الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

إيران حليف استراتيجي أم عدوٌّ تاريخي للأمَّة العربيَّة ؟

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

 

"لقد حرَّرتُ الشاطىء الشرقي من النهر، وعليك أن تحرِّرالشاطىء الغربي.

من وصيَّته الشاه رضا خان لابنه محمَّد رضا بهلوي

 

"ان عدن وبغداد يتبعان بلاد فارس".

تصريح لوزير الخارجية الايراني ابراهيم يزدي في الثامن من نيسان 1980 . 

 

الجدل الدائر عن إيران وعلاقاتها بالأمَّة العربيَّة ليس بالجديد. ودعوات التحالف الاستراتيجي مع النظام الإيراني ليست ظاهرة أفرزها الدعم الإيراني لـ "حزب الله" وحركة "حماس"، وإن كان من الصعب تجاهل تأثير هذا الدعم في المواقف الداعية للتحالف مع للنظام الإيراني. عشق نفر مِن "دعاة العروبة" بلاد فارس عشقًا متجذِّرًا ومتجدِّدًا لن ينال منه ما يصدرعن قُم وطهران من مواقف معادية، وتآمر مباشر ضدَّ الأمَّة العربيَّة. ومواقف "القوميِّين الجدد" وتلاميذ "الكتلة التاريخيَّة" ومنظِّريها إزاء الدور الإيراني ليس بالجديدة أيضًا، بل تتطابق إلى حدِّ كبير مع تلك التي تبنتها المجموعات الماويَّة والماركسيَّة والقوميَّة التي أنجبت للأمَّة عادل عبد المهدي ومنير شفيق وعبد الإله النصراوي ورفاقهم في نهاية السبعينيَّات وحتَّى منتصف الثمانييَّات.

كنَّا نسأل المتحمِّسين لـ "دولة الفقيه" حينذاك عن أسباب هيامهم بنظام يتَّسم مشروعه الاجتماعي والسياسي بكلِّ عناصر التخلَّف، ويتناقض جذريًّا مع منطلقاتهم العقائديَّة وبرامجهم السياسيَّة دون أن نستلم منهم ردودًا مقنعه! أفضل ما قدَّموه من مبرِّرات تُلخَّص في أنَّ "إيران آية الله" تختلف عن "إيران الشاه". فإيران "الثورة الإسلاميَّة" قد قطعت علاقاتها بالعدوِّ الصهيوني، وأغلقت سفارته، وأنهت تبعيَّتها للولايات المتَّحدة، "الشيطان الأكبر"! وعندما كنَّا نحاججهم بأنَّ أكثرمن 20 دولة أفريقيَّة قد سبق وأن قطعت علاقاتها الدبلوماسيَّة بـ "إسرائيل" إثر حرب أكتوبر1973، فهل تمنحهم هذه الخطوة الحقِّ في احتلال أراض عربيَّة، وشنِّ عدوان عسكريٍّ على قطر عربي من أجل احتلاله؟ ردود عشَّاق فارس القدامى ومواقفهم المنحازة لإيران لم تختلف عن ردود عشَّاقها الجُدد. مواقف هشَّة ومغالِطة تفتقد المسوؤليَّة القوميَّة.

كانوا يلوِّحون بشعارات طهران المعادية لـ "الشيطان الأكبر" و "إسرائيل"، ويغضُّون الطرف بانتقائيَّة عن علاقات "إيران الخميني" التسليحيَّة بالولايات المتَّحدة و "إسرائيل" التي كشفت تفاصليها بشكل لا يحتمل الخلاف حيثيات الفضيحة السياسيَّة المعروفة بـ  "إيران غيت" أو "إيران كونترا".

الموقف الراهن لـ "القوميِّين الجدد" من إيران لا يختلف عن موقف قوميِّ السبعينيَّات والثمانينيَّات. دعوات صريحة للتعامل مع إيران كحليف استراتيجي أو كـ "عمق أستراتيجي" للأمَّة العربية! ودفاع مستميت عن إيران وحقِّها في امتلاك القدرات النوويَّة وتطويرها، وإشادة بدورها المساند لبعض القوى السياسيَّة في المنطقة، مقابل تجاهل مطلق للدور الإيراني المباشر في تسهيل الاحتلال الأمريكي لشعب العراق، وتغافل غريب عن جرائمها الدمويَّة في العراق وتدميرها بنى الدولة العراقيَّة!

قبل الولوج في معالجة الموضوع الأساس للمساهمة، نرى من الضرورة تثبيت جملة من النقاط لتأطير عدد من الجوانب المرتبطة بالموضوع :

أوَّلاً، تشخيص المخاطر الإيرانية على الأمن القومي العربي، والتحذير من أبعاد التغلغل الإيراني في الوطن العربي لا يعني بأيِّ شكل من الأشكال دعوة مفتوحة لشنِّ الحرب على إيران، وتغذية الصراع ضدَّها، بل هي محاولة مسؤولة للتحذير من تبعات الأطماع  التوسُّعيَّة الإيرانية. لذا، لا بدَّ من التأكيد على أنَّ التصدِّي للمشروع الإيراني وكشف أبعاده لا يشكِّلان كما يحاول نفرٌ تصويره "إصطفافًا في المعسكر الأمريكي، أو دعمًا لمشروع الهيمنة الأمريكي في المنطقة. كما أنَّ تلميحات آخرين ودعواتهم بأنَّ خطورة التغلغل الإيراني في العراق والمنطقة تتطلَّب التعامل الإجرائي أو "العقلاني" مع الإدارة الأمريكيَّة، واستثمار قوَّاتها الغازية لحماية الوطن من الهجمة الفارسيَّة أو حماية "مصالح الطائفة" من مخاطر التغلغل الفارسي! لا يمكن التعامل معها إلا كمواقف مشبوهة وخاطئة ومرفوضة، وتنصبُّ في صالح تعزيز مشروع الاحتلال الأمريكي لشعب العراق.

