الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

ماذا حقق أردوغان في بغداد ؟

 

 

شبكة المنصور

نزار السامرائي

 

تعددت وسائل الضغط الأمريكي على دول جوار العراق، من أجل الانفتاح على العملية السياسية التي أنتجها الأمريكيون أنفسهم، ومن أجل فتح بعثات دبلوماسية لها في بغداد، تحت لافتة تطويق النفوذ الإيراني المتنامي في العراق ونتيجة لتحسن الوضع الأمني، و يبدو أن تلك الدول لم تجد مناصا من الانصياع للإرادة الأمريكية، وكل دولة كانت لها تبريراتها الخاصة في ما أقدمت عليه من تحرك بدا وكأنه مفاجئ لمسار سياساتها المعلنة هي نفسها على الأقل، ذلك أن هذه الدول دون استثناء كانت تعي جيدا أن من فتح أبواب العراق أمام النفوذ الإيراني هو الولايات المتحدة نفسها، وأن واشنطن أوشكت على تقديم العراق هدية على طبق من ذهب لإيران، عبر كتل وتيارات وأحزاب سياسية تدين بالولاء المطلق لإيران، وليس من المعقول أن الولايات المتحدة بما تمتلكه من أجهزة مخابرات ومراكز دراسات، لا تعرف ذلك ولكنها اختارت تلك القوى على علم ولدوافع مفهومة، ثم أوكلت لها تشكيل الحكومات المتعاقبة، ومكنّتها من اعتماد أساليب ووسائل القوة للتنكيل بالقوى السياسية المناهضة للاحتلالين الأمريكي والإيراني، وأطلقت يد مليشياتها لترتكب من الجرائم ما لم يشهده العراق في أية حقبة من تاريخه القديم أو الحديث، ومواصلة توجيه الضربات للمرتكزات الوطنية التي كان يمتلكها العراق في منع إيران من التمدد على حساب الأراضي العراقية، منذ أن اتخذ بول بريمر القرارات الأولى على هذا الطريق، وفي المقدمة من هذه المرتكزات الجيش العراقي الوطني وقوى الأمن الداخلي، بل وتدمير بنية الدولة العراقية برمتها من الأساس، فهل اكتشفت الولايات المتحدة في وقت متأخر مدى الخطأ الذي ارتكبته في العراق، وهذا غير ممكن التصور لبلد يطرح نفسه على أنه يخطط لعشرات السنين وربما المئات، أم أن أمريكا اتخذت من نشر النفوذ الإيراني ذريعة لبقائها الطويل الأمد في العراق؟

على العموم أيا كانت الذرائع المطروحة في العلن، فإن النفوذ الإيراني أصبح أحدى أهم حقائق ما أفرزه الاحتلال الأمريكي للعراق، وربما هو الاحتلال الذي ينظر إليه كثير من العراقيين على أنه الأكثر خطرا على هوية العراق العربية الإسلامية من الاحتلال الأمريكي، لأن الأخير غير قادر على الاندماج في المجتمع العراقي تحت أي لافتة نتيجة الفرز المؤكد في الخنادق دينيا وقوميا وثقافيا، ولا هو قوة إقليمية لا مناص من التعاطي معها على وفق ما تطرحه الجغرافية من امتيازات سياسية، في حين أن إيران تجاهر بما يرتبه لها موقعها الجغرافي، من خصوصية الحق في التعامل مع الملفات العراقية، مدعومة بقوة الانتماء المذهبي لطيف من الشعب العراقي تعتقد أنه موال لها وأن من حقها أن توظفه لإلغاء الخصوصية الوطنية للشعب العراقي، وجعل الخيارات السياسية في أي عراق حاليا أو مستقبلا نتاجا للمصلحة الإيرانية بالمرتبة الأولى، حتى غدا التفكير بذلك يتم بصوت عال دون أدنى حرج.

ومن أجل أن تعطي واشنطن هذا الأمر طابعا محليا، حركت دبلوماسيتها الضاغطة على دول جوار العراق، لقبول فكرة التحول الإقليمي بقبول عضوية عراق ما بعد الاحتلال في ناديه وكأن ذلك نتاج التطورات الإيجابية في الملف الأمني، وليس نتيجة الضغوط الأمريكية رغم أن الوقائع تدحض هذه الفرضية الساذجة، و في هذه الأجواء زار المالكي كلا من الأردن ودولة الإمارات العربية، كما تم الإعلان عن تعيين سفراء لبعض دول الجوار في بغداد، وبعد أيام قليلة قام رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي بزيارة لبغداد، عقد خلالها جولة من اللقاءات مع رموز العملية السياسية القائمة، وتم توقيع ما وصف بأنه اتفاقية إستراتيجية بين العراق وتركيا.

