الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

حقوق الإنسان وعقدة التفوق الغربي

 

 

شبكة المنصور

الأستاذ الحبيب اليزيدي

 

"بكل تأكيد ليس لحقوق الإنسان حظً"

حقيقة نعلمها من خلال صراعنا المرير مع الغرب الاستعماري. وليس من الغرابة في شيء أن يؤكد الكثير من الكتاب الغربيين بكل صرامة هذه الحقيقة بالاعتماد على ما توصلوا إليه في أبحاثهم ومن خلال ما أقرته مجموعة من أشهر الباحثين في هذا الميدان. يأتي هذا التأكيد بعد مرور قرنين على أول إعلان لحقوق الإنسان وأكثر من نصف قرن على الإعلان العالمي الشهير. إن ما يميز هذا الإقرار الصراحة والجرأة المدهشتان من قبل الباحثين الغربيين أنفسهم إذ يتجهون فورا إلى مراجعة عناصر منظومتهم الفكرية والسياسية موضع السؤال. لقد كانت المفاجئة مدهشة بالنسبة للغرب وبنفس الدرجة من الألم كانت الصدمة وخيبة الأمل. والغريب أن الفارق الزمني بين الحالتين لم يتجاوز السنة الواحدة.

الحالة الأولى بدأت في صيف وخريف 1980 من خلال نجاح الحركة البولونية في إعادة الزهو للغرب وتأكيد تفوقه وإبداعه، والحالة الثانية في ديسمبر 1981 بعد فشل حركة تضامن وبالتالي الحركة البولونية التي أعطت شعورا متزايدا بالمرارة.

هل يمكن اعتبار حقوق الإنسان سياسة؟ هو السؤال المحوري في الحالتين. لقد جاءت الإجابة فورية حيث ارتسمت معالم عودة شاملة إلى مبادئ حقوق الإنسان التي تمكنت الإيديولوجية الماركسية من طمسها ونزع كل قيمة عنها لمدة قرن. إن الإجماع الحاصل حول نجاح الحركة البولونية أقر شرعية التمشي التحرري والمطلبي بالاعتماد على مبدأ حقوق الإنسان كمرجع ومكون مركزي أساسي. هذا التمشي ذاته ساهم بدرجة عالية من النجاعة والفاعلية في نزع الشرعية والقيمة عن الاعتقاد في النقد الماركسي لهذه الحقوق باعتبارها مجرد خيال صوري موجه لضمان وتغطية حقائق الاستغلال الرأسمالي وهو ما يستهدف مباشرة مبادئ 1789 ويحيلها إلى موضوع سخرية مقيتة ومهينة.

إن عودة الإجماع حول حقوق الإنسان يؤكد شرعية الاعتقاد – دائما ضد قراءة ماركس لإعلان المبادئ- في أن الخطاب السياسي الغربي القائم على هذه المبادئ لا يجب أن يكون خاصا بالمجتمع البرجوازي على اعتبار أن هذه الحقوق تبدو مؤسسة فعلا للفضاء الاجتماعي الديمقراطي.

هكذا يعود لنصوص الإعلان عن الحقوق شبابه وإلى توجهه الأولي الأساسي والمتمثل في الدفاع عن الفرد ضد الدولة. في هذا الإطار يتحدد المدى الفعلي للممارسة المضادة للكليانية ويجعل من حقوق الإنسان الإطار المرجعي الوحيد للفعل والممارسة الديمقراطية.

إن انهيار مشروع المجتمع الاشتراكي بعد مرور قرن ونصف على بروز الحركة العمالية اعتبر بمثابة الانهيار للنموذج المرجعي برمته وهو ما غذى الاعتقاد لدى الغرب برسوخ مبادئ 1789 النبيلة واعتبارها الدليل الجاهز والمتفوق على الكليانية. ونتيجة ذلك اعتبار حقوق الإنسان المقدمة من خلال النموذج الليبرالي الغربي الحاجز الشرعي الناجع أمام ذوبان المجتمع في الدولة والضامن للحرية والديمقراطية والمجتمع المتقدم. يقود هذا التحليل في النهاية إلى الإقرار بشرعية حقوق الإنسان كأساس للفعل والممارسة السياسية.

هذه المقاربة التي بلغت أوجها خلال سنة 1980 بالاعتماد على حركة تضامن البولونية كمثال والتي رسخت الاعتقاد في إمكانية إعادة بناء الاستقلالية الاجتماعية من خلال العودة إلى حقوق الإنسان تعود بعد سنة إلى درجة الصفر. بذلك يطرح السؤال من جديد: أليس من الأجدر مراجعة هذه المقاربة إثر خيبة الإنتظارات التي أثارتها حركات البحث عن حقوق جديدة؟

بهذا السؤال يقع الإعلان عن العودة من جديد لنقد خطاب حقوق الإنسان والرجوع إلى كتاب ماركس المسألة اليهودية الذي يثير الكثير من النقاش حول عدم نجاعة هذا الخطاب في بناء المجتمع وتنظيمه على أساس فكرة بالغة التجريد للإنسان وحقوقه.

