الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

البعث والمقاومة ... ومستقبل العراق

(الجزء الاول)

 

 

شبكة المنصور

أ.د. كاظم عبد الحسين عباس  / أكاديمي عراقي _ بغداد

 

أخطأ الاحتلال الامريكي للعراق في تقديراته ومسوغاته لأمرين من امور الشأن العراقي .. الأول هو نوع المبررات التي ساقها سياسيا واعلاميا لشن الحرب والاحتلال والثاني اجتثاث البعث وحل مؤسسات الدولة. وحين نشير الى الخطأ هنا فليس القصد هو تسجيل ملاحظة عابرة في سياق موضوع عام بل هو اعمق من هذا بالكثير، اذ اننا نحاول هنا ان نستشرف الغد العراقي ومستقبل الحدث الاهم فى التاريخ الحديث، ألا وهو حدث الاحتلال.

ان انكشاف عورات الاحتلال الامريكي بعد حصوله باسابيع او شهور قليلة وظهور اخطاء فادحة ومدمرة في سياق فعله الشائن، ليس امرا هينا، او عابرا، بل هو مدعاة لدراسات جادة ومعمقة. اذ لا يجوز الافتراض قطعا ان الاحتلال قد تحقق من غير اساسات نظرية وفكرية ومن غير تخطيط مسبق لكل متطلباته السياسية والعسكرية والاجتماعية وتداعياته المحتملة محليا واقليميا ودوليا. اذ ان القول باتخاذ قرارات من قبل الحاكم المدني الذي عُيّن بعد شهر من الاحتلال هو محض هراء وضحك على الذقون يقصد منه ايهام الناس البسطاء وتخفيف عبئ الاخطاء المدمرة التي تأسس عليها وأسس لها الاحتلال. انه يعني بوضوح ان الاحتلال قد اخفق:

اولا": اما لان الاساسات النظرية والفكرية التي بني عليها كانت غير واقعية وغير سليمة اصلا بكل روافد بناءها وتكويناتها. وتلك معضلة ستترك اثارا جسيمة على الادارة التي قررت وادارت دفة الاحتلال الى زمن طويل سياتي.

ثانيا": و/ أو لان تطبيقات الاساسات النظرية والفكرية قد اخفقت اخفاقا مدويا في الميدان، لانها غير متوافقة وغير صحيحة الى جانب كون الجهات المنفذة لا تمتلك رؤية صحيحة لتلك الاساسات ولا الى سبل نقلها الى الميدان.

ثالثا": الاخطاء والبهتان الذي بنيت عليها نظريات الاحتلال وتطبيقاتها في الميدان على حد سواء.

وسنحاول في هذه السطور التقاط بعض المشاكل الفكرية والعقائدية والعملية التي اسقطت الاحتلال في وحل غير محسوب بعناية او انه قد تشكل بفعل امطار وغيث لم يجُد به صيف العراق في كل تاريخه الطويل السابق حيث لم تمطر سماءنا من قبل في الفترة الواقعة بين نيسان وتشرين الثاني عام 2003، وحتى وان امطرت فانه كان يوصف على انه مطر صيف لا يغيث زرعا ولا يروي ظمأ، فكيف به يصل الى هذه القدرة العجيبة على اغراق اكبر قوة تكنولوجية عرفها التاريخ؟.

الاجتثاث .. المستحيل:

أخفق صناع القرار الامريكي ومَن وظّف لهم ارضية القرار قبل سنوات من الحرب والاحتلال من الاطراف المسماة بالمعارضة العراقية، في اتخاذ قرار الاجتثاث جملة وتفصيلا. ويبدو ان التمعن في حيثيات القرار قبل اصداره وبعناية جرّاح عبقري وغوّاص قادر على استكشاف قاع المحيط بعبقرية متفردة يمكن ان يقود الى نتائج ليست عصية على الادراك الحسي ولا على الاستشفاف الفكري. وأولها هو التأسيس على افتراض جاهل وبليد مستند الى مظاهر غير جوهرية، لا في حياة الحزب ولا في حياة تجربته العميقة في العراق، بل هي محض افرازات سطحية حصلت لاسباب فنية وادارية بفعل الحصار ومشاكل ادارة شؤون البلد التي تمخضعت عن الحصار  .. هذا الافتراض الغبي هو ان البعث محض حزب سياسي يرتبط وجوده بوجوده في هرم السلطة بحيث ان فقدان هذا الهرم سيطيح به الى قبور النسيان. هذا الافتراض الجاهل وضع من اناس لا يفقهون شيئا عن حركة البعث العربي الاشتراكي التي هي في واقع الحال حركة قومية انسانية عقائدية رسالية. ومثل هكذا حركات عقائدية رسالية لم تخلق لتموت لمرض يصيبها او عوق يضرب احد جنباتها او لاخفاق مكاني ومرحلي عابر في مسيرة حياتها. انها حركات متجذرة في عمق قاع المجتمع الذي تولد من رحم معضلاته وامانيه ورؤى التغيير المطلوبة بالحاح فيه. وموتها لا يتم، الاّ في حالة واحدة فقط غير محتملة على الاطلاق، ألا وهي حالة ابادة كامل المجتمع والامة التي حملت تلكم الرسالة كلا او جزءا. وحركة البعث واحدة من بين اكثر هذه الحركات اصالة وتجذرا. ونحن لا نسوق هذا الكلام لاننا منتمون الى البعث بل لان مفردات الواقع قد تحدثت عن نفسها ونحن لسنا اكثر من مبرزين لها.