ثانيًا، معادلات الصراع الدائر في المنطقة وأولويَّاته واضحة ومشخَّصة. المشروع الأمريكي ـ الصهيوني هو المشروع الأكثر خطورة على أمن المنطقة ومستقبل أجيالها، والصراع الأساس في المنطقة هو الدائر بين الإمبرياليَّة الأمريكيَّة وحلفائها وبين قوى المقاومة العربيَّة، وأنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة هي محورالصراع مع أعداء الأمَّة، والقوَّة الأساس المحتلَّة شعب العراق هي الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي تتحمَّل إدارتها مسوؤليَّة جميع تبعات احتلال قوَّاتها البشع لشعب العراق بما فيها التغلغل الإيراني. لكن قبول هذه الألويَّات لا يلغي ضرورة التعامل مع المخاطر الجديَّة للمشروع الإيراني بكلِّ حزم وشجاعة، ولا يبرِّرالتغافل عن دور النظام الإيراني في تسهيل الاحتلال الأمريكي لشعب العراق وثبيت مرتكزاته. ثمَّة مسلَّمة لا يمكن لأيِّ متابع موضوعي القفز عليها. شعب العراق يعاني اليوم من "احتلال مزدوج"، احتلال أمريكي وآخر إيراني. مظاهر كلا الاحتلالين واضحة المعالم وحاضره في كلِّ المؤسَّسات السياسيَّة، والمرافق الاجتماعيَّة في العراق المُحتل بشكل لا يمكن لأيِّ مسوِّغٍ إنكاره أو تبريره أو التغاضي عنه.

ثالثًا، المشروع السياسي الإيراني الراهن مشروع قومي توسُّعي لا يختلف في طبيعته وأهدافه الاستعماريَّة عن جميع المشاريع التوسُّعيَّة التي شهدها المجتمع الإنساني، لا سيَّما تلك التي شهدتها أرض الرافدين. أطماع هذا المشروع وأهدافه التوسُّعيَّة لا تختلف في جوهرها عن تلك التي سعى النظام الشاهنشاهي لتحقيقها. ما يميِّز المشروع الخميني الراهن، ويجعله أكثر خطورة، يكمن في استخدامه المقترب الديني\ الطائفي، وتبِّنيه مفردات الخطاب الديني بشكل يجعله أكثر قبولاً من شرائح اجتماعيَّة وسياسيَّة معيَّنة. المشروع الراهن للنظام الإيراني يستند بدون شك على أيدولوجيَّة  قوميَّة توسُّعيَّة مغلَّفة بشعارات الإصلاح الديني.

هل يمكن التعامل مع النظام الإيراني بتركيبته وأهدافه الراهنة كحليف استراتيجي؟

وهل تتوفَّر في الدولة الإيرانيَّة شروط الحليف السياسي ومؤهِّلاته؟

لم يحالف دعاة التعامل مع إيران كحليف استراتيجي الحظُّ في تقديم معايير منطقيَّة أو أدلَّة تاريخيَّة يمكن اعتمادها أساسًا للتعامل مع إيران حليفًا استراتيجيًا للأمَّة العربيَّة. كلُّ ما قدَّموه من معايير إنصبَّ على عوامل الجغرافية والدين المشترك وعلاقات إيران بأطراف عربيَّة محددَّة، بالإضافة إلى مفردات منتقاة من الخطاب السياسي الإيراني. هذه المعايير منفردة أو مجتمعه لا تفي بغرض تأهيل إيران حليفًا استراتيجيًّا للأمَّة العربيَّة. فعلاقة التحالف الاستراتيجيي بين أيِّ قوميَّتن أو كتلتين سياسيَّتين لا بدَّ من أن تستند على أسس ومقوِّمات ثابتة، ويجب أن تتوفَّر فيها شروط محدَّدة، ولا يصحُّ أن تؤسَّس على مقوِّمات جغرافيَّة أو اجتماعيَّة مجرَّدة. العامل الجغرافي المتمثِّل في كون إيران جارة شرقيَّة للأمَّة العربيَّة، أو العامل الديني المتمثِّل بكونها دولة مسلمة لا يؤهِّلانها بشكل تلقائي لكي تكون حليفًا استراتيجيًّا للأمَّة العربيَّة. فاعتماد معياري الجغرافية والدين أساسًا للتعامل مع إيران حليفًّا استراتيجيًّا قد يدفع بآخرين لترشيح الدولة التركيَّة حليفًّا استراتيجيًّا للأمَّة العربيَّة، لكون المعيارين المذكورين ينطبقان، وربَّما أكثر قوَّة على الدولة التركيَّة! فهل يمكن التعامل مع تركيا كحليف استراتيجي للأمَّة العربيَّة؟ قطعًا لا. لذا، عاملا الجغرافيَّة والدين لا يوفِّران مقوِّمات يمكن اعتمادهما لتأسيس العلاقة الاستراتيجيَّة بين الأمَّة العربيَّة وإيران.

