الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

كان قمراً بعثياً نقياً ... يسمى موسى شعيب

 

 

شبكة المنصور

د. مصطفى توفيق الصباغ

 

هي قوافل المجد تمر متوجة ببيارق العز والفخار ...

محاطة بالرايات المطرزة بألوان الحب والعشق ودمع الاقحوان ...

هى قوافل يتقدمها فرسان بوجوه ملائكية على ظهور خيول بُلق بأجنحة بيضاء تغطي مساحات السماء فترسل الشمس أشعتها لتدفئ فينا برودة الزمن وتعزف قيثارة الحرية نشيدها الازلي ويغسل القمر وجهه برحيق العطر المنبعث من الارواح الطاهرة....إنهم مواكب الشهداء ..وها أنذا أراك تتقدم بين الجموع ... يراك قلبي متوسداً حدقات العيون، وأتذكر ذلك الوجه الجنوبي المضاء بنور الحب والمؤجج بعاطفة الفداء ...

هل لمثلي أن يتذكر، وأنت الحي في الذاكرة وفي أعماق الوجدان وفي بوادي وسهول الحياة.

هو أنت تتدفق في الذكريات التي أختزنها عنك من يوم عرفتك في أعماق الذاكرة ..يا لذاكرة خمسيني يعلوها صدأ الزمان كيف تفيض بينبوع مدرار لا ينضب لصوتك العذب ووجهك الباسم رغم جراحات العمر ...هو وجهك الجنوبي ... العربي ... بملامحه البعثية ...هذا وجهك أنت أبا زياد ... يتمدد في كل زوايا الذاكرة فيرجعني بلطف الى البدايات...

إنها الذكريات تأخذني الى مدينتي صيدا حيث أول عهد لي بالفكر القومي وذلك الينبوع البعثي العذب الذي لا يزال يتدفق في شراييني ,,,هذا النبع الذي نهلت منه ولا أرتوي...

نعم هذا الرفيق موسى شعيب، وجه يأسرك حين تنظر اليه، ويدان دافئتان تمتدان كبساط فرح لكي نتتلمذ عليها أنا وبعض من رفاق وننهل من مبادئ البعث العظيم ...

نحاول أن نفهم معنى الامة العربية الواحدة والرسالة الخالدة ...ومفهوم الوحدة والحرية والاشتراكية في شقة لم تكن تتجاوز حدود الغرفة الواحدة في ذلك الزمن. ...

أصدقك القول أبا زياد أني أحببت البعث من خلالك قبل أن أفهم تلك المبادئ والقيم والشعارات ..

أذكر كم كنا أنا والرفاق ننتظر موعد الاجتماع ...كنت تمازحنا وتملأ النفوس حباً وفرحاً، تتكلم معنا بكل حنان...هكذا أنت وهكذا عرفناك كريم النفس ...طيب المعشر وصادق القول.

كنا نهرول حين نسمع أن هناك ندوة شعرية أنت سيدها، بأشعارك ذات الوجه الانساني الدافئ... وأصدقك القول أنَّا كنا نتكلم معك بحرية من دون خوف أو رهبة، حرية منضبطة من قبلنا، تتقبلها بصدر واسع حتى لو شابها بعض من قسوة في النقد.

أبا زياد لقد حفرت وجودك في ذاكراتنا بأنامل الحب ومشاعر الانسان، ولهذا استقريت في أعماقنا ولم تكن مجرد عابر من غير بصمات.

في العام 1973 في بغداد، وأثناء احتفالات تأسيس حزب البعث في شهر نيسان، جئتَ من مدينة البصرة، التي كنت تشارك فيها بمهرجان المربد للشعر، حينذاك ذكَّرتنا بقصيدة (يا رفيقي)، التي كتبت في زمن الرفض العربي للسقوط، وأنت تزرع بوادر الثورة في الفؤاد العربي حين تقول:

(بصمات الرفض في وجهك ما زورها شار وبائع
كبرياء الزمن الغاضب في عينيك فكر وشرائع)...