بصرف النظر عما قيل بشأن هذه الزيارة، فإن تساؤلات جدية تم طرحها حتى قبل القيام بالزيارة، بشأن الربط بين إحالة ملف حزب العدالة الذي يتزعمه أردوغان إلى المحكمة التركية العليا، واحتمال حظره بتهمة الخروج على تقاليد العلمانية التي أرسى دعائمها كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية بعد الحرب العالمية الأولى، واحتمال منع حوالي سبعين من قادة الحزب من ممارسة العمل السياسي، مما عزز من التكهنات بأن رئيس الوزراء التركي نفذ عملية هروب إلى الأمام وجاء إلى بغداد بحثا عن دعم سياسي أمريكي بوجه خصومه السياسيين المصرّين على الإطاحة به وبحزبه، أكثر مما كان يبحث عن علاقات جديدة مع العراق المحتل، ويبدو أن الحكومة التركية تحاول تجاوز آثار موقفها قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حينما منعت استخدام أراضيها أو أجوائها من طرف القوات الأمريكية، مما أثار ردود فعل أمريكية غاضبة على أنقرة، عالجتها واشنطن بضغوط مختلفة ليس أكثرها خطورة السماح لحزب العمال الكردستاني التركي، بالعمل عبر الحدود العراقية التركية التي عاشت استقرارا طيلة الحكم الوطني، وربما وصل التنسيق بين الطرفين حد تجهيز الحزب المذكور بأنواع من الأسلحة والأعتدة الأمريكية، والتي كان بمستطاع المسؤولين الأمريكيين التنصل من هذه الصفقات، وإلقاء تبعاتها على عاتق شركات الأمن الأمريكية الخاصة، التي خرق أفرادها القوانين الأمريكية، والإعلان بإخضاع العملية لتحقيقات رسمية، ووجدت القوى العلمانية المتطرفة بأجواء الركود في العلاقات الأمريكية التركية، الفرصة النموذجية لتحريك ملف حزب العدالة والتنمية من أجل الإطاحة به تحت دعوى تهديده للنظام العلماني الذي ترتكز عليه قواعد الحكم في تركيا المعاصرة.

أما الحديث عن محاولة أمريكا عبر تحركها الراهن، استدراج وجود عربي وخليجي على نحو خاص، من أجل حسر النفوذ الإيراني المتنامي في العراق، فلا يعدو عن كونه مجرد تضليل جديد تحاول واشنطن فرضه على لغة الخطاب السياسي في المنطقة، فالنفوذ الإيراني تكرس تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الأمريكية، وبعمل منسق من كتل سياسية تشعر بثقل الدين الذي برقبتها لإيران، لأنها ولدت ونشأت وترعرعت في إيران وتلقت من أسباب الديمومة والحياة كل أشكال الدعم والتأييد سياسيا وماليا وعسكريا، وبالتالي فإنها لن تغالط نفسها وتقفز فوق تاريخها وتقدم على خطوة تحاول المس بالنفوذ الإيراني بأي قدر مهما كان ضئيلا، وإلا فإن ذلك سيعتبر انتحارا سياسيا وعقائديا لها وعزلة لها عن قواعدها المنظمة وخسارة لفرصها بالحصول على مظلة الحماية الإيرانية، وقد يصل الأمر لتكفير أي طرف يفرط بالعلاقة مع إيران لصالح أي طرف آخر، بما في ذلك الخيار الوطني رغم أن أمرا كهذا مستبعد بل مستحيل من قوى ربطت مواقفها السياسية والأيدلوجية والفقهية مع ولاية الفقيه في طهران، فالخروج على هذه الولاية سيعني خروجا على الملّة والدين قطعا، وهكذا نلاحظ أن الإدارة الأمريكية ترتكب عن سبق خطأ يعترف لإيران بدور محوري لا غنى عنه في العراق والمنطقة، فخيار العلاقة بين إيران والكتل السياسية الضالعة في العملية السياسية، وبخاصة قائمة الائتلاف الموحد، سواء من بقي فيها أو من خرج منها، ليس خيار مصالح سياسية واقتصادية بين العراق وإيران كدولتين متجاورتين، بل تبعية راسخة الجذور في أعماق عقيدة الأحزاب الطائفية المرتبطة بإيران من جهة، وولاية الفقيه من جهة اخرى، ولن تختار هذه الأحزاب علاقة مع أطراف اخرى حتى إذا وجدت في ذلك ربحا، على علاقة مع إيران وإن كانت فيها خسارة.

وأيا كانت نوايا الدول التي بدت متحمسة في تطوير علاقات جيدة مع العراق المحتل، ومهما تعددت مبرراتها المعلنة في تحركها الجديد والذي تزامن مع دعوة أمريكية للانفتاح على حكومة نوري المالكي، فإن الأصل في العلاقات بين الدول المتجاورة هو التواصل والتكامل على كل الأصعدة، لاسيما في المجالات الاقتصادية والتجارية، وبخاصة أن دول المنطقة تمتلك الاحتياطات النفطية الكبرى ومصادر الطاقة، وأكبر خزين من التوترات الإقليمية الساخنة، مما يستدعي تنسيق جهود مشتركة بينها للوصول إلى مستوى من النضج السياسي في فتح الملفات أو إغلاقها، غير أن ذلك يجب ألا يتم بناء على أوامر من أطراف دولية معروفة النوايا والأهداف، تماما كما أنه لا يتم برغبة أحادية الجانب، بل يجب أن يكون خيارا جماعيا مبنيا على نوايا حسنة وصادقة، فطريق العلاقات بين الدول لا يحتمل الحب من طرف واحد أبدا، وإنما هو طريق ذو ممرين، وعلى أساس التكافؤ واحترام سيادة كل دولة وضمان حقوقها في السيادة والاستقلال.

ولعل الملفات التي يحفل بها تاريخ العلاقات التركية العراقية، ما يقتضي التعامل بمنتهى الحنكة مع أي منها، وهو ما لا يتوافر في أطراف العملية السياسية القائمة، ويحتل موضوع المياه أهمية استثنائية في تاريخ العلاقات العراقية التركية، فتركيا التي أقامت على حوضي الفرات ودجلة عشرات السدود وهي بصدد إقامة المزيد منها، مما سيؤثر بكل تأكيد على حقوق العراق في الحصص المائية التي ستصل إليه بموجب قانون الأنهار الدولية، استغلت الظروف الاستثنائية التي مرّ بها العراق ولعبت على أوتار الأزمات المحلية والإقليمية، فتجاهلت صيحات العراق التحذيرية من خطورة السدود التركية على حقوق سوريا والعراق معا، ولكن تركيا صمت آذانها ومضت في برنامج قد يصفّر بالنهاية حوض الفرات بشكل خاص من تدفق المياه إلى دول أسفل النهر، فقانون الأنهار الدولية يمنع إقامة أية سدود في دول أعالي تلك الأنهار ما لم تحصل على موافقات الدول الواقعة أسفله، ولم يطرح هذا الموضوع على ما تسرب من أنباء اللقاء بين أردوغان والمالكي، بل واصلت أنقرة وعودها بإطلاق كميات من المياه بسبب أزمة الجفاف التي يمر بها العراق، ولم يشأ رئيس الوزراء التركي مجرد الخوض في الحقوق القانونية للعراق في مياه دجلة والفرات، ولا شك أن الاستمرار بمعالجة الأزمة بأسلوب الهبات وفقا للمنطق العشائري، سيتيح لتركيا التهرب من أي التزام قانوني، خاصة وأن العالم مقبل على حروب مياه لعلها أخطر بكثير من حروب السيطرة على مصادر الطاقة في العالم، ولعل استمرار تجاهل تركيا لالتزاماتها التي يفرضها عليها قانون الأنهار الدولية، سيضيف عوامل للتأزم في منطقة هي ساخنة أصلا بمشاكل اخرى.