تقدِّم لنا العلاقة  القائمة بين الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة و "الكيان الصهيوني" نموذجًا لعلاقة التحالف الاستراتيجي، مع أنَّ البون الجغرافي واسع، واختلاف الهويَّة الدينيَّة والتركيبة الاجتماعيَّة واضح للبلدين. لنتأمَّل نموذجًا آخر، العلاقة بين الولايات المتَّحدة والمملكة العربيَّة السعوديَّة، تتوفَّر فيها مقوِّمات العلاقة الاستراتيجيَّة ومؤهِّلاتها مع أنَّ الفرق هائل بين البلدين جغرافيًّا ودينيًّا واجتماعيَّا. لذا، فالارتباط الاستراتيجي بين كتلتين لا بدَّ من أن يؤسَّس على عناصر ومقوَّمات ثابتة، ولا بد من أن تتوفَّر فيها شروط ومؤهِّلات محدَّدة، ولا يمكن الاقتصار على عوامل الجغرافيا والتركيبة الاجتماعيَّة لتأسيسها. لذلك نجد أنَّ هذا النوع من العلاقة نادر في النظام الدولي الراهن. التحالف الاستراتيجي بين دولتين أو كتلتين يجب أن يستند، في تقديري، على جملة من العوامل والمقوِّمات تتطلَّب توفُّر قواسم مشتركة، لعلَّ أهمُّها:

1. الارتباط في تحقيق أهداف سياسيَّة استراتيجية مشتركة.

2. توفرمصالح اقتصاديَّة وتجاريَّة استراتيجية مشتركة.

3. الالتزام المتبادل بضمان الأمن السيادي والاقتصادي للحليف، والاستعداد المطلق  لتحمُّل التكاليف الاقتصاديَّة والسياسيَّة المترتِّبة على هذا الالتزام.  

هل يتوفَّر أيُّ من المعايير أعلاه في العلاقة الراهنة بين إيران والأمَّة العربيَّة؟

من المؤكَّد أنَّ هذه العوامل والشروط لا تتوفَّر في العلاقة القائمة بين إيران والأمَّة العربيَّة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فنقاط الصراع وتضادُّ المصالح يفوق عددها بفارق كبير نقاط الالتقاء إن وجدت أصلاً.

هل النظام الإيراني على استعداد لتحمُّل الكلف السياسيَّة والمادِّيَّة للدفاع عن الأمَّة العربيَّة؟

وهل العرب، حكومات وشعبًا على استعداد للالتزام بأمن الدولة الإيرانيَّة وسيادتها، بتركيبتها وأهدافها السياسيَّة الراهنة، وتحمُّل الكلف الماليَّة والمخاطر السياسيَّة المترتِّبة عن هذا الموقف؟

لاأعتقد ان هنالك مَن يستطيع الردَّ بشكل موضوعي وعقلاني على هذه التساؤلات بالإيجاب.

لنتوقَّف قليلاً أمام استعداد إيران لدعم الأمَّة العربيَّة ومشاركتها الأخطار والتحدِّيات الأمنيَّة الخارجيَّة؟

موقف النظام الإيراني من الاحتلال الأمريكي للعراق ودوره الحيوي في تسهيل احتلال شعب العراق، يقدِّمان لنا دليلاً قويًّا على عدم استعداد النظام الإيراني لحماية أمن الأقطار العربيَّة واستقلالها، وتحمُّل الكلف السياسيَّة المترتِّبة عن توفير هذه الحماية. فدور النظام الإيراني في توفير مستلزمات الاحتلال دور أساس وفعَّال. إيران ساهمت بشكل مباشر في إنجاح الاحتلال الأمريكي للعراق، وعملت من خلال تأثيراتها الطائفيَّة، وتوظيف الرموز الدينيَّة المرتبطة بها على ترطيب الأرض العراقيَّة أمام القوَّات الأجنبيَّة الغازية. هذا ليس اتِّهامًا بل حقيقة اعترف بها متبجِّحًا أكثر من مسوؤل إيراني، واعترف به بعض عملاء الاحتلالين الأمريكي والإيراني. لنتوقَّف أمام بعض تلك التصريحات:

في مطلع عام 2004، اعترف نائب الرئيس الإيراني السابق محمَّد علي أبطحي اثناء مشاركته في ندوة سياسيَّة دوليَّة في دبي  بأنَّ: "لولا مساعدة إيران لما نجحت أمريكا في احتلال العراق وأفغانستان." هذا التصريح، أكَّده لاحقًا مستخدمًا العبارة ذاتها الرئيس الإيراني السابق خاتمي عام 2004. في عام 2005، أثناء الحملة الانتخابيَّة للرئاسة الإيرانيَّة، أكَّد هاشمي رفسنجاني دور النظام الإيراني في تسهيل مهمَّة "الشيطان الأكبر" في احتلال العراق وتدميره. من المهم أن نشير في هذا السياق إلى عدم صدور أيِّ تصريح أو بيان رسمي إيراني ينفي أو يشجب هذه التصريحات بأنَّها صادرة عن أركان النظام الإيراني!

