الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

رادوفان كارادجيتش وصدام حسين : محاكمتان وثقافتان

 

 

شبكة المنصور

يحيى اليحياوي / باحث وأكاديمي من المغرب

 

قد يكون من غبن السياق حقا، ومن التجاوز على الوقائع والأحداث أيضا، إعمال مدخل المقارنة لقراءة سيرة وسلوك زعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كارادجيتش، والرئيس الشهيد صدام حسين. فالرجلان نتاج بيئة متباينة، بالشكل والبنية والمضمون. وهما مختلفان بجانب التطلع والطموح، وهما فضلا عن كل ذلك جاءا للحكم في ظروف مختلفة للغاية، وأزيحا منه بظروف مختلفة، انتهت بإعدام أحدهما، ودارت الأيام على الثاني ليجد نفسه مساءلا عما قدمت يداه وما أخرت، عندما كانت المجازر بحرب البلقان تضرب الأطناب. إن قدر الرجلين حكمته حسابات ظاهرة وباطنة، وتحكمت فيه ترتيبات خفية ومعلنة، وانتظم مصيرهما معا في زمن قطبي الطابع والطبيعة، يقتل بلا حساب، يحاصر الدول دون وازع أخلاقي، ويختطف البشر ضدا على القوانين والشرائع، ويدعي بظل كل ذلك بوجود عدالة دولية، تمهل ولا تهمل.

 

ليس من الأهمية في شيء، معاودة الحديث في الذي جرى بالعراق قبل وبعد الاحتلال وإلى اليوم، ولا التذكير بما وقع بيوغوسلافيا السابقة، عندما كان كارادجيتش بالسلطة، بداية وأواسط تسعينات القرن الماضي. إن مدعاة الحديث هنا إنما هو تبيان بعض من أوجه الشبه والاختلاف بين شكل محاكمة الرجلين، بصرف النظر عن مضمون وخلفيات وتداعيات ما قاما به، عندما كانا بالسلطة يأمران وينهيان، دون حسيب أو رقيب. قد يكون وجه التشابه الأول بين الرجلين ظهورهما وقد أكل الشعر من محياهما ورأسيهما، لدرجة تعذر التعرف عليهما لأول وهلة. كان الشعر الكثيف المرتب والنظيف، عنصر تخف وتمويه بالنسبة لكرادجيتش، في حين قدم الرئيس/الشهيد صدام حسين بشعر أغبر متسخ، غير متجانس، ليعطي الانطباع قصدا بأن الرجل أخرج حقا وحقيقة من حفرة عفنة، كان يتعايش من بين ظهرانيها مع أعشاش الحشرات وخيوط العنكبوت.


لم يكن الرئيس/الشهيد متخفيا خلف كثافة الشعر، ولا كان إطلاق لحيته بغرض التمويه، بقدر ما كانت تعبيرا من لدن رجل أسقط نظام حكمه، واعتقل رجاله، وقتل ولداه وحفيده، وشردت عائلته، وبات بين أهله وذويه مطاردا، مستقصدا كما لو أنه مجرم قاتل.


أما أوجه الاختلاف بين ظروف اعتقال الرجلين وتقديمهما للمحاكمة، فهي متباينة لحد الانتفاء بأكثر من زاوية: + فالرئيس/الشهيد قدم للإعلام، باعقاب إلقاء القبض عليه، رث الثياب، شاحب الوجه ، في حين لم تعمد الحكومة الصربية على بعثرة شعر وجه ورأس كارادجيتش، ليبدو بالإعلام شيخا مترهلا، فاقدا لحاسة التمييز. على العكس، فلم نر منه بالفضائيات إلا وجه رجل مدثر بشعر نظيف، فائق التصفيف، تماما كما كان حاله عندما كان يمارس عمله بإحدى المصحات الخاصة، طيلة فترة تخفيه.


+ والرئيس/الشهيد أدخل قاعة المحكمة مقيد اليدين والرجلين، محاطا برجال أمن خشنين يجرانه، ولم تسحب عنه القيود والسلاسل إلا وهو بردهات 'المحكمة'، بثياب لازمته طيلة 'المحاكمة' وإلى حين الإعدام/الاغتيال، في حين دخل كارادجيتش المحكمة ببذلة متجانسة وأنيقة، بربطة عنق، حاملا بيمناه حقيبة سوداء 'دبلوماسية'، محاطا عن بعد بعنصري أمن، غير مقيد اليدين ولا الأرجل، حليق الذقن، مصفف الشعر، يبدو للناظر إليه ولكأنه حقا وحقيقة بإزاء رئيس صرب البوسنة، وليس بإزاء متهم بارتكاب جرائم وفظاعات ضد بني البشر.


كان بمستطاع كارادجيتش تسجيل ملاحظاته بورقة، في حين بلغ الضيم بالرئيس/الشهيد لدرجة حرمانه من الورق والقلم، فسجل بعضا من دفوعاته بصفحة يده، بعدما استحال عليه الحصول على بعض من المداد والقرطاس، من لدن السجان الأمريكي الصلد.


