الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

العراق وفلسطين معركة واحدة من أجل الحرية

 

 

شبكة المنصور

د. عامر عفلق / كاتب عربي من سورية مقيم في فرنسا

 

بعضُ الأحداث تأتي ناصعةً فتُفصح سريعاً عن طبيعتها وتشع بضوءٍ ينير ما يحيطها في الزمان والمكان، وتساعد علي تسمية الأشياء بأسمائها وعلي إزالة الشوائب والأوهام والاختلاطات. وهذا ما ينطبق علي بعض ما يدور في الأوضاع العربية الراهنة.

حيث تكفي نظرةٌ بسيطة، ولكن متجردة، إلي هذه الأوضاع المليئة بآلام العجز، لنتلمس حقيقةً جليّة، متعددة الأبعاد، وهي أن أكثر الأقطار العربية تعيش في حالة اضطرابٍ وضعفٍ وضياع، وأن الجماهير العربية مبعَدة عن الحياة السياسية، مكبّلةٌ في أوضاعها المعيشية وغير راضية عن أحوالٍ لاتملك هي مقدّراتها، وأن هناك هجمة شاملة وجذرية تستهدف الأمة العربية بأجمعها، حتي حين تركز مؤامراتها وأسلحتها، وهي ليست بالعسكرية فقط، علي جزءٍ من الوطن العربي.

حقيقة حالة الضعف العربي والتبلبل هذه، والتي تؤدي إلي النقص في مواجهة التحديات الكبري، تتجلي في أحداثٍ عديدة، نذكر منها ما دار في الفترة الأخيرة. فموقف الضعف والابتعاد عن مصلحة الجماهير والأمة يبدو واضحاً في تصرفات ثلاث زعماء عرب، وهم الملك السعودي والرئيسان المصري والفلسطيني، عندما يقوم كل منهم تحت ستار سياسةٍ دبلوماسيةٍ خادعة، باستقبال الرئيس الأمريكي بوش في اليوم التالي من تأكيده في شهر أيار، في ذكري إقامة الكيان الإسرائيلي، أن هذا الكيان هو بلد الشعب المختار وأنه في حالة الحرب، لا يتكوّن من سبعة ملايين بل من ثلاثمائة وسبعة ملايين، لأن أمريكا إلي جانبه ، أي انه جزء لا يتجزأ من أمريكا المتعجرفة ومن مصالحها في المنطقة العربية.

هذا الضعف، الممزوج بضياع الإرادة وتفكك الشخصية العربية، يتجلي أيضاً في غياب الرد المتكافئ علي التجرؤ في التزوير والاستهجان بالعرب. فالرئيس الفرنسي سركوزي يسمح لنفسه، وهو الداعي لما يسمّي بالإتحاد من أجل المتوسط، بالتأكيد في بداية شهر أيار في تونس أمام طلبة المعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، أي أمام الجيل الذي يجب أن يتحلي بالتنور والإباء، أن فرنسا لا تتساهل مع أمن إسرائيل، لأنه كان هناك الشوُهة ـ أي اضطهاد اليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية ـ ولأنه كان هناك تاريخ القرن العشرين... . وكأن العرب وليس الألمان والفرنسيون وغيرهم من الأوروبيين هم اللذين قاموا بهذا الاضطهاد، وكأن فلسطين والأمة العربية ليست هي الضحية لأبشع ظلمٍ إنسانيٍ، شمل اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وجذوره وارتكاب المجازر والإرهاب ضده.

بل أن الرئيس الفرنسي، وهو المأخوذ شخصياً بالسياسة الأمريكية، يذهب بعيداً في الاستهانة بكل القيم الحضارية وحقائق التطور التاريخي والإنساني، حين يكرر أثناء زيارته الأخيرة في شهر حزيران للكيان الصهيوني، أن هذا الكيان يمثل واحدة من أكثر ديمقراطيات العالم أصالة ، وأن اليهود بعد ألفي عام قضوها في الهجرة ... لهم الحق أن يعيشوا بأمان في هذا الكيان.

هذا الكلام متطابق حرفياً مع ما يردده ويعمل بموجبه المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية البائدة وكنيستهم المتصهينة والغريبة عن المسيحية، وهو يعني تبرير قيام الكيان الصهيوني في وسط العالم العربي علي أساس دينيٍ عنصريٍ فوقي، ويعني جرّ كل اليهود إلي هذه المشاعر السلبية وتوريطهم في اتجاه مشوّه ومعاكس للإنسانية، لا يمكن أن يؤدي إلا إلي حالات التحدي والحروب والتعطيل الحضاري. بعضُ العرب خُدعوا بتصريحات الرئيس الفرنسي المعسولة عن تأييده لقيام دولة فلسطينية إلي جانب إسرائيل، رغم أنه يؤكد أن ذلك يجب أن يتم وفق شروط ومعايير معينة، تبدو غير بريئة، ومنها حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفق متطلبات احترام شخصية ودعوة إسرائيل .