ومن الحماقات الكبرى التي أطلقت في الآونة الأخيرة، ما قاله ممثل السيستاني في كربلاء في إحدى خطب الجمعة، دعوته لبيع النفط العراقي بأسعار تفضيلية لتركيا وإيران من أجل إطلاق كميات مياه أكثر مما هو جار حاليا، ومع ما في هذه الدعوة من خطورة على مستقبل العراق وحصصه المائية، فإن تدخل الأطراف الدينية في الشؤون السياسية والفنية، يورط العراق في مشاكل كبرى لا يقدّر (من تفرغ لقضايا النفاس والحيض والنفقة والخمس والزكاة وأموال المزارات)، ما يمكن أن تعكسه على واقع العراق مستقبلا، ففضلا عن أن السيستاني ليس عراقيا ولا يعنيه أن يحصل العراق على حقوقه المائية كاملة أو لم يحصل ولا يعنيه كيف يبيع نفطه أو ألا يبيعه إطلاقا، وفضلا عن أن دخول ما تسمى بالمرجعية الدينية بأمور سياسية، يجعل منها ترنو بشغف نحو ولاية فقيه من نوع مبتكر، فضلا عن هذا كله فإن الربط بين أسعار النفط، وكميات الماء المطلقة في دجلة والفرات، ربما سيكون أخطر قانون اقتصادي يعرفه عالم اليوم، وبقدر ما ينبغي أن يكف رجال الدين عن دس أنوفهم في قضايا حساسة ومعقدة مثل قضية الماء و النفط والعلاقات بين الدول، فإن على تركيا أن تقلع عن أوهام ظلت تراودها من زمن ليس بقصير، من قبيل الصفقة التي جاءت بها تخبطات وكيل السيستاني في كربلاء، وإذا كان بإمكان بعض دول الجوار أن تبتز العراق طويلا بملفات داخلية كانت قادرة على التأثير بها، فهناك ما يمكن أن يقدم لتركيا وغيرها، غير مقايضة النفط بالماء، كرسائل ودية لعلاقة مستقبلية، ومن بين هذه الملفات منع حزب العمال الكردستاني من التحرك عبر الحدود المشتركة، وهو من بين الملفات التي جاء أردوغان للبحث عن حلول لها، وربما يمثل هذا الملف هاجسا مدوّيا ليس لحكومة حزب العدالة التركي، وإنما لكل حكومة تركية تريد التعامل مع دول الجوار بروح حضارية وقانونية، أما البحث عن أزمات قائمة أو تأزيم قضايا اخرى من أجل توظيفها للحصول على تنازلات سياسية أو اقتصادية، فإن تاريخ الأمم لم يسر على وتيرة واحدة، وبقدر تعلق الأمر بالعراق فإن هذه الكبوة لن تستمر طويلا، وسيستعيد العراق عافيته ويرجع بكامل قوته، وحينها قد لا تجد دول استغلت ظروفه القاهرة للسطو على حقوقه وتاريخه، فرصة للاعتذار دون أن تكون طرفا في تعويض العراق، ليس عما فقده فقط، وإنما عما فاته من فرص النمو والتقدم.

وفي الوقت الذي تزاحمت على أبواب بغداد مسودات اتفاقيات سياسية واقتصادية، إستراتيجية وغير إستراتيجية، جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي الخاطفة، وتم الإعلان عن توقيع اتفاقية للتعاون بين البلدين، وبقيت بنود هذه الاتفاقية كما الاتفاقية المقترحة مع الولايات المتحدة، والاتفاقية التي تم توقيعها مع إيران واختفت وسط الضجيج المفتعل حول الاتفاقية مع أمريكا، كي ينسى العراقيون أنهم أخذوا على حين غفلة باتفاقية مع إيران، هي انعكاس لطموحات إيرانية موغلة في القدم في التمدد سياسيا وجغرافيا وتاريخيا على حساب العراق، ويبدو من مؤشرات الأحداث الأخيرة أن الاتفاقية مع تركيا ستختفي وراء دخان كثيف من التضليل الذي تمارسه أطراف العملية السياسية، فكما تبنت بعض القوى الإيرانية الولاء أو الجنسية من داخل العملية السياسية، موضوع الاتفاقية مع إيران وروجت لها وبحماسة لافتة، فقد ذهبت أطراف اخرى ومن داخل العملية السياسية نفسها إلى موازنة الدور الإيراني باستجداء دور تركي مفترض أنه سيكون نافعا للعراق في المعادلة السياسية القائمة، في حين أن موازنة أي ثقل سياسي لأية دولة كبرى أو إقليمية لا يكون بجلب أطراف اخرى لمعادلته، وإنما بالتخطيط طويل الأمد لإنهاض العراق من كبوته، وهذا ما لن يجد له متنفسا ضمن أطراف العملية السياسية دون استثناء، وطالما بقي الاحتلال جاثما على صدر العراقيين.

إن واقع العراق تحت الاحتلال يجعل من المستحيل عقد اتفاقيات متكافئة بين حكومة تم إنتاجها من طرف الاحتلال، وبين دول اخرى رأت أن فرصة نادرة أمامها لتنتزع مغانم ومكاسب في ظل ظروف الاحتلال وفقدان السيادة الوطنية، وهكذا تكبل حكومة الاحتلال الرابعة، العراق بقيود ثقيلة وطويلة الأمد، ولذا فإن هذه الاتفاقيات تعتبر وضمن أحكام القانون الدولي، لاغية ولا ترتب على العراق أية التزامات ومن أي نوع، لا الآن ولا في المستقبل، خاصة مع دول تسعى لتصدير أزماتها إلى العراق معتبرة أنه الخاصرة الرخوة في جسد المنطقة.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء /  12  رجــــب  1429 هـ

***

 الموافق   15  /  تمــوز / 2008 م