ان البعث حركة مرتبطة بالذات القومية للامة العربية ويعبر عن هوية الامة الانسانية المتمدنة وينفتح على الانسانية من هذا الباب الواسع. وليس من مصلحة احد ان ينكر ان العالم يتكون من شعوب وقوميات ودول حيث شهد التاريخ البشري تشكيل دول غير ذات جذور قومية او قبلية مثل اميركا التي تشكلت من غير ارث قومي محدد بل تشكلت من اقوام مهاجرة، غير ان شعوبا عريقة مثل الصينيين والهنود واليونانيين وشعوب اسيوية واوربية اخرى قد نمت من فروع لها متأصلة في قدم التاريخ البشري. وعليه فان لا احد يستطيع ان يتنكر لحركة البعث مدخلها الانساني من بوابة الذات العربية. وحيث ان الذات العربية قد عانت من التخلف والانكفاء والضعف لاسباب معروفة فان الانطلاق بها نحو مواضع جديدة للرقي والتقدم تستكشفها وتصوغها وتبنيها بنفسها معتمدة على قواها الذاتية اولا ومتفاعلة بوعي وحس انساني رفيع مع معطيات التمدن والتطور في العالم وبايمان عميق بقدرات الامة على الابداع والخلق وتجاوز المحن متأصل في قواها المنظورة وغير المنظورة. وعليه فان منطلق البعث في البناء والتأسيس والتحول الايجابي معتمد على قدرات الامة ويحث فيها الابداع والتفوق. وهذه واحدة من ميزات البعث التي لم يستطلعها الاعداء بشكل صحيح فوقعوا في المحظور او انهم اعتقدوا بانها محض علامة نظرية من علامات البناء الفكري للبعث فسقطوا في المحظور ايضا.

ان التأسيس والبناء لحركة البعث في كل جوانبها قد هندست حياة الحزب الداخلية وتعبيراتها المقروءة من الخارج موضوعيا على اساس الارتباط الجدلي العضوي بين وجود البعث وبين وجود الامة والتعبير القومي لهذا الوجود.

ولعل من المفيد هنا ان نجد الربط الفكري والميداني بين توجهات الامبريالية والصهيونية والصفوية وكل الاعداء التقليدين للامة العربية التي حاولت تمزيق الكيان القومي بتاسيس اقطار عربية على انها كيانات مستقلة. ان المؤسسين لفكرة الاجتثاث قد فاتهم هذا الربط حتما, ذلك لان الكيانات القطرية وكل ما افرزته من سياسات معادية لوحدة الامة ووحدة قضاياها ومن انغلاقات مقيتة على مفردات ذات افق تفريقي مشوه لم تنجح في اسقاط روابط القومية والدولة العربية الواحدة .... ولن تنجح ., رغم ان النفخ متواصل في نتائج هذا التوجه القطري البليد وان الدفع له ياخذ اطوارا نظرية فكرية ومحاولات تنفيذ في الميدان، الاّ ان بارومترات القياس المحايد وغير المرتبط بابعاد نفعية تؤشر بوضوح ان النمط القومي هو الذي يحكم حركة الشعب العربي وان التناقض بين السياسة المعادية لوحدة الشعب العربي القومية الانسانية يمكن ان تعبر عن نفسها وبقوة غير محسوبة، في اية لحظة لانها متأصلة كأصالة ارث او ارث اصالة في حياة ووجود الامة.

ان بوصلة النضال القومي الانساني الرسالي التي خاضها البعث منذ اواخر اربعينيات القرن الماضي وكللها بتجربة قومية انسانية رائدة في العراق ابتدأت عام 1968، واسقطها الاحتلال قد نقلت حركة البعث نقلة نوعية من موقع التجارب المجتزئة سواءا في الحكم او في تطبيقات السياسة هنا وهناك على مجمل ساحة الامة العربية الى واقع آخر توحدت فيه النظرية العقائدية الرسالية مع تطبيقاتها في ميدان الساحة العراقية المحررة كنموذج.