ويكفي بأنك استشرقت رؤياك لهذا الرفيق، ومن خلاله وجَّهت رسالة إلى كل الرفاق، بقولك: (سوف تبقى يا رفيقي ...علم النار على درب القضية).

وبعد أن صلت وجلت وأخذتنا من أيادينا لتدلنا على مكامن القوة في تلك الرؤية الحنونة للانتماء العربي الاصيل كنت قد حسمت الجدل الذي دار في يوم من الايام لتعطي لبيروت نكهتها المميزة الانتماء فقلت:

(وبيروت أنا , أنت , ونحن الصانعي بيروت لا حراسة الأرز ولا كلب فرنجي على حضن بغي أجنبية لا وليست صفقة سرية في الاشرفية لا وليست شقة مفروشة في الحازمية)...

وكما كنت أيها الرفيق الانسان قد حسمت خيارك بالانتماء الى جانب الفقراء والكادحين، الذين زخرفوا وجه بيروت بأجمل الوان الفرح، ورغم محاولات البعض أن تغتال أحلامهم، فإن انتماءك العربي كان جوهر كينونتك حين قلت:

(عربي أنا، اغتالت وجه أمتي قرون سوداء أزاهر حقلي سحقتها نعال الامراء وحناجر عصافيري خنقتها أصابع اللصوص)...

وأنت أيها الشاعر الانسان أكدت انتماءك العربي بالشعر الذي هو موقف في قصيدة (بلاد العرب أوطاني)، وترسم المشهد للوطن العربي الذي حدثك والدك عنه، وكيف رأيت حالة الأمة في المغرب وتونس ومصر ودمشق وغيرها من البلاد، وكيف جاء الجواب المطرز بدم الشهداء ليبارك الارض ويبشر بالفجر الوضَّاء، ولذا آثرت إلا أن ترحل في شرايين الشهادة لتنير لنا ظلمات ليالينا الباردات .

أيها القمر الشجي، كم كنا والرفاق نتخاطف بعض أوراق كتبت عليها بعضاً من الابيات لقصائد لم تجمع الا بعد استشهادك، حيث كانت تشكل لنا وجبات من العشق الانساني . شعرك كان بلسماً سلساً عذباً نقياً ثورياً، يخجل من يقرأه الا أن ينحاز الى الأمة والوطن والانسان، ويأبى الا أن يحمل الفكر زاداً والسلاح أداة وأن يقاتل في سبيل عزة الامة ومجدها.

تركتنا ورحلنا معك في عذوبة كل كلمة، ومقطع كل قصيدة، إلى الافق الذي أردت. وحين اشتدت أزمة الخبز في لبنان، كانت قصيدتك (رسالة الى رغيف)، التي أحضرت نسخاً منها الى صيدا تتراقص بين أيدينا ونحن نوزعها على الناس فخورين بمن كتبها ...إنك أنت موسى شعيب شاعر الحب والانسان ... أنت دائماً معناً وكنا نراك أكثر ما نرى أنفسنا.

وحين سجنت بسبب أفكارك وانتمائك ومعتقداتك، يوم كنت أستاذاً ثانوياً، وتم إبعادك الى أقاصي لبنان (بلدة بشري) كنا نتصلب بصلابتك، ونفخر بقائد مثلك. وصدقاً كم تمنينا أن ندخل السجن مثلك ...وحين ترشحت للانتخابات النيابية كنا نردد معك (موسى شعيب من السجن الى البرلمان)، لكنك آثرت أن تدخل برلمان الامة والتاريخ الارحب والذي يتجسد في قلوب الكادحين.

ومع مزراعي التبغ، كانت لك ولرفاقك صولات وجولات، هنا وهناك، تتنقلون كخلية نحل، مضحين لأجل تلك الأيادي السمر لمزارعي التبغ، وأنامل الانسانية التي تغرز أوراق التبغ، ومن ثم يُضنُّ عليها بما يسد تكاليفها.

أبا زياد، لقد كان يسكنك حلم الفقراء وهاجس الحرية للمواطن والوطن . وأيام كنا ندرس في بغداد في السبعينيات، حيث كانت في لبنان الحركة الوطنية اللبنانية وأنتم جزء أساسي فيها، وكنا نعلم من الرفاق أنك في بغداد ،كنا نبحث عنك لنراك وترتوي أعيننا برؤيتك ونتغذى من ثمر كلامك.

أيها الشهيد العابق بنكهة الحب، وثورة الغضب، لا أخفي عليك بقصتي مع شعرك ونكهة كل قصيدة قرأتها وأحببتها وحفظتها وتفاخرت بها أمام الجميع. وحين كنت في كلية الزراعة- جامعة بغداد كنا نترنم بقصائدك المعبرة عن همومنا وأحلامنا، وكم تشجعت كي ألقي قصيدة من قصائدك وكانت قصيدة (علقوا الشمس) تحرضنا على الضعف الكامن في نفوسنا، وتحفزنا للانطلاق نحو المستقبل ...وقصيدة (غزل الكادحين)، التي طرزت فيها سوريالية الصراع الطبقي في جنوب لبنان وكل مكان في الوطن الكبير، حيث كان ما تكتنزه هذه القصيدة من تعابير جمالية إنسانية لكل كادح بما يمتلك من الطهارة والاحلام حيث تقول:

(من ذيول السحب في الإصباح بيضاء نقية من ورود الروض في الأسحار فرعاء ندية من فؤادي, من سهادي , من ظنوني القروية من رؤى عينين لم تعرف عدا الرؤيا خطية ألف حب وتحية, لك يا أحلى صبية)...

وتأبى أن تتركنا نهيم في نهر العاطفة ونتوضأ على الواقع الذي رسمت معالمه الاقتصادية والسياسية والصورة التي ترسمها للمواجهة في قصيدة (الجنوبي الجديد)، التي نقلتنا بها من الخوف الذي يملأ الأضلع وجعاً، الى صورة الفقر التي كان يحياها آلاف من أبناء الارض الطيبة، وكيف كان البيك ينام مرتاحاً لا يأبه لعذابات الكادحين، الى أن رسمت لنا الصورة الثورية التي حسمت بها خيارك بقولك:

(غداً سأركع الناطور مجانا وأنشد رغم أنف الذئب والناطور الحانا لأني عدت إنسانا)...

نعم لأنك لا تستطيع الا أن تكون إنسانا وحين قرأنا قصيدة (قتلوني) (يا أنشودة حب الفقراء ودفء الاطفال الليلي)، لم نكن نتوهم أبداً أنك تكتب رائعة عمرك، ورؤيتك لمفهوم الحياة الذي يتوجه الاستشهاد، وهذه لوحة بعثية لا يحسن قراءتها إلاَّ من نهل من النبع الدافئ للفكر البعثي الانساني.

نعم هم قتلوك، ولكنك استشهدت ويا عار بنادقهم، ويا حزن الرصاصات التي أطلقت دون أن تعلم على من أطلقوها .. يا ذل رغيفهم المجبول دماء. نعم أنت رسمت لوحة خلودك بكلماتك ورؤيتك الصادقة بأن الحياة هي معبر للخلود، ولكن الهدف هو قضية وليست ككل قضية هي قضية الوطن والانسان.