آخر تأكيدات الدور الإيراني في تسهيل الاستباحة الأمريكيَّة لشعب العراق، صدرت عن العميل أحمد الجلبي. ففي مقابلة أجرتها معه فضائيَّة "العربيَّة"، وفي معرض ردِّه على سؤال وجّهته له جيزيل الخوري عن الدور الإيراني أو التنسيق الأمريكي- الإيراني في احتلال العراق، أكَّد الجلبي هذا الدور، مضيفًا بأنَّه والعملاء محمَّد باقر الحكيم وعبد العزيز الحكيم ومسعود البرزاني وجلال الطالباني قد لعبوا دوارًا مهمَّة في تأمين الدور الإيراني أو ضمان المساهمة الإيرانيَّة في توفير مستلزمات نجاح الاحتلال الأمريكي شعب العراق. من يساهم ويتعاون مع العدو الأكبر للشعب العربي في احتلال العراق وتدميره لا يمكن أن يكون حليفًا استراتيجيًّا لشعب العراق والأمَّة العربيَّة.

من المؤكَّد، هناك مَن سوف يطرح بقوَّة إمكانيَّة تحوُّل إيران عن موقفها الراهن إلى حليف استراتيجي للأمَّة العربيَّة متَّخذين من العلاقة القائمة بين النظام الإيراني وكلًّ من "حزب الله" اللبناني وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" أساسًا لمواقفهم. لا جدال في تميُّز علاقة النظام الإيراني بالأطراف المذكورة ومساندته لها، لكن هذه العلاقة قائمة على اعتبارات خاصَّة لا يمكن تعميمها على الأطراف والحركات أو اللأنظمة السياسيَّة  العربيَّة الأخرى.

لا نودُّ هنا التشعُّب في معالجة طبيعة العلاقة القائمة بين إيران و "حزب الله" وأسبابها ومقوِّماتها، لكن نودُّ أن نثبت بأنَّ "حزب الله" مع كلِّ الشعبيَّة التي يتمتَّع بها على صعيد الشارع العربي، يبقى حركة سياسيَّة قطريَّة تعبِّر عن الطموحات السياسيَّة والاجتماعيَّة لمجموعة اجتماعية محدَّدة، ولا يملك مشروعًا معبِّرًا عن المصلحة الجمعيَّة لأبناء الأمَّة العربيَّة. بكل تأكيد، العلاقة بين إيران وكلٍّ من "حزب الله" وحركة "حماس" قد تخدم أهدافًا عربيَّة تعبويَّة، لكن لا يمكن التعامل معها أساسًا لبناء  العلاقة الاستراتيجيَّة بين إيران والأمَّة العربيَّة.

هل يمكن أن تتوفَّر في النظام الإيراني مستقبلاً متطلَّبات الحليف الاستراتيجي للأمَّة العربيَّة؟  تتطلَّب الإجابة بكلِّ تأكيد تبنِّي عدد من الافتراضات والتكهُّنات.

نظريًّا، في وسع النظام الإيراني الانتقال إلى حالة الحليف الاستراتيجي إذا ما تخلَّى عن طموحاته الإقليميَّة التوسُّعيَّة غير المشروعة، وتجاوز ازمة مشروعه السياسي الراهن، مشروع نشر الفوضى والطائفيَّة تحت شعار "تصدير الثورة الإسلاميَّة". هذه في تقديري، فرضيَّات غير واقعيَّة من الصعب ترجيح تحقيقها.

ثمَّة مسألة أخرى لا بدَّ من عرضها، آملين أن يردَّ عليها أنصار طهران المخلصون الذين يطالبون في التعامل مع النظام الإيراني حليف استراتيجيٌّ للأمَّة العربية؟ أو لنكن أكثر تحديدًا، ما هي مصادر التحدِّيات؟ ومن هم الأعداء الذين يطالب أنصارالنظام الإيراني التحالف معه لمواجهتهم؟

أعداء المشروع الحضاري للأمَّة العربيَّة مشخَّصون. هم تحديدًا الإمبرياليَّة الأمريكيَّة وحلفاؤها القدامى والجدد، والحركة الصهونيَّة. وسنستثني النظام الإيراني من قائمة أعداء الأمَّة.

التحالف مع النظام الإيراني لموجهة الأطراف المذكورين يعني بالضرورة وجود صراع بين النظام الإيراني وبينهم. لكن إذا ما ركنَّا جانبًا مفردات الخطاب السياسي الإيراني المصمَّمة للاستهلاك الداخلي، وشعارات معاداة "الشيطان الأكبر" و "الموت لأمريكا وإسرائيل"، فمن الصعوبة بمكان العثور على أيِّ تناقض أو صراع جادٍّ بين أهداف المشروع الإيراني وأهداف مشاريع عدوَّيٍّ الأمة الرئيسين.

إنعدام حالة التضاد بين النظام الإيراني ومشروع الهيمنة الكوني الامريكي والاستيطاني "الصهيوني" ، يقابله وضوح في توفُّر قواسم استراتيجيَّة مشتركة بينهم لعل أهمُّها العداء المطلق للأمَّة العربية، والإصرار على تمزيقها وإضعافها، بالأضافة إلى اشتراكهم في أطماع الهيمنة على ثروات العرب والسيطرة على أسواقهم ومقدَّراتهم. أطراف محور "الثلاثي المعادي للأمَّة العربيَّة" سعوا وما يزالون مستخدمي مختلف الوسائل لإضعاف العرب. فأمَّة عربيَّة ضعيفة وممزَّقة هدف يخدم المشروع الإيراني بقدر خدمته مشروع الهيمنة الأمريكي والمشروع الاستيطاني الصهيوني. 

