غزو واحتلال العراق وإعدام الرئيس صدام حسين .. (*)

 

 

شبكة المنصور

جلال / عقاب يحيى

 

(( كلمات مدخل ... يقترب عيد الأضحى المبارك، فنستعيد تلك اللحظات المحفورة في العين والعقل : منظر الرئيس صدام حسين وهو يواجه الاغتيال ... حقدّ أسودّ يلفّ القاعة، وجوه مليئة بثقوب العمالة، والخيانة، وإرادة قدّت من فولاذ مسيرة طويلة، فما عرفت الانحناء، والتخاذل ..


تنظر العينان وهما تبرقان في الجمع المنتشي( بالنصر)، يبتسم الرئيس لهم ومنهم، كأنه في عالم آخر . كأنه يطير، يتجاوز اللؤم، والخيانة، والقرار الأمريكي، وأدوات التنفيذ . يمسك قرآنه الذي رافقه الشهور الحالكة . يرفض وضع العصابة على عينيه، ينظر بالحضور: يتملاهم . يتفرّسهم ليعرف ويتأكد أنهم عراقيون فعلاً، أم أذناب، وتبّع، كأنه يشكّ .. كأنه يتأكد أنهم لا يمتون لشعب العراق الذي عشق، وأفنى العمر في سبيله، واعتقد أنه قدّم الكثير له، وللأمة العريقة ..إنه يعرف قليلهم، ويجهل معظمهم، أولئك القادمون لاحتلال العراق بجلباب وجواز سفر عراقي، وذهنية أخرى .. ذهنية خارجية ترتبط بطيّات التاريخ الملتبس ..


يبتسم مرة أخرى، وقد علا ضجيج الحقد المتراكم .. يقولها لهم بثباته المعهود :(( هو هاي هي المرجلة))... ينطق بالشهادتين، مرة، ومرتين، وما يكمل الثالثة ...


قرار غزو العراق عن سابق إصرار وتخطيط ..



إذا كانت الجرائم السابقة ممهدات لتلك المجموعة الإجرامية، فإن غزو واحتلال العراق، ثم ما تلا ذلك.. يمثل الجريمة الإنسانية الأ7بشع لتلك العصابة التي كشفت عن وجهها القبيح، وجرّت العالم كله إلى حالة من الحقد ضد الأمريكان، لم يحدث لها مثيل ، وإلى أزمة اقصتادية طاحنة نقرأ بعض حروفها في العراق ..


ـ إن رصد ما جرى للعراق يحتاج كتاباً وأكثر، وقد سبق لي أن تناولت بعض الجوانب في عدد من المقالات التي نشرت في الصحافة الجزائرية، وعلى مواقع /الأنترنيت/، لذا سأكتفي ببعض النقاط المفصلية :


1 ـ كما ذكرت، كان قرار احتلال العراق متخذاً، والمخطط معدّ بتفاصيله، وبقي الإخراج الذي تولته مجموعة محافظة، متصهينة، ضربت عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية، وبسمعة الولايات المتحدة( ما تبقى لها من سمعة)، وبقوانين الأمم المتحدة، والمواثيق الناظمة للعلاقات بين الدولن واحترام سيادتها، واختياراتها .


كانت المقدمات فاضحة التصنيع، ساذجة التركيب، لكنها تسوّق عبر آلة إعلامية ضخمة تجوب العالم وتحضّره لفعل قادم( سيخلص البشرية من أهم أعداء الديمقراطيات، والذي يهدد الأمن والاستقرار الدوليين) !!... تصوروا !!..


الحجة : أسلحة الدمار الشامل، وفرق التفتيش التي جابت العراق طولاً وعرضاً، ودمرت كل ما وجدته، وقدّمت تقاريرها، تقول : أنها لم تجد ما يشير إلى وجود صناعة نووية، أو بيولوجية، أو كيمائية، ومصانع الدجل الأمريكي، على أعلى المستويات تنتج العجائب( وثائق) لا يأتيها الباطل..


الحجة قد لا تكفي، فتدمج : بتعاون العراق مع القاعدة، ويجيء بحث كلاب الأثر عن تلك العلاقة، ولا يجدون شيئاً، لكن العصابة، ورأسهاالغبي، مصرّة ..( العراق يتعاون مع القاعدة رغماً عن كل الحقائق) !! ..أليست أمريكا من يقول ذلك ؟!!..