ان ما لم يحسبه واضعوا فكرة الاجتثاث، ان البعث في العراق قد انتج واقعا اجتماعيا قوميا متجذرا, لا يضره وجود شوائب هنا وهناك، لا يمكن ان تخلو منها تجربة انسانية متفردة في فكرها وفي تطبيقات هذا الفكر, وهي الشوائب التي ركز عليها الاحتلال في سياسات عداء مكشوفة ومفضوحة دون ان يدرك ان تاثيرها لن يتجاوز تاثير فلم جنسي على مراهق ستنتهي مع لحظات استمناء يمارسها المراهق في غفلة من الزمن !!!, مثلما ركز على حلقات العداء التقليدية التي تحملها الاحزاب الطائفية والمتسترة بغطاء الدين وهذه هي الأخرى لن تذهب ابعد من لحظات الانفلات التي تشهدها مواكب الاعراس في مجتمعنا ويرقص فيها رجال سيعرق جبينهم بعد انتهاء الزفه لادراكهم انهم مارسوا فعلا لا يقع في اطار الممدوح من علامات الرجولة في مجتمعنا ولا مسموح ان يقع في دائرة الاضواء الاجتماعية في اقل تقدير ... فأنطبق المثل الدارج على عرابيّ الاجتثاث على انهم بنوا نظام الاجتثاث وفق قاعدة زفة العرس التي تتعامل بوجود ألفي مجنون في زفة اساس وجودها اثنين فقط هم العريس وعروسته الذي سينتهي بهما المطاف وحدهما في غرفة ولادة حياة جديدة مقدسة وينفض الالفين من راقصي الزفه كل الى حاله .. مع فارق واحد هنا هو ان الرباط بين عرابيّ الاجتثاث غير مقدس ولم يؤسس بدراية وحنكة لحياة جديدة لان البعث قد تزاوج حياتيا مع الامة بكاملها وهذا ماكان خارج ادراك مصممي زفة الاجتثاث.

الاجتثاث ...أُجتث وقُبر!!

نعم .. لقد قبر الاجتثاث ... كيف ... ولماذا ؟

انتهت الزفة بالتاكيد .. وعاد العراقيون وعاد ابناء الامة بعد زمن قصير من حصول الغزو وذبح تجربة العراق الوطنية القومية الرائدة ليكتشفوا بانفسهم، ومن غير جهد او عناء، ان الاحتلال قد اعتدى على شرفهم وكرامتهم ليس فقط لانه احتلال شأنه شأن الاحتلالات الكثيرة التي خبرتها الامة وعانت منها تمزقا وتفريقا واضعافا .. بل لانه استند الى مسوغات ومبررات كلها كاذبة لانها محض هراء لتنفيذ تكتيك اغواء الناس وحرفهم عن موطن الهواء الذي يتنفسون والخبز الذي ياكلون أي حرفهم عن الانتماء الى وطنهم ... ان الكتلة الاساسية من شعبنا العراقي العظيم من غير المنتفعين والعملاء والخونة والتي لا يقل تعدادها عن سبعة وعشرين مليون انسان تدرك الآن بل ادركت بعد الاحتلال بوهلة ان الاحتلال وبكل ادعاءاته واباطيله واشاعاته واعلامه المفبرك قد جاء لهدف واحد ... هو اسقاط تجربة البعث الوطنية والقومية التقدمية التي قهرت ارادة الصهيونية والامبريالية والصفوية واستعصت على التركيع والخنوع وخطت بالعراق مسافات طويلة في ميادين الاعمار والبناء والتقدم العلمي وسبل التنمية المختلفة. انه قد جاء لوأد ارادة الامة متمثلة بارادة العراق الحر الابي .. وجاء لينتقم ويثأر لارتباط العراق العضوي بحياة الامة القومية وحركات تحررها واستقلالها ومنها بالاساس حركة التحرير الوطني الفلسطيني التي يعرف رجالها واشاوسها الابطال طبيعة صلة حركة البعث عموما بهم وطبيعة الصلة لعراق البعث بهم خصوصا. ونستطيع ان نلخص اسباب سقوط الاجتثاث كفكرة وكتطبيق بالنقاط الاتية:

1-  لأن اجتثاث البعث الذي اصدرته ونفذته الادارة الامريكية المحتلة وادواتها قد جلب بدائل لادارة البلد هي كلها جهات معادية للفكر القومي العروبي ... وانتهت الزفة أن عرف كل الناس ان الهدف هو تحطيم ذواتهم وحرق هوياتهم الوطنية القومية والتنكر لجذورهم. ونؤكد هنا ان العداء الذي افرزه الاحتلال وعملاءه للفكر القومي قد اساء كثيرا لاجندات الاحتلال وبرامجه واهدافه، حيث انتهى فورا الى تقاطع مع ذات الشعب والامة وهنا كانت القشة التي لم يحسب لها البعير بعناية ودقة.

2-  لان الاجتثاث قد اعلن عن نفسه بصيغتين لا ترضيان غير الاحتلال وعملاءه فقط هما اجتثاث الفكر وهو توجه تمقته الانسانية برمتها وليس العرب والعراقيين منهم فقط وهو اتجاه شكل في واقع الامر، احد روافد المياه التي خلقت الوحل الذي غاص به الاحتلال واذنابه. والصيغة الثانية هي صيغة قطع ارزاق وسبل عيش ملايين من العراقيين البعثيين لا يقل تعدادهم في أي حال من الاحوال عن عشرين مليون عراقي من البعثيين وعوائلهم، وهو اجراء اثار سخط الناس ليس في العراق فقط بل وعلى مستوى العالم وحرك ردود فعل بدأت ولن تتوقف حتى لو بدى للبعض انها خفت او تضاءلت بسبب اجراءات الترقيع التى لجأ اليها الاحتلال سريعا بعد تكشف اطر وجوانب الكارثة التي خلقها والعاصفة التي وضع كيانه في كورها المظلم ومنها اجراءات تقليص عدد المشمولين باجراءات الاجتثاث المقيتة.

    هنا تبرز لنا بوضوح معاني الارتباط الحياتي بين حركة البعث وبين كيان العراق

    كجزء من كيان الامة ذلك لان الاحزاب لا تمتلك قواعد فكرية مبدئية عقائدية بقدر ما

    تمتلك اجندات عمل سياسي. ان الجذور الفكرية الرسالية العقائدية للبعث هي التي

    اصطدم بها الاجتثاث وكان خطأ احمد الجلبي والاحزاب الطائفية فادحا في تقديرها

    بشكل صحيح فخدعوا انفسهم وخدعوا اميركا بالركون الى نظرية فحواها ان حرق

    الاجندة السياسية للبعث فوق الارض ستنهي وجوده الى الابد.

3-  سقط الاحتلال وعملاءه في تقدير العدد النوعي للبعثيين الحاملين للعقيدة ومبادئ حركة الثورة العربية الانسانية التقدمية المسلمة. فجاءت تقديراتهم الخطلة مؤسسة على ان جل البعثيين مرتبطين لاسباب ادارية ونفعية ولاسباب خوف افتراضي من قيادات الحزبية المركزية والمحلية وقوى امن الدولة الوطنية، وانهم بالتالي سيذوبون في حركة الواقع الجديد العاصفة مع عصف ادوات العدوان العسكرية الغاشمة وعمليته السياسية الخيانية. وها هم الآن يواجهون حقائق ميدان مختلفة جذريا عن حسابات الحقل، فالبعثييون الذين اعادوا ترتيب اوضاعهم في العراق من اقصاه الى اقصاه وتحت قيادة الحزب الشرعية عصية على ممكنات التصفيات الجسدية والاعتقال والتهجير مهما تعاظمت وقست في اجراءاتها الاجرامية. وان تغذيتهم لحركة البعث الجهادية كمفتاح من مفاتيح المقاومة الوطنية الباسلة عصية هي الاخرى على الاحاطة والتطويق والذبح.

4-  الانكشاف الواسع لاعلام الشيطنة وتشويه السمعة. اذ لم يمتد الزمن طويلا قبل ان يكتشف ابناء شعبنا العظيم وابناء امتنا المجيدة ان كل ما رسم بحبر قابل للغسل في وجه حركة الامة العربية المناضلة البطلة وطليعتها البعثية الرسالية المؤمنة هو محض رسومات مشوهة بريشة رسام مبتدئ بل لا يجيد ابسط مبادئ الرسم غير كونه بلا موهبة اصلا .. فغسلت الوان الرسم وازيلت ليس بالماء بل بقطرات عرق سالت من جباه الرجال من مناضلي الحزب الابطال ... بل كان كافيا لمحوها وكأنها ما وجدت، صمود قيادة الحزب في الاسر وتعبيرها البطولي عن صدق المبادئ وشرف الرجال في الانتماء اليها وذروة العطاء البطولي العقائدي الرسالي التي سجلها شهيد البعث والامة القائد الخالد صدام حسين رحمه الله ورفاقه الشهداء الخالدين.

سنتطرق في الاجزاء القادمة لمزيد من الايضاح والاستقراء لاننا نريد لهذه المقالات ان تكون منارا يضئ زوايا الظلمة التي وضعت اميركا فيها نفسها قبل ان يكون اعلاتا عن ألق الامة في بعثها العظيم وألق البعث في وجوده الحضاري العضوي الحياتي في وجود الامة.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاثنين /  25  رجــــب  1429 هـ

***

 الموافق   28  /  تمــوز / 2008 م