الحديث عن وجود صراع بين النظام الإيراني والولايات المتَّحدة و"الكيان الصهيوني" حديث يتضمَّن الكثير من المغالطات والسذاجة. ليراجع دعاة التحالف الاستراتيجي مع إيران تصريحات نائب الرئيس الإيراني اسفنديار رحيم مشائي الأخيرة التي أوردتها وكالة "فارس للأنباء" وصحيفة "اعتماد" الإيرانية، مؤكِّدًا فيها صداقة الشعب الإيراني للشعبين الأمريكي و "الإسرائيلي"!

هل باستطاعة تلاميذ "الكتلة التاريخيَّة" أن يفسِّروا لنا كيف سينجح النظام الإيراني في الجمع بين اعتزازه بصداقته للشعب "الإسرائيلي" وتحالفه الاستراتيجي مع الأمَّة العربيَّة؟

لقد بات واضحًا من تجربة الاحتلال المريرة بأنَّ الاحتلال الأمريكي للعراق ليس إلاَّ صفحة من صفحات مشروع قديم شكَّلت الحرب العراقيَّة – الإيرانيّة صفحة متقدِّمة له، وأنَّ العراق يعاني من احتلال أمريكي– إيراني مزدوج. تطوُّرات المشهد السياسي في العراق آباَّن الاحتلال، تدلُّ على وجود تقسيم واضح للأدوار، والتقاء بين مصالح الإدارة الأمريكيَّة ومصالح النظام الإيراني مع وجود شعارات معادية لأمريكا تحتلُّ مساحة كبيرة من الخطاب السياسي الإيراني. هذا الاتِّفاق والتنسيق ليسا جديين، بل يعودان إلى منتصف السبعينيَّات. فقد كشفت مجلَّة "نيوزويك" الأمريكيَّة في عددها الصادرفي 14/10/1974 عن تفاصيل اتِّفاق إيراني – إسرائيلي- أمريكي نصَّ على ضرورة إعاقة إيران جهود البناء العلمي والاقتصادي والعسكري للعراق. هذا الميثاق وإن كان موقعًّا آبَّان حكم الشاه، إلاَّ أنَّه بقي نافذًا بعد تغيُّر النظام السياسي في إيران كما برهنت عدوانيَّة النظام الإيراني.

التحالف الاستراتيجي سراب في مخيِّلة عشَّاق فارس، لن يتحقَّق في ظلِّ المشروع الإيراني المضاد لمشروع النهضة العربيّة. فالنظام الإيراني الراهن أسوة بمثيله الذي سبقه، لا يمتلك أيًّا من مقوِّمات الحليف الاستراتيجي للأمَّة العربيَّة.

أكثر ما يثير الاستغراب في دعوات التحالف الاستراتيجي مع إيران، يكمن في أنَّ أصحاب هذا النهج غير المسؤول يقدِّمون إيران حليفًا استراتيجيًّا في الوقت الذي ما تزال تحتلُّ الأحواز، وتقمع أبناء شعبنا في عربستان وتمنعهم من ممارسه أبسط حقوقهم الثقافيَّة والدينيَّة والسياسيَّة. وما تزال تحتلُّ الجزر العربيَّة الثلاث. وما تزال تلمِّح باستمرار إلى فارسيَّة أقطار الخليج العربي، وتهدِّد أمن الأقطار العربيَّة وسلامتها. هؤلاء "الدعاة" يدعون للتحالف الاسترتيجي مع النظام الإيراني المصرِّ على إكمال مخطَّط تدمير العراق وقتل أبنائه وتشريدهم، ونشر الأمراض الطائفيَّة والممارسات المتخلِّفة وتحويل العراق أو جزء منه إلى مقاطعة فارسيَّة بدعم وتنسيق مباشر مع الولايات المتَّحدة و"الكيان الصهيوني" !

 

المعضلة الأساس لدعوات التحالف الاستراتيجي مع النظام الإيراني تكمن في انتفاء مقوِّمات هذا الصنف من التحالف وشروطه في العلاقة الضبابيَّة القائمة بين النظام الإيراني والأمَّة العربيَّة، أنظمة وشعبًا، كما بينَّا اعلاه. غالبيَّة هذه الدعوات تستمدُّ مبرِّراتها من تأثير العلاقة القائمة بين النظام الإيراني و "حزب الله"، وتقترح تبنِّيها أرضيَّة لإعادة صياغة العلاقات العربيَّة الإيرانيَّة. قد يمكن التعامل مع هذه الفرضيَّة بقدر كبيرمن الموضوعيَّة إذا فُهِمَت دوافع أصحابها. لكن لا يمكن القبول بالتعامل إيجابيًّا مع محاولات خلق "استحقاقات إيرانيَّة"، وإرجاع انتصار المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة على قوَّات "الكيان الصهيوني" إلى الدعم العسكري والمالي الإيراني فقط.

علاقة النظام الإيراني بـ "حزب الله"، وحجم المساعدات العسكريَّة الإيرانيَّة للحزب من الوضوح بمكان بحيث لا يمكن إغفالها أو التقليل من أهميِّتها أو تأثيرها. لكن ذلك لا يبرِّر تجيير انتصار المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة وتحويله إلى "استحقاق إيراني". فانتصار معركة 2006  يبقى بكلِّ المقاييس انتصارًا لبنانيًّا -عربيًّا لم ينجم عن المساعدات الإيرانيَّة لـ "حزب الله" تحديدًا، بل لتضحيات شعب لبنان وقواه الوطنيَّة قطعًا، وللتراكم النضالي المقاوم للقوى الوطنيَّة والقوميَّة التي أطلقت شرارة المقاومة قبل ولادة حركتي "أمل" و "حزب الله" بسنوات. بالتأكيد لا يصحُّ موضوعيًّا إغفال دور "حزب الله" وقيادته في إدارة معارك تموُّز وحسمها لصالح شعب لبنان والأمَّة العربيَّة. ولا يصحُّ موضوعيًّا أيضًا عزو النصر إلى "حزب الله" دون غيره من القوى الوطنيَّة، أو تجييره لصالح النظام الإيراني.

لا شكَّ أنَّ علاقة النظام الإيراني بـ "حزب الله "علاقة معقَّدة ومتعدِّدة الأبعاد، لذا من الخطاء التعامل معها بمقاييس أحاديَّة الجانب، أو تقويمها سلبًا أو إيجابًا عبر أنابيب اختبار ضيِّقة، أو بانتقاء تحليلات ساذجة وطوبائيَّة. ولا يصحُّ قراءتها بمعزل عن المعادلات السياسيَّة الإقليميَّة والدوليَّة، أو بمعزل عن الأهداف السياسيَّة الإيرانيَّة في المنطقة. استثنائيَّة هذه العلاقة واستنادها على اعتبارات خاصَّة تجعل منها علاقة يصعب استنساخها وتعميمها على علاقة إيران بأطراف عربيَّة أخرى.

ثمَّة مسلَّمة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها. الموقف الإيراني الإيجابي الداعم لـ "حزب الله"، لا يمكن ترجمته إلى موقف يعكس النوايا الإيرانية الحسنة تجاه الأمَّة العربيَّة. فمقابل الموقف الإيراني الإيجابي من "حزب الله" و "حركة حماس" هنالك العشرات من المواقف الإيرانيَّة العدوانيَّة، لعلَّ أكثرها وضوحًا دور النظام الإيراني المباشر في احتلال قوَّات "الشيطان الأكبر" العراق ومساهمته في تدمير أطر الدولة العراقيَّة. وإذا كان لا بدَّ من  قبول "المزايا" الناجمة عن الدعم الإيراني لـ "حزب الله" أساسًا لبناء علاقات التحالف الاستراتيجي مع الدولة الإيرانيَّة، فإنَّ الموضوعيَّة تفرض علينا أيضًا قبول النهج العدواني الإيراني كسبب لرفض مقترحات التعامل مع إيران أو اعتبارها حليفًا استراتيجيًّا.

هل المطلوب من شعب العراق وقواه الوطنيَّة صرف النظر عن الجرائم الإيرانيَّة لكي لا نكدِّر صفو العلاقة القائمة بين إيران و "حزب الله" و "حركة حماس"؟

هل يجب على أبناء الأمَّة التضحية بالعراق شعبًا ودولة وعمقًا قوميًّا من أجل تحرير مزارع  شبعا، أو تأمين هيمنة "حماس" على القرار الوطني الفلسطيني؟

هل المطلوب من شعب العراق التخلِّي عن هويَّته القوميَّة وقبول التغلغل الإيراني استنادًا على شعارات إيرانيَّة جوفاء؟

هل على المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة تعطيل برنامجها لتحرير التراب العراقي لكي لا ينزعج حكَّام قُم وطهران؟

نحن نؤمن بشكل قاطع بمركزيَّة الصراع مع "العدوِّ الصهيوني"، ونتعامل معه كأحد مرتكزات النضال القومي. لكن الإيمان بهذا المنطلق العقيدي الصائب لا يمنحنا أو الآخرين حقَّ إغفال الدورالاستراتيجي للمقاومة الوطنيَّة العراقيَّة، ولا تعويم المصالح الوطنيَّة لشعبنا في العراق.

إنَّ سجل العلاقات العربيَّة الإيرانيَّة يشير بوضوح إلى أنَّ الدعم الإيراني المحدود لبعض القوى والشخصيَّات العربيَّة يقابله كمٌّ هائل من الاعتداءات الإيرانيَّة التي تركت آثارها الكارثيَّة على الأمَّة العربيَّة ومسيرة تطوُّر الشعب العربي وتقدُّمه.

هل إيران عدوٌّ تاريخيٌّ للأمَّة العربيَّة؟

من قراءة فاحصة ومتأنِّية لتاريخ العلاقات العربيَّة الإيرانيَّة ولا سيَّما العراقيَّة الإيرانيَّة، نصل إلى نتيجة مفادها أنَّ الأقوام الإيرانيَّة كانت مهوسه بفكرة الاستحواذ على المراعي الخصبة والمياه الوفيرة، وسعت بشكل حثيث لاحتلال أراض وادي الرافدين وضمِّها لإماراتها وإمبراطوريَّاتها، تحقيقًا لأهداف توسُّعيَّة اختلفت مبرِّراتها باختلاف الحقبة الزمنيَّة. فلقد انتهزت إيران كلَّ الفرص التاريخيَّة لإثارة النزاع مع جيرانها العرب، واستغلَّت عهد ضعف دول ما "بين النهرين" بشكل خاص لمعاودة استفزازاتها وتحقيق مكاسب إقليميَّة على حساب شعب العراق والأمَّة العربيَّة، لا سيَّما السيطرة على ضفتي "شطِّ العرب" التي شكَّلت حلمًا تاريخيًّا للأنظمة السياسيَّة الإيرانيَّة المتعاقبة.

