه الصواريخ الى إسرائيل، ولا في تقديم التضحيات.

هذا النوع من المقاتلين لم تعرفه إسرائيل من قبل في كل حروبها السابقة. فالقادة العرب قد "يتعنطزون" بالشجاعة، ولكن رُكبهم تنحل ساعة المواجهة، ويبدأون بتعداد الخسائر، فيكتبون هزيمتهم بخوفهم.
نصر الله أثبت انه لا يخشى العواقب، مهما بلغت من الحماقة.

هذه الروحية هي التي أكسبت نصر الله كل أمجاد التقديس في عيون أمة بلغ بها العطش للموقف الصلب حدا يبست فيه المآقي والعروق وتفطرت الشفاه.

ولكن نصر الله ظل وفيا لراديكاليته الخاصة، الطائفية من جهة، والإيرانية الهوى من جهة أخرى.
وكان ذلك هو فخ المخدوعين ببطولته. فالمقاومة الشيعية اللبنانية ليست على أي حال، مقاومة بلا حدود. ومثلما كانت حكرا على "المحرمين"، فان تطلعاتها السياسية لن تخرج كثيرا عن حدود القوقعة.

المفارقة التراجيدية التي ستحدد مصير نصر الله هي أن بطولته التي دفعته لتبني خطاب ثوري شامل للتحرير هي نفسها التي ستقتله في النهاية. فايران التي زودته بالفقه والصواريخ، ليست على ذلك المزاج الذي يسمح لها بتبني خيارات صدامية شمولية وبلا حدود، لا ضد الصهيونية ولا ضد الشيطان الأكبر. وتبعا لذلك، فهي تعرف كيف ولمن تبيع الشعارات، كما تعرف كيف ولمن تبيع التواطؤات.

"الرجل الصادق" (نصر الله) قد يجد نفسه اليوم يتعثر بصدقه، إلا أن بطولته التي بدت بلا حدود صار يجب أن تعود الى "قواعدها سالمة" داخل المشروع الطائفي، ولخدمة المشروع الإيراني. وهراء كل ما عدا ذلك.
وبينما تتواطأ إيران مع الشيطان الأكبر على تقاسم حصص النفوذ في العراق، وتذبح المقاومة ضد الإحتلال الأميركي، فان عنتريات المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل ستكون أول ما يجب التخلي عنه. ومع تحول التواطؤ الى شراكة مع الإمبريالية والى إستعداد للتعايش مع الصهيونية، فان المقاومة الشيعية اللبنانية، بكل ما جلبت من "صدق" و"بطولات" ستعود لتكون من لزوم ما لا يلزم.

طبعا، يمكن للإيرانيين أن يزعموا إن هدفهم من التواطؤ مع المشروع الإمبريالي والصهيوني (في العراق والمنطقة) هو لحماية الثورة الإيرانية. ولكنهم يراهنون بهذا الزعم على أن أحدا لن يسأل: بأي منطق تحمي الثورة الإيرانية نفسها بجلب الغزاة الى جوارها، وبمساعدتهم على تحويل العراق الى قاعدة عسكرية؟

الجواب الأول قد يصل الى القول،... إلا إذا كانت ثورة دعارة بالشعارات؛ وإلا إذا كانت ثورة نفاق ودجل قميء.

ولكنه هذا الجواب، على صحته، مخادع. فالطائفية لا تقاوم. قد ترفع شعارات من أجل أن تستجلب الدعم والمساندة، إلا أن كل ما يعنيها من القوقعة هو القوقعة نفسها. تلك هي حدودها القصوى.

ثورويات وشعارات كثيرة قد تندلع في الطريق، وخلال المواجهة، إلا أن المساومة والتواطؤ والتسويات لحماية الطائفة (و"الثورة") هي المبتغى النهائي الوحيد. وهذا المبتغى، بحدوده المغلقة، لا يمكنه (بسبب من طبيعته بالذات) أن يظل مفتوحا على مقاومة شاملة وبلا حدود وذات تطلعات كونية.
الإمبريالية مشروع كوني. وفي الحد الأدنى، فان مقاومتها يجب أن تكون مشروعا وطنيا شاملا، إن لم تكن مشروعا كونيا أيضا.

نقاط الصدام بين المشروع الكوني والمشروع الطائفي محدودة عادة، وقابلة لتقديم التسويات. ولهذا السبب لا يقدر الطائفيون على مشروع المقاومة بمعناها الشامل، مهما بلغوا من الثورة.

وعلى أرض الواقع، فان التسويات هي ما يحصل بين الإمبريالية وطائفييها في العراق. وهي ما يمكن أن يحصل بين المشروع الصهيوني وطائفييه في لبنان، بمن فيهم حزب "المحرومين" الشيعة نفسه.
"خذ حصتك وأمش"، واترك لنا الباقي. ذلك هو المبدأ.

والطائفيون قد يُعادون الآخر الأجنبي مؤقتا، إذا هدد مصالحهم، إلا أنهم لا يُعادونه الى النهاية عندما يضمنون منه حصتهم من اللعبة.

وفي داخل اللعبة فان عدوهم الوحيد الدائم هو "العدو" الداخلي (السُنّة، العرب، الأكراد، المسيحيون، الشيوعيون، القوميون،... الخ).

وهذا بالضبط، هو ما يجعل حزب الله "يقاوم" في لبنان، بينما إيران وعملاؤها يعملون في خدمة الإحتلال في العراق، ويذبحون المقاومة.

من هذه النهاية الإنتهازية لسياسات الدجل الإيراني تأتي نهاية حزب الله. ومن هذا المرتفع المزيف للبطولة سوف يسقط نصر الله على رأسه. وسيبدو الصادق المتواضع مخدوعا بصدقه وتواضعه بالذات.

لقد نصب السيد حسن نصر الله لنا فخّا يزعم مقاومة شاملة، لا تكتفي بحيفا ولا "بما بعد حيفا"، ولا حتى بما "بعد بعد حيفا". ولكنه سيتعثر ويقع في فخه بالذات. وسيعرف ان حدوده لن تذهب أبعد من مزارع شبعا.

وعندما يقول له "وليّه الفقيه"، ساوم لا تقاوم، ساعتها لن يكون كثيرا عليه أن يردد مع محمد عبد الوهاب: "أنا من ضيّع في الأوهام إبنه".

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

السبت /  23  رجــــب  1429 هـ

***

 الموافق   26  /  تمــوز / 2008 م