فماذا ستكون هذه الدولة التي تُعطي من الخارج، من أيدٍ متكاتفة مع الكيان الصهيوني، غير حالة إذلالٍ كبير في قطع أرضٍ صغيرة مبعثرة بين مستوطنات طفيلية، أو الحالة المفروضة حالياً علي قطاع غزّة، حيث الحصار الخانق والتجويع وحروب الإبادة! وماذا ستكون غير تجسيد إضافي لتمزيق الوطن العربي !

فدولة فلسطين كان يجب أن تقوم علي أرض فلسطين منذ اليوم الأول، وأن تكون رمزاً للحرية والنهوض العربي. لكن حالة الضعف السياسي، والتي تستمر إلي اليوم بخاصة من خلال تباعد القيادات السياسية الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني، وحالة الاستغلال والتلاعب التي مارستها وتمارسها بعض الأنظمة العربية بهذه القضية، هاتان الحالتان لم تواجِهِا بالقرار التاريخي المطلوب منذ البدء بإعلان دولة فلسطين وتجسيدها بالعمل والنضال والدفاع عنها وعن معانيها. هذا القرار الذي يحتاج بالتأكيد للقيادة الشجاعة وللجرأة المشابهة لقرار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في عام 1956 أو لقرار القائد العربي الشهيد صدام حسين بتأميم نفط العراق في عام 1972 أو لوقفته البطولية الخالدة أمام مشنقة المحتل المجرم معلياً كلمة الله والإيمان الثابت بنصر الأمة العربية وفلسطين.

ولأن القوي المعادية للأمة العربية تعرف جيداً ماذا تعنيه نهضة هذه الأمة، وماذا يعنيه بروز القادة المخلصين الجريئين العاملين في سبيل بلادهم وتقدم أمتهم، وماذا يعنيه توحيد النضال العربي، فإن هذه القوي، وهي ليست فقط خارجية أجنبية بل موجودة في داخل الأنظمة العربية وداخل المجتمع العربي، تعمل كل ما في وسعها من أجل إبقاء الأمة العربية في حالة عجزٍ شامل وتأخر وفرقة، وتقوم بمواجهة أي مشروعٍ نهضويٍ أو تفاعل وحدوي بكل الوسائل، سواء بوسائل داخلية عبر تحريك بؤرٍ سلبية مثل الفروق الطائفية أو المصالح الفئوية أو الروح الانتهازية، أو بوسائل خارجية عبر مؤامراتٍ سياسية أو حروب مباشرة أو حروب بالنيابة.

فضمن إطار هذه الحقائق يمكن أن يتم فهم المعطيات الراهنة التالية :

ــ ما يتعرض له اليمن والسودان، من تحريك بدعم خارجي لفئات محلية علي أساس ديني أو عنصري.

ــ ما يحدث في لبنان، عندما تُستغل قضاياه وقضية فلسطين ومشاعر الإسلام في توازنات مؤذية تمتد حتي إيران.

ــ وجود مئات الألوف من الجيوش الأمريكية والاستعمارية والقواعد العملاقة في الخليج العربي، والسعي لإقامة خمسين قاعدة عسكرية في العراق المحتل.

ــ تفاقم التدخل الأجنبي في صلب الحياة السياسية العربية، للموافقة أو عدم الموافقة علي تعيين الوزراء أو علي انعقاد اللقاءات والمؤتمرات.

ــ ضعف التعاون والتكاتف العربي، عندما لا تتوجه دول الخليج العربي التي تحتاج إلي عناصر التوازن المتطور إلي استخدام هذه العناصر من واسع الكفاءات البشرية والإمكانيات المحيطة بها من مصر والأردن وسورية والعراق واليمن، وعندما لا تشعر تلك الدول بواجب تقديم العون إلي مصر، عندما تخرج جماهيرها الفقيرة إلي الشارع متألمة ثائرة مقموعة بسبب فقدان الخبز، علماً أن دول الخليج النفطية تحقق اغتناءً هائلاً هذا العام يقدر بأكثر من ألف مليار دولار نتيجة تضاعف أسعار النفط بأكثر من ست مرات عمّا كانت عليه قبل حرب تدمير واحتلال العراق.