عندما توفِّي الشاه رضا خان، كتب في وصيَّته التي تركها لابنه محمَّد رضا بهلوي، (شاه إبران الأخير) يخاطبه فيها: "لقد حرَّرتُ الشاطىء الشرقي من النهر، "شطِّ العرب"، وعليك أن تحرِّرالشاطىء الغربي." (وصيَّة تحريضيَّة للاستمرار في معادة العراق والأمَّة العربيَّة واحتلال المزيد من الأراضي العربيَّة.)

السمة التاريخيَّة الثانية التي يسهل التقاطها من مراجعة تاريخ العلاقة الإيرانيَّة العراقيَّة أو العربيَّة، تكمن في أن التواجد العراقي/العربي في أراضي بلاد فارس، فرضته ضرورات دفاعيَّة بعيدة عن طموحات الضمِّ والاحتلال. وكان في كلِّ الحالات تواجدًا مؤقَّتًا مرهونًا بمرحلته الزمنيَّة الضروريَّة لردع العدوان وإزالة الخطرعن شعب العراق. 

قد يُعتبر اللجوء إلى التاريخ القديم مدخلاً غير موضوعيٍّ، وغير مُجدٍ لتقويم السياسة الإيرانيَّة الراهنة تجاه الأمَّة العربيَّة! اعتراض وجيه ومشروع، سآخذ به، وأركن جانبًا كمًّا هائلاً من الأدلَّة التاريخيَّة على عدوانيَّة الأقوام الفارسيَّة وطموحاتهم التوسعيَّة. للننظر في التاريخ الحديث، وما يقدِّمه لنا، ولا سيَّما في  مرحلة ما بعد قيام الدولة العراقيَّة الحديثة، من أدلَّة على النهج العدواني للدولة الإيرانيَّة. لن أتطرَّق إلى ملفِّ الاحتلال الإيراني لشعبنا في الأحواز كدليل على النهج الاستعماري للدولة الإيرانيَّة، ولا إلى التجاوزات الفارسيَّة وتهديدها أمن الأقطار العربيَّة الخليجيَّة المزمن، ولا إلى الإصرارعلى احتلال الجزرالعربيَّة الثلاث "طنب الكبرى" و "طنب الصغرى" و "أبو موسى". سأركِّز فقط على النهج الإيراني العدواني تجاه شعب العراق خلال العقود التسعة الماضية.

مَن يراجع تاريخ العلاقات العراقيَّة - الإيرانيَّة في مرحلة ما بعد تأسيس الدولة العراقيَّة الحديثة، يرصد بيُسرٍ وسهولة ظاهرتين تعبِّران على النهج الإيراني المعادي للعراق والأمة العربيَّة:

الظاهرة الأولى، تتمثَّل في ممارسة الحكومات الإيرانيَّة المتعاقبة تأزيم الموقف مع الدولة العراقيَّة ولا سيَّما إثارة ملف النزاع الحدودي كلَّما حاولت الأخيرة إجراء إصلاحات سياسيَّة واقتصاديَّة.

أمَّا الثانية، فتكمن في دأب الدولة الإيرانيَّة على رفع مستوى تدخُّلاتها في الشأن العراقي، ومصادرة أراض عراقيَّة، وعرقلة الملاحة في "شطَّ العرب" كلَّما تعرَّضت الدولة العراقيَّة لتحدِّيات خارجيَّة أو  تغييرات داخليَّة.

نكتفي في عرض عيِّنة  صغيرة جدًّا من سلسلة الاعتداءات الإيرانيَّة على الدولة العراقيَّة والأمَّة العربيَّة دون الدخول في تفاصيل تلك الاعتداءات:

إثر استقلال العراق عام 1932، نفَّذت إيران سلسلة من التجاوزات على الأراضي العراقيَّة، وأعلنت عدم التزامها بمعاهدة "أرضروم" و "بروتوكول عام 1913"، ومحاضر "جلسات سنة 1914". أعقبت ذلك في شنِّ سلسلة من الاعتداءات العسكريَّة، وعمليَّات عرقلة الملاحة في مياه "شطِّ العرب". تلك التجاوزات استمرَّت بشكل تصعيدي حتَّى توقيع  "معاهدة الحدود" في 4 تموُّز 1937.

سنة 1940، أقدم الجانب الإيراني على الانسحاب من لجنة "الحدود العراقيَّة-الإيرانيَّة" بعد ثبوت  التجاوزات الإيرانيَّة على الأراضي العراقيَّة في منطقة "أم شير" في محافظة "ميسان". وبدأت في ممارسة حملة جديدة من الاعتداءات العسكريَّة المسلَّحة وعرقلة مسار الملاحة في "شطِّ العرب".

 بعد قيام ثورة 14 تموُّز 1958، أثارت إيران بدون أيَّة مقدِّمات الملف الحدودي، واستولت عسكريًّا على أراض عراقيَّة جديدة منتهزة انشغال الحكومة العراقيَّة في إرساء أسس النظام الجديد.