إن التصور التجريدي لحقوق الإنسان يحيل أي إمكانية لمد الجسور مع السياسة أو تجاوز الحركة الاحتجاجية والتأسيس للممارسة السياسية إلى مجرد وهم. هذا يؤدي بنا إلى الإقرار بأن حقوق الإنسان، التي يتم استغلالها من منظور فردي، ولا سياسي، ليست سوى وسيلة بيد المواطن المعاصر السلبي لتوجيه احتجاجه ضد الدولة وبالتالي إقامة حدود فاصله أمام إمكانية النفاذ بالفكر إلى المجتمع ومؤسساته وقيمه. أي خلاصة القول بعبارة أخرى أن حدود الاعتماد على حقوق الإنسان كمرجعية تتمثل فقط في معارضة أو مواجهة الدولة بجملة من المطالب وليس في الممارسة والإبداع السياسي.

يدعونا القصور الذي ينطوي عليه هذا التجريد إلى نبذ الأفكار الكانطية التي تذكرنا دائما بأن "القليل من الإنسانية المجردة ضروري للتفكير في حقوق الإنسان". في حين يؤكد التحليل أن التصور التجريدي أو المجرد لحقوق الإنسان يمنحه عالمية تخرجه من التاريخ وتحيله إلى أعراض كونية مجردة عاجزة عن النفاذ إلى كثافة وتعقيدات الواقع.

انطلاقا من هذا التأكيد النظري العقيم للمبادئ العالمية يجب أن يتحول النقاش من جديد إلى إعادة النظر في المفاهيم وإلى التحديدات القديمة وخاصة تحديد "النحن" (المركزية) الأوروبية وإلى مضمون ومحتوى التوجهات التي يمكن أن توحي بها المجتمعات الديمقراطية أن مبدأ الاعتماد على الفرد كمنطلق والنزعة اللاسياسية التي تحيلنا عليها حقوق الإنسان تؤكد قصورها وعجزها وترسخ لدينا القول بأن هذه الحقوق لا يمكن أن تكون أساسا للممارسة السياسية.

إن اعتبار حقوق الإنسان بديلا جديدا عن الكليانية وأنها الموضوع الشرعي الناجع ضد ذوبان المجتمع في الدولة لا يعني مطلقا تجاوز مشكلة تحرر المجتمع من تهديد الكليانية (الشمولية). ببساطة لأن تقديم حقوق الإنسان بهذا الشكل يعود بنا بطريقة غير مباشرة إلى إضفاء الشرعية على النظام الغربي القائم. من هذا المنطلق يترسخ لدينا الاعتقاد بأن زوال الفاشية وانحلال الاشتراكية يعني الانتهاء من كل المشاكل. في حين يؤكد الواقع أن المشاكل لم تطرح بعد وخاصة مواضيع العدالة والمساواة والاغتراب، أي بعبارة أخرى المشكل الذي يؤرق البشرية والمتعلق بمجتمع العدالة والمساواة والحرية لا زال قائما.

تعود بنا المقاربة القائمة على هذا التصور إلى طرح السؤال حول الجدل القائم عن العلاقة بين حقوق الإنسان والجذور التاريخية الفردانية النابعة من القانون الطبيعي الحديث والجهد المستمر والمتواصل لبناء المجموعة انطلاقا من الفرد وبالاعتماد عليه وهو ما يجعلنا معرضين تحديدا إلى مواجهة صعوبات جدية وحقيقية بمجرد ولوجنا إلى المشكل السياسي المتعلق أساسا بكيفية تنظيم المجموعة وبالتالي الخلط بين حقوق الإنسان والسياسة.

يحيلنا هذا التحليل في الواقع على القصور الذي تتضمنه هذه المقاربة من خلال عجزها عن الولوج الى تعقيدات الواقع. وهو ما يدفعنا بإلحاح إلى مراجعة جملة المفاهيم المؤسسة للمجتمعات الديمقراطية الغربية كالديمقراطية والحرية وعلاقة المجتمع بالدولة واختلاف مرجعيات النموذج الليبرالي الغربي كونستان وتوكفيل إلى هيجل وصولا إلى الليبراليين الجدد ثم أخيرا الجدل القائم حول دور الممارسة والعقل في تنظيم المجموعة.

تزداد ضرورة المراجعة حدة وإلحاحا إذا تجاوزنا الإطار النظري المفترض لتحقق هذا النموذج بكل مفاهيمه باعتباره الأكثر ملائمة عقليا وذهنيا وأكثر استعدادا تاريخيا للتقبل. فمنذ العدوان على العراق في 1991 فالحرب على يوغوسلافيا وصولا إلى احتلال أفغانستان ثم بغداد في 2003 إضافة إلى الانهيارات المتتالية ابتداء من انحلال الاتحاد السوفيتي إلى حالة الفراغ والصراع في إفريقيا والمآزق الاقتصادية والسياسية في بلدان شرق آسيا وصولا إلى الحالة العربية المتردية في التبعية الهيكلية للنموذج الليبرالي الغربي كلها عناصر لموضوع واحد: مأزق النموذج الليبرالي الغربي على المستويبن الاقتصادي والسياسي رغم محاولة التستر بوهم إيديولوجية التفوق الكاذبة اثر انهيار المنظومة الاشتراكية والسوفيتية تحديدا.

إن الربط الآلي بين مفهوم حقوق الإنسان وإيديولوجية التفوق عند الساسة الغربيين يجعل منه ألف باء التحليل لمشاكل العالم وحلولها يزيد هذا الربط مفهوم حقوق الإنسان إيغالا في التجريدية والإطلاقية في الأحكام وكيفية طرح الإشكاليات، ويجعل منه بالفعل مفهوما خارج التاريخ رغم اعتماده كغطاء إيديولوجي في إدارة الصراع في حلبة إرادة الهيمنة والمقاومة.

إن مأزق النموذج الليبرالي الغربي إزاء حالة الفراغ في العالم بعد انفراط التوازن العالمي إضافة إلى توزع مصادر القوة ووسائل الرعب في نقاط عديدة من العالم كلها عوامل توحي بخطورة الانهيار الشامل نتيجة الانهيارات الاقتصادية والسياسية والثقافية المتلاحقة والمتتالية، ولكن بقدر ما يوحي هذا الوضع بالدمار الذي يمكن أن يحيق بالبشرية فإنه يؤذن بتغيرات جذرية وشاملة وبميلاد توازنات عالمية جديدة.

على هذا المستوى من التحليل – أي المستوى العالمي – تتضخم قائمة المفاهيم المفترض مراجعتها كالشرعية الدولية ودور الهيئات والمنضمات الدولية والنماذج التنموية التي ظهر عجزها على مواجهة التحديات العاصفة في السنوات الأخيرة.

إن تكريس نموذج أرقى و أشمل لحقوق الإنسان يستوجب منا تحليلا معمقا لكل المستويات والتناقضات المجتمعية والعلاقات والتوازنات الدولية بين مختلف الشعوب لتحديد وإبراز النواقص في مستوى هيكلة وبناء النماذج ذاتها والمتضمنة فعلا لعوامل الخلل في ممارسة وتكريس هذه الحقوق.

إنه من باب المهازل في بداية القرن الواحد والعشرين أن تقدم حقوق الإنسان بهذا الشكل التجريدي المطلق الذي ينطوي على الكثير من المغالطات والظلم، إذ ليس من المعقول أو المقبول الاستمرار في تقديم النموذج الليبرالي الغربي بصفة التفوق والتطور وبمثل هذه المركزية والنرجسية المتعالية، في حين يقر أغلبية الباحثين والدارسين النزهاء من الغربيين أنفسهم بإفلاس نظامهم الاقتصادي العاجز عن التحكم في ارتفاع نسب البطالة والتضخم و انهيار القيم رغم سلسلة القمم الاقتصادية التي لا تكاد تنقطع. أليس من المحزن أن لا نلاحظ الجانب المضحك لعجز الحكام عن الإيفاء بوعودهم والخروج من النفق.

إن هذا النموذج لا يستطيع الاستمرار والتقدم والتطور إلا من خلال تصدير التضخم والتلوث ونهب ثروات الشعوب – حيث يعيش 6% من أغنياء العالم كل أنواع البذخ والاستهلاك المفرط وتكبت رغبة سائر الشعوب في الحياة الكريمة – يواجه عجزه بتصدير الحروب والأزمات تحت غطاء حقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الإرهاب ويفرض على البشرية ضرورة خوض الحرب غير مدرك أنها ستكون حربا من نوع مختلف.
إن الحرب التي ارتسمت معالمها في نهاية القرن العشرين وتتكرس في بداية هذا القرن ليست حرب أمريكا أو أوربا، بل هي حرب الرأسمالية على القيم والمبادئ والأطر المؤسسة للمفاهيم والتنظيم والعلاقات في إطار النظام العالمي الجديد الذي لن يكون أمريكيا في كل الأحوال.

أليس من المخجل حقا أن يستمر حكامنا وسياسيونا الأجلاء في التشبث بالنموذج الغربي والاعتقاد في تفوقه وقد تجلى مأزقه الأخلاقي إضافة لمآزقه المعلومة ورغم غرقه في مستنقع الهزيمة المذلة في العراق وأفغانستان وفلسطين...

ولكن الأكيد لدينا أن الشعوب التي أصبحت محاصرة في قوتها ومهددة في وجودها ومهما طال سباتها لن تقنع طويلا بهذه المرجعية ولن ترضى بالخطاب الأجوف عن حقوق الإنسان والديمقراطية بديلا عن انتظاراتها الفعلية. ولن تجد أمامها من سبيل غير المقاومة كوسيلة جدية وحقيقية لتغيير المفاهيم والقيم والنظم والعلاقات الجائرة.

 

تونس/ تموز 2008

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الخميس /  14  رجــــب  1429 هـ

***

 الموافق   17  /  تمــوز / 2008 م