من يقف وراء استهداف المسيحيين في العراق ؟

 

 

شبكة المنصور

د. أكرم المشهداني

 

منذ غزو العراق في 2003 وحتى اليوم، يتعرض المسيحيون، ومعهم عدد من الطوائف والاقليات العراقية الاخرى الى حملة استهداف شرسة وخبيثة، تمثلت في اعمال القتل والتهجير والاستهداف التخريبي بالمتفجرات لدور العبادة وحرق الكنائس، سعيا من اجل إثارة النعرات الطائفية والعرقية في البلد الذي مزقه الاحتلال والفساد والحكم الطائفي، واختلال الامن وتحول العراق الى ساحة للصراعات الاقليمية وتصفية الحسابات، ولقد تعرض المسيحيون العراقيون ومعهم الصابئة والايزيديون والكلدوآشوريون والشبك الى اعتداءات ارهابية مرفوضة ومستهجنة من كل العراقيين الذين عاشوا قرونا متحابين ومتآلفين متوحدين تحت خيمة الوطن الواحد وراية العراق الواحد. حتى جاء الغزو الهمجي بكل اجنداته وصفحاته وعملائه ومن ادخلهم معه، من القوى والتيارات التي لاتهمها مصلحة العراق ولا امنه ولا تعايش اهله ولا وحدة العراق حيث ان دستورهم المسخ كرس التفرقة والتشتت وتقسيم العراق. فتوالت الاحداث الماساوية مستهدفة الكنائس ودور العبادة واغتيال الرموز الدينية وتصعيد حملات التهجير.

 

واخيرا تاتي الاخبار السيئة من الموصل بان هناك حملة توزيع منشورات تهديد القيت على دور المواطنين المسيحيين في بعض مناطق الموصل تهدد وجودهم وتنذرهم بالرحيل او الموت، واذا كانت الجهات التي تقف وراء هذه الحملة تدعي الاسلام فان الاسلام دون ادنى شك منها براء، ولا يمكن ان تصدر مثل هذه المنشورات عن جهات تدعي مقاومة الغزاة او تحرير العراق، لأن المقاومة تستهدف اخراج المحتل وليس ابناء الوطن الاصلاء.  

 

وحسنا فعلت هيئة علماء المسلمين اكبر مرجعية دينية في العراق حين اصدرت بيانا نددت فيه بهذه الافعال الاجرامية التي وصفتها بانها افعال لايقرها الاسلام ولا تعاليمه السمحاء، التي عاش في ظلالها المسلمون وغيرهم من ابناء الديانات الاخرى في تسامح وامن وسلام قلّ نظيره في التاريخ الانساني، حيث حفظ الاسلام حقوق الاقليات ونالت في ظله كامل حقوقها، لكن ما يحصل اليوم في ظل الاحتلال الذي افسد القيم واشاع الفوضى والفساد، وما يحصل في ظل الاداء الحكومي السيئ الذي كان خاتمته الغاء مادة كاملة من قانون المحافظات ترعى حقوق الاقليات والطوائف، لان المستاثرين بالسلطة اليوم لا يريدون ان ينازعهم فيها احد ولا يريدون ان يفسحوا المجال لحرية التعبير. كما ان هذه الافعال الاجرامية تسئ الى المقاومة العراقية التي تبرأ من هذه الافعال والتوجهات الغريبة على عقل وفكر العراقيين، فضلا عن ان المسيحيين ومعهم سائر الطوائف والاقليات الاخرى قد أثبتوا بعد الغزو الاثيم وطنيتهم وعراقيتهم وتمسكهم بالعراق ورفضوا كل اغراءات الهجرة التي وفرّتها لهم دول معينة لمقاصد معروفة، ونتمنى على المسيحيين العراقيين الاصلاء وغيرهم من طوائف العراق الاحرار ان لا تؤثر هذه المنشورات ولا الافعال الاثيمة في مواقفهم ولا تضعف من معنوياتهم وحبهم وتمسكهم بالعراق، وان يكونوا اصلب عودا واشد التصاقا بوطنهم.