 إثر نجاح ثورة 17 -30 تموُّز 1968، صعَّدت إيران مستوى تدخُّلها المباشر في الشأن العراقي، فغذَّت بالتنسيق مع الدوائرالأمريكيَّة عمليَّات التآمرعلى النظام الوطني التقدُّمي وموَّلتها، وشجَّعت الحركات الطائفيَّة ودفعتها لممارسة عمليَّات خرق أمن الدولة العراقيَّة، ودعمت العصيان المسلَّح  لـ "الجيب العميل" في شمال العراق بالتعاون والتنسيق المباشر مع "الكيان الصهيوني"، واستمرَّت على نهجها العدواني وتجاهلها بنود الاتِّفاقيَّات الموقَّعة بين البلدين بشكل سافر ووقح.

 في 19 نيسان 1969، أعلنت إيران إنهاء "معاهدة الحدود" الموقَّعة عام 1937 بشكل منفرد. وفي سنة 1974، صعَّدت إيران مستوى تجاوزاتها المسلَّحة المباشرة على العراق، الأمر الذي دفع الحكومة العراقيَّة إلى رفع شكوى رسميَّة إلى الأمم المتَّحدة .

من الضروري أن نثبت أنَّ الاعتداءات العسكريَّة الإيرنيَّة ومساعي تأزيم العلاقة، كانت أحاديَّة الجانب، فلم يشهد تاريخ العلاقة بين البلدين اعتداء عراقيًّا أو تجاوزًا عراقيَّا على الحقوق والممتلكات الإيرانيَّة.

إثرانهيار نظام الشاه، تطلَّع أبناء الأمَّة العربيَّة وأبناء شعب العراق بشكل خاص بأمل ومودَّة إلى حكَّام طهران الجدد، مأخوذين بمفردات خطاب إيران "آيات الله" السياسي، ومتطلِّعين الى نمط جديد من العلاقات مع الجارة الشرقيَّة. غير أنَّ هذا الأمل سرعان ما تلاشى بعد أن برهنت الأحداث على أنَّ القادمين الجدد لا يقلُّون أذى وحقدًا وعنصريَّة وعداء لشعب العراق والأمَّة العربيَّة عن نظام الشاه. أستأنف النظام الجديد النهج العدواني إزاء العراق والأمَّة العربيَّة مستخدمًا خطابًا دينيًّا أكثر عنفًا وتحدِّيًا لمشاعر شعب العراق وسيادته الوطنيَّة وانتمائه القومي. هذا النهج العدواني التوسُّعي، بلغ ذروته في الاعتداء العسكري المباشرعلى السيادة العراقيَّة، والحرب الغاشمة التي شنَّتها إيران على شعب العراق في 4 أيلول عام 1980. المسوؤليَّة الإيرانيَّة في شنِّ الحرب على شعب العراق وإطالة أمدها، موثَّقة بشكل قانوني وموضوعي لا يمكن دحضه.

التدخُّلات الإيرانيَّة في الشأن العراقي لم تتوقَّف بعد قبول إيران إيقاف الحرب بعد ردحٍ طويلٍ من التعنُّت، وبعد الهزيمة النفسيَّة وظهور بوادر الهزيمة العسكريَّة الشاملة، بل استمر َّ النظام الإيراني مواصلة نهجه العدواني، وإصراره على تدمير الدولة العراقيَّة، وخلق "تؤام إيراني" داخل الأراضي العراقيَّة. ففي سنة 1991، لعب النظام الإيراني دورًا مباشرًا في نشر الفوضى الدمويَّة التي تعرَّضت لها مدن العراق الجنوبيَّة إثر تعرُّض القوَّات المسلَّحة العراقيَّة لاعتداء تحالف عسكري عدواني قادته الولايات المتَّحدة وشاركت فيه 33 دولة.

موقف النظام الإيراني المشين من احتلال العراق موثَّق، ودوره في زرع الاستقطاب الطائفي وتصعيده، وتشجيع نزعة العنف والقتل على الهويَّة، ونشر صناعة الجريمة بكلِّ أصنافها، وزرع ثقافة القتل والتشريد الطائفي، ونشر الممارسات المتخلِّفة، وهدم البُنى الحضاريَّة والمؤسَّسات العلميَّة، وقتل العقول العراقيَّة وتصفيتها وتشريدها خارج حدود الوطن، واغتيال أبطال القوَّات المسلَّحة العراقيَّة ورجال الدولة. كلُّ هذه الأدوار مؤثَّقة بشكل لا يحتمل الخلاف. هذه الحقائق المؤلمة التي يعاني منها شعبنا يوميًّا، غدت مطرَّزة في ذاكرته الوطنيَّة، ولن ينجح "عشَّاق إيران" ودعاة التحالف الاستراتيجي في إزالتها.

تأسيسًا على كلِّ ما تقدَّم عرضه في هذه المساهمة بجزئيها، كانت إيران وما تزال تحمل سمات العدوان التاريخي للأمَّة العربيَّة، وأنَّ النظام الإيراني بمشروعه السياسي التوسُّعي المعادي مصالح الأمَّة العربيَّة ومستقبل أجيالها لا يمكن أن يكون حليفًا أو عمقًا استراتيجيًّا لها.

قبل أن يتخلَّى النظام الإيراني عن نزعته العدوانيَّة تجاه العراق والأمَّة العربيَّة، ويوقف تدخُّلاته ومشروع تفريس شعب العراق، فإنَّ دعوات التحالف الاستراتيجي مع إيران يجوز نعتها بكلِّ النعوت باستثاء كونها دعوات مسوؤلة أو منطلقة من قواعد الحرص على المصالح القوميَّة.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاحد / ۹ شعبان ١٤٢۹ هـ

***

 الموافق ١١ أب / ٢٠٠٨ م