علي أن مشروع احتلال العراق، بعد حروبٍ متعددة وشرسة عليه وحصارٍ استمر ثلاثة عشر عاماً، يبقي التعبير الأوضح لحقيقة مخططات القوي المعادية ولحقيقة العجز العربي. فبعد مرور خمس سنوات دامية علي هذا الاحتلال الذي ساهمت فيه أضخم الإمكانيات الامبريالية بزعامة أمريكا والتسهيلات من بعض الأنظمة العربية ومن إيران، وبعد انقشاع مرحلة الكذب والصخب، لم يعد هناك مجال لتغطية الأهداف الفعلية لهذا الاحتلال المجرم والفريد في العصر الحديث، والتي تشمل:

ــ تفتيت دولة العراق وإقامة كيانات علي أسس دينية وقومية غير إنسانية متقوقعة، تكون مرجعاً لظواهر مماثلة في أجزاءٍ أخري من الوطن العربي وحمايةً لكيان إسرائيل العنصري.

ــ هدم شخصية العراق القوي العربي وإزالة التجربة النهضوية التي أراد بناءها البعث لينقذ هذا القطر من المؤامرات التاريخية عليه وليحوّل إمكانياته الضخمة إلي طاقات علميّة وقوة صناعيّة وثروةٍ إنسانية تُستثمر في تكوين حياة جديدة مزدهرة وعطاء حضاري متطور.

ــ إلغاء العراق المؤمن بالأمة والمتوجه نحو الوحدة العربية والداعم لتحرير فلسطين.

ــ إعادة وضع اليد علي النفط العراقي المؤمم وإقامة القواعد العسكرية الحامية لمصالح أمريكا والدول الامبريالية في المنطقة.

ــ ضرب كل توجهٍ ثوريٍ نهضوي استراتيجي في الوطن العربي.

ــ إرهاب الأمة العربية من خلال الهجمة علي العراق والمنطقة.

لكن طبـــيعة الجواب الذي فجرته الجماهير المقاتلة في العراق منذ نيسان (أبريل) عام 2003، وبالتأكيد بتخطيط كبير من حكم البعث، لمواجهة فصول مشروع الاحتلال وأساليبه، يُظهر أن معركة التحرير قد خَلقت طريقها السليم والمنتصر، وذلك لأسباب عديدة، منها:

ــ أن هذه المعركة استطاعت تجميع كافة فئات الشعب علي رؤية حقيقة المحتل وأهدافه. فشعاراته عن الديمقراطية وتغيير النظام وغيره من أكاذيب أمريكا المخادعة المبررة لمخططاتها والتي عُرفت الآن للعالم أجمع، أصبحت جوهراً فعّالاً لتعبئة الجماهير ولاطلاق طاقات التحرير. هذه الجماهير التي أصبحت متأكدة بشكل قاطع أن حكم البعث عندما كان يُحذر من مخططات الأعداء باحتلال العراق وتقسيمه وبث الفتن الطائفية فيه وتعطيل دوره القومي، كان محِقاً وواعياً وحريصاً علي العراق والأمة العربية.

ــ أن معركة التحرير استعادت القيم الوطنية والقومية التي تربّي عليها شعب العراق العريق بإبائه وحماسته وثوراته الوطنية، وهذا ما يبرز من خلال تكاتف القوي القومية والوطنية والإسلامية المتنوّرة في جبهة نضال تحريرية مصممة علي خوض صفحة جديدة في حرب بطولية متصلة بتاريخ العراق ومسيرة الأمة العربية، وما تجسده عودة البعث إلي مبادئه وأخلاقه ومسيرته كحركة تاريخية جماهيرية وما يجسده تفوق روح الانفتاح والوضوح الديمقراطي المستقبلي.

ــ أن هذه المعركة تستهين بكل التضحيات في سبيل الحرية والكرامة والسيادة. لقد قدّم البعث أكثر من 120 ألف شهيد، وقدم الشعب أكثر من مليون شهيد وضحية، وثلاثة ملايين مشرد مبعدٍ خارج الوطن، وهذا يعني أن الاحتلال مهما امتلك من طاقات عسكرية ومادية جبارة، تكلفه وستكلفه أكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار وآلاف القتلي، قد أصبح مهزوماً أمام إرادة شعبٍ واعٍ مصممٍ علي تحقيق النصر في معركته الشريفة والمحقة.

ــ أن هذه المعركة فضحت دور الشعوبية المعادية للعرب والإسلام وحقيقة التوافق بين أهدافها وارتباطاتها وبين أهداف وأدوات الاحتلال. فالحكم الذي أقامه الاحتلال هو حكم طائفيٍ فاسد مرتش ومرتزق وملطخ بدماء الشعب الضحية، وتكفي مقارنته مع أنظمة الحكم التي أقامتها دول الاحتلال خلال القرن العشرين وزالت معها لتذكّر بديهية تاريخية مفادها أن هذا الحكم مثله مثل غيره من هذه الأنظمة البائدة مجرم خائن وأنه سوف يُدفن ويحاسب مجرموه علي أيدي شعب العراق العظيم وأمام قوي الوعي العربي والإنساني.

ــ أن هذه المعركة فضحت دور العناصر المتلاعبة بالقضية الكردية وكشفت دوافع ارتباطاتها مع عدة جهات أجنبية لتنفيذ مخططات معينة ضد وحدة العراق وضد الأمة العربية. فقد تبين أنه علي الرغم من أن العراق في عهد البعث كان هو الدولة الوحيدة التي أقامت الحكم الذاتي للشعب الكردي تعبيراً عن حقوقه الوطنية، فإن هذه العناصر قامت قبل الاحتلال وخلاله بتوريط هذا الشعب في مشاعر عنصرية سلبية تتناقض مع ما عرفه التاريخ من تعايش طبيعي ومتفاعل مع العرب، وزجت بميليشياتها المسلّحة في معارك تقسيم العراق وضرب قيادته الوطنية، واستقدمت القواعد العسكرية وشركات سرقة النفط العالمية، ولم تعد تخجل من إظهار تعاونها الحركي مع الكيان الإسرائيلي.

ــ أن معركة التحرير تعطي المَثل للأمة العربية حول كيفية استعادة الحقوق المغتصبة والخروج من حالة الهزيمة والمحن، مما يجعل هذه المعركة القوة الكبري لمساعدة الشعب الفلسطيني والأمة في تحرير فلسطين وفي بناء الموقف العربي المنشود.

إن معركة تحرير العراق تفتح اليوم فرصة تاريخية للأمة العربية لتتفوق علي ظروفها العصيبة، ولأن تجعل أسلوب معالجتها في مستوي المؤامرة الهمجية التي يجري تنفيذها من قبل قوي متكالبة علي نهب ثرواتها والتلاعب بمصيرها.

فلم يعد مقبولاً أبداً أن يُترك الشعب العراقي ومقاومة المحتل بمعزل عن الدعم المطلوب من أجل تحقيق النصر الشامل في أسرع وقت. فإذا تخلّفت الأنظمة العربية عن هذا الدعم، لأن حالة الاحتلال وإرضاء أمريكا يريحانها، فعلي جماهير الشعب العربي وحركاته السياسية الوطنية والقومية ومثقفيه المتنورين ومناضليه في كل قطر أن يجعلوا من الالتقاء علي فضح مشروع احتلال العراق وعلي واجب تقديم الدعم لتحريره، مقياساً نبيلاً للحكم علي سياسات الأنظمة ومواقف الأحزاب، بل مبرراً لتغيير هذه السياسات وحامليها، حتي يكون التحول عميقاً وجذرياً يمس كل أرجاء الوطن العربي. فمثلما كانت مصر عبد الناصر عمقاً استراتيجياً لدعم ثورة الجزائر في مواجهة المحـــتل الفرنسي، ومثلما كان البعث عمقاً مبدئياً لإقــــــامة وحدة ســــورية ومصر وللدعوة للوحدة العربية منذ خمسينيات القـــــرن الماضي، فإن قطراً مثل سورية التي ترتبط تاريخياً بنشأة البعث والتي تواجه اليوم أعظم الضغوطات الدولية من أجل مسايرة حالة الخضوع، يجب أن تمثل عمقاً متقدماً لنصرة العراق، يلتقي مع أعماقٍ رديفةٍ في كل قطر عربي، في الأردن واليمن ومصر والسودان وليبيا والجزائر... بل في كل قلب عربي مؤمن بالحق والحرية وفي كل عقل واعٍ متطلع إلي مستقبل حضاري. فبهزيمة أمريكا دولة الاحتلال والتغطرس تنتهي الهجمة الامبريالية وتنكفئ قوي الردة التي تنتعش في الوطن العربي مع كل نكسة قومية، وتتفتح أجواء حرية فلسطين، وتتوحد قوي الشعب العربي النضالية وراء أهداف واضحة ونبيلة تُنعش الحياة السليمة وامتلاك المقدرات والعطاءات الكبري في الأمة العربية.

كذلك فإن هزيمة أمريكا وطردها من العراق ومن المنطقة سيكون تخليصاً للعالم أجمع من همجية الاستحواذ الأمريكي والنهم المادي ومن التلاعب بالقوانين الدولية وإرساءً لإنسانية جديدة قائمة علي التفاعل الحضاري المتكافئ وعلي محبة السلام.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الجمعة /  22  رجــــب  1429 هـ

***

 الموافق   25  /  تمــوز / 2008 م