+ بقاعة المحكمة بدا كارادجيتش جالسا على كرسي وثير ومريح، بنفس مستوى القاضي والادعاء العام، مرتاحا للغاية، حتى وإن بدا على وجهه بعض من التعب، يتعامل معه رئيس المحكمة بلطف واحترام، يقرأ عليه لائحة الاتهام، يستشيره في سبل تكوين هيئة دفاعه، يحدد له الآجال القانونية للقبول أو الطعن، دون زجر أو ترفع أو نهر. هو، بطريقة تعامل المحكمة معه، بريء كل البراءة إلى أن تتم إدانته، بالتالي فلا مجال، والحالة هذه، للخشونة، أو لإعمال التعنيف بالألفاظ، أو التجاوز على مقام الشخص المتهم.


في حين كانت 'محكمة' الرئيس/الشهيد حبلى بالخشونة والترفع، تنهر 'المتهم'، تتطاول على محامي الدفاع، لدرجة التعنيف المباشر، والطرد، والتهديد بالتوقيف والسجن. بذات المحكمة برز جليا واضحا أن ثمة مماهاة مطلقة بين القاضي والمدعي العام، كلاهما يضمران إدانة الرجل، ومتابعته على أفعال رتب لها الشهود، وصيغت لفائدتها الدلائل والحجج، وتم تزكية كل ذلك بصور من هنا وهناك، مبتورة من سياقها كل البتر، لكنها مصاغة بطريقة تحيل على الإدانة المباشرة، دونما أدنى اجتهاد.


لم يكن بـ'محاكمة' الرئيس/الشهيد من مجال لصيانة كرامة الرجل، أو ضمان الحد الأدنى لمقامه السابق، أو توفير الحماية لهيئة دفاعه، أو تمكينه من لقاء ذات الهيئة إلا فيما ندر. كل شيء كان يشي ويحيل على الإدانة، المفضية قطعا وصوبا لإنزال العقوبة القصوى بالرجل.


+ كان الرئيس/الشهيد يدرك تمام الإدراك، أن 'للمحكمة' وللثاوين خلفها، معه ثأر، ولم تكن 'المحاكمة' بعينه كما بأعيننا، إلا مسوغا لتثبيت حكم محسوم، مؤداه التخلص من الرجل بسرعة قياسية تجنبا لفضح المستور، وإيذانا بانتهاء مرحلة، أراد الأمريكان طيها بقطع رأس النظام. لم ينصت الأمريكان للمطالبات بترحيل الرجل إلى دولة محايدة لمحاكمته، خشية الفضيحة، بل أصروا على مقاضاته أمام غرماء له، حقودين، لم يكن ليشفي غليلهم إلا نصب المشنقة، ورؤية جسده متدليا منها جثة هامدة.


لم يكن ثمة من حائل يحول مبدئيا دون محاكمة كارادجيتش بصربيا، حيث جغرافيا الجريمة، ولم يكن ثمة من مانع يمنع قادة صربيا من طلب نقل محاكمته لبلغراد، عوض لاهاي (بترتيب ما مع المحكمة الجنائية الدولية)، لكنهم آلوا ترحيل المتهم لهولندا، ضمانا للحيادية وتوفيرا للحماية...ضمن حسابات سياسية أخرى دون أدنى شك.


كان كرادجيتش، بجلسة محاكمته الأولى مخيرا، في حين كان الرئيس/الشهيد، طيلة مراحل 'محاكمته' مجبرا. كان الأول مطمئنا في قرارة نفسه، في حين كان الثاني مضجرا، محاصرا، غير ذي اعتبار يذكر، بأعين 'المحكمة'، حتى إذا دقت ساعة نطق 'الحكم' انتصب متحديا، غير آبه بالمنطوق، مقدما العراق والأمة، على حاله وما آل إليه مصيره وقدره.


وبنفس تفاصيل إدخاله قاعة 'المحكمة' لأول مرة، تم دفعه للمقصلة، مكبل اليدين من الخلف، موثوق الرجلين لدرجة تعذر الحركة، لكنه كان، وهو ينطق الشهادة، جبارا، قويا، متعاليا، متحديا الموت، كونه كان قد تخلص من جسده من مدة، غير مكترث بعبث الغوغاء بذات الجسد، وروحه بين يدي ربه.


لن يلقى كارادجيتش نفس المصير، حتى بحالة الإدانة القصوى، سيبقى بالسجن لمدد قد تطول وقد تقصر، حتى إذا وافته المنية بمرض عضال، أو بانقضاء أجله، سيتم ترحيل جسده، ليسجى ضمن 'كبار القادة الصرب'، شأنه في ذلك شأن ميلوسوفيتش.


كثيرة هي العبر التي يمكن للمرء استقراؤها واستخلاصها وتسجيلها، بالارتكاز على ما سبق، أزعم أن أقواها على الإطلاق، احترام الغرب المسيحي لآدمية أبنائه، العادلين منهم كما الظلام على حد سواء، وتكريمهم بحياتهم كما بمماتهم، صالحين كانوا أم طالحين.


وأزعم أيضا أن أهم العبر الأخرى، استهتارنا نحن، لدرجة إهانة بني البشر من بين ظهرانينا، أمواتا كانوا أم أحياء، ظالمين وأهل عدل سواء بسواء.


لعنة الله على الأمريكان وعلى أدواتهم بالعراق، وهم يغتـــــالون سيد قوم من بيـــــنهم، أذلوه وأذلونا باغتياله أمام الملأ، ذات يوم عيد والمسلمون مرابطـــون بموقف جلل، تحرم على المرء وهو بذات الموقف، أبسط الأفعال... فما بالك بالكبائر.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء / ١٧ شعبان ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ١٩ أب / ٢٠٠٨ م