 

اننا نبرأ الى الله من كل يد آثمة تؤذي عراقيا مهما كان دينه او مذهبه او عقيدته او طائفته، فوالله ان هؤلاء الذين يسميهم الاشرار بـ"اهل الذمة"، ماهم الا عراقيون اصلاء اقحاح بل هم اكثر عراقية ووطنية والتصاقا بالعراق من كثير من الادعياء والعملاء المرتبطين بالاجنبي والمحسوبين على الاسلام والذين يسيئون للاسلام والاسلام منهم ومن فعالهم براء.

 

ان الافعال الإجرامية التي تستهدف المسيحيين وغيرهم تتعارض مع مقتضيات الوحدة الوطنية التي هي سلاح العراقيين اليوم في مواجهة الهجمة الصهيونية الامريكية الصفوية على العراق، ومن ينفذها فانما يخدم اعداء العراق.

 

أن انفلات العنف وغياب سلطة القانون واستشراء دور المليشيات ضاعف من تقليص فرص الحماية بالنسبة للمواطنين المسيحيين في عدد من مناطق العراق وبالاخص الموصل والبصرة وبغداد وكركوك، خصوصاً أنهم بطبيعتهم مسالمون آمنون  ليست لديهم ميليشيات ولا عشائر تحميهم وتدافع عنهم، ولقد تدنت نسبة المسيحيين في العراق بعد الغزو الامريكي، اذ كانت نسبة المسيحيين في العراق قبل الاحتلال تبلغ نحو 3%، أي بما يراوح بين 750 و900 ألف. أما اليوم وبسبب ارتفاع منسوب الهجرة ومعدلاتها، فقد انخفض عددهم إلى حدود 500 ألفً، وهم يعيشون في هلع دائم وخوف مستمر، خصوصاً أنهم أصبحوا هدفاً مباشراً لأعمال الانتقام والتطهير والابتزاز، لدرجة تدفع إلى الاعتقاد بأن أعمال التنكيل والاستهداف المنهجي، تقترب من الإبادة والاستئصال وإذا كانت بعض بلدان أوروبا قد عرضت على بعض اللاجئين المسيحيين حق اللجوء كما أكّد ذلك كوشنير وزير خارجية فرنسا وشوبل وزير خارجية ألمانيا، فإن هذه العروض وغيرها لاتلقى حماسة من المسيحيين العراقيين الاصلاء المتجذرة اصولهم في تراب العراق وتاريخه وماءه وهواءه،  فمشكلة المسيحيين الاولى كما هي مشكلة كل العراقيين الاساسية ألا هي "وجود الاحتلال"، ونتائجه المتمثلة في انفلات الأمن، والتقاسم الوظيفي والمذهبي والطائفي، وغياب مبادئ المواطنة والمساواة التامة، ناهيكم عن سعي بعض الجهات لاضعاف وتخريب روح التسامح والعيش المشترك الإنساني، التي امتاز بها العراقيون.

 

إن وقف مأساة المسيحيين وسائر الأقليات والطوائف العراقية الأخرى لا يتم إلا من خلال طرد الأحتلال، وتنظيف العراق من ركائزه وأعوانه، وإستعادة الدولة العراقية الأصيلة القائمة على أسس ديمقراطية تستعيد هيبتها، وسلطتها، وبناء مؤسساتها الوطنية الأمنية والعسكرية والخدمية على أسس وطنية حقة، لاتعرف المحاصصة ولا الولاءات المذهبية والعرقية، في اطار المواطنة الكاملة لجميع العراقيين دون نقصان، وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.

 

يقينا فإن استهداف المسيحيين وإكراههم على الهجرة يشكّل خسارة جسيمة للنسيج المجتمعي العراقي وللثقافة العراقية، حيث شارك المسيحيون بحيوية متميّزة في إثراء وإغناء الفكر والثقافة في العالم العربي في حقول العلم والأدب والفن وغيرها، ليس في العراق فحسب، بل إن المسيحيين العرب كان لهم دورا مشرّفاً في حركة التنوير والإصلاح ومن ثم في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية والدفاع عن مصالح الأمة العربية ومستقبلها، إضافة إلى الأقوام والملل الأخرى، كجزء أصيل من الموزاييك العراقي والعربي ومن المشترك الإنساني والسلام المجتمعي.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاربعاء  / ٠٩ شـوال ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ٠٨ / تشرين الاول / ٢٠٠٨ م