وفي الأحداث المريرة، التي عصفت بلبنان، حيث كانت البنادق تتقاتل والخنادق تتقابل، وكان تل الزعتر عنواناً لحرب أرادها البعض أن تكون طائفية لا وطنية ...أرادوا أن يمحوا الوجه الوطني والقومي للصراع الذي انتهى بذبح مخيم تل الزعتر على موائد اللئام، وكانت قصيدة (هيفاء تنتظر الباص على مفرق تل الزعتر). نعم ولا زالت هيفاء تنتظر، ولا زلنا نجترح الذكريات المؤلمة للصراع الذي فتَّت الوطن ولا يزال، لاننا رغم تغير الزمان وخارطة المكان لا نزال نرى هيفاء منتظرة على تلك الاشلاء لذاك المخيم. وكنا نشعر أن هيفاء تأخذنا بيديها الى جنان الخلود، حيث أنت والشهداء، كي نتأمل وجوهكم المورقة بالأمل والمضاءة كالقناديل بنور الحب، وكي أجلس بين يديك لتحدثني من جديد عن أمة العرب التي لن تموت، وعن البعث العظيم الذي قلت فيه (محال أن تموت وأنت حي \وكيف يموت ميلاد وجيل\فبعث الموت أمر مستطاع \ وموت البعث أمر مستحل)...

وكون هيفاء لم تكن وهمية، وإنما من لحم ودم، ومن عطر و تراب، من دموع وضحكات، وأنها تجسد لحالة المجموع وليس لحالة الفرد، ومن يدري قد تلخص حالة الامة جمعاء التي يحاول الجميع أن يغتال بسمتها .. أن يقتلعها أو أن يلقي بأوصالها تحت جسر الموت، ولكنك كنت سباقاً الى الاستشراف بأنها سوف تظل الشاهد على الانتماء، وسينبعث من بقايا شعرها الى الابد عطر الزعتر النظيف.

وفي ذلك رمضان التموزي الملتهب بحرارة الثورات والعنفوان وقدسية المناسبة ورائحة الشهادة كان آخر لقاء معك، في ذكرى احتفالات ثورة تموز المجيدة، وكنت في ذلك المساء عريساً لعرس لبناني عربي، حيث في تلك الأمسية، وفي لحظات الانتظار بعد الافطار لمجيء شيخ المجاهدين (السيد النائب في ذلك الوقت)، قمت بطلعتك البهية وتكلمت بعفوية جنوبية بعثية عربية في حضرة المحتفلين، والقيت قصيدتك العصماء (أسرج خيولك).

يقال في التراث أن البعض يعبر عن المستقبل من خلال رؤية الواقع ...وأنت أيها الشاعر الانسان كنت تتلمس معالم القادم وأنت تنسج هذه القصيدة التي نزفت فيها أحاسيسك وعمق الانتماء، وكنت تستشرف مصيرك للخلود بعد الاستشهاد. وكيف لك أن تلحق بقوافل الشهداء الذين سبقوك وانتظروك لإعلاء رايات المجد للامة الموجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح، وكنت تريد أن تتوج تاريخك الشعري بهذه الرائعة..

ولم يتأخر الوقت إلى أن أستفقنا على خبر استشهادك الذي أراده الاعداء نهاية لقصة عاشق، فأصبحت أسطورة تُروى على شفاه الكادحين والعذارى، وتُقرأ مقاطع منها لتواسي عذابات المعذبين من أبناء الامة والوطن .

هو أنت يا تموز تأتي مدججا بالقيظ وعبق الشهادة لتلقي علينا التحية وتحمل على جناحيك نسراً عربياً جنوبياً مثقفاً ثورياً كادحاً مجبولاً من تراب الارض، تفوح منه رائحة العشق وتمتد جذوره في أعماق الارض الطيبة.

هو أنت يا أيها الذي علمتني أن أكون بعثياً، وحين توهجت آثرت الالتحاق بقوافل من سبقوك في العشق للرسالة الخالدة.

أبا زياد، أعذرني لاني لا أستطيع مهما كتبت الوفاء بما أختزنه تجاهك ...لكن لنا السلوى في ذكرى استشهادك الثامن والعشرين أن نقول:  ( أنت لم ترحل عنا .. أنت الراحل فينا أبداً ورحيلك أبدا لن ينهيك ).

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاربعاء /  27  رجــــب  1429 هـ

***

 الموافق   30  /  تمــوز / 2008 م