الذريعة الثالثة : النظام الدكتاتوري، ونقل الديمقراطية على طائرة الشبح وقاذفات ال52، وعبر ملايين القذائف المحرّمة دولياً ، المنضّب والفسفوري، والمحرّم، والقاتل للبيئة والحياة والأطفال، والعراق، ( لأن العراق يستحق أن يصير ديمقراطيا، وعلى الكريقة البوشية، أو الرامسفيليدية، والديكً شينية، وولفووتز، وغيرهم من الدمويين)، و" شرّ البلية ما يضحك ..


2 ـ التحضيرات باتت جاهزة، تبحث عن جواز مرور، لكن ( أوربا العجوز) التي تدرك حقيقة الكذبة، ومخاطر هذه العصابة المجرمة على العراق، والعالم، وعليها، تفضح المقصد، وتمتنع، والرأي العام العالمي يرفض بقوة، خاصة في بلدان أوربا حرباً مفضوحة الأهداف، فترفض الأمم المتحدة منح الغطاء،( وما زالت دماء أفغانستان تنزف)، لكن بوش المندفع، (الكابوي) الحالم بإمبراطورية تخلد اسمه بالدم، لا يقيم وزناً لا للمؤسسة الدولية( التي كانوا يلجأون إليها كلما احتاجوا قراراً يكبّل الشعوب)، ولا لأوربا( لأنها عجوز، أما فتيانها من " شبان أوربا الشرقية" المتحمسين للانضمام إلى الجزمة الأمريكية، فهم البديل)، ولا للرأي العام العالمي، وكل أصوات التحذير والرفض . ويعرق( الجنرال السابق، وزير الخارجية، كولن باول، وهو يشرح بالصور والأرقام" الملتقطة" من الأقمار الصناعية !!)، وهو يشرح صناعات العراق التدميرية( المتنقلة على الشاحنات، وفي الكهوف والمغاور..)، فلا يجد سوى الماسوني المغلف، كلب بوش، أنطوني بلير يصدقه، فيزيده " وثائقاً" بأخرى.. أخذت من رسالة ماجستير لطالب عراقي بائس، معارض ..( يندم باول أشد الندم عندما يكتشف الكذبة، ويقول أنها أكبر خديعة مورست عليه، لكن أين يصرف هذا الندم؟، ومن يحاسب المجرم ؟؟) ..


3 ـ لا أدري، بالضبط مدى قناعة القيادة العراقية بتحضيرات الحرب الوشيكة عليها، وقناعة الرئيس صدام بالذات( صاحب القرار) بجدية الغزو، واحتمالاته، وهل تعاطت على هذا الأساس؟، وهو ما أفترضه، ذلك أن واحداً مثلي، مجرد سياسي لا يملك أجهزة ووثائق، واتصالات كان متأكداً بأن الغزو قادم لا محالة .. فكيف بقيادة عراقية تحت تصرفها كل الإمكانيات، والأمر مصيري بالنسبة إليها، وإلى البلد ؟؟.


أذكر ذلك لأقول : أن من يقدّر حتمية الغزو لا بدّ أن يفكر بطريقة ما للتعامل معه . ولأن القيادة العراقية كانت تدرك، أو هكذا يجب أن يكون، أن الهدف ليس شخصية صدام حسين، ولا حتى نظامه( يجب التذكير بمشاريع واقتراحات مغادرة صدام حسين للحكم، خاصة " مبادرة " رئيس الإمارات العربية المتحدة : زايد بن سلطان، وكان يعتقد أن موافقة الرئيس العراقي عليها ستجنّب العراق الحرب، وأعتقد أن هذا الاعتقاد لا أساس له من الصحة، لأن القرار متخذ، وكل التحضيرات جاهزة لساعة الصفر المحددة، فرفضته القيادة العراقية) ..


ـ وطالما أن هدف العدوان هو العراق، وطالما أن القيادة العراقية لن تستسلم، وترفع الراية البيضاء، وطالما أنها تدرك بتجربتها في الحرب الأولى( وكانت ظروفها أفضل بما لا يقاس في جميع الميادين) أنه لا طاقة لها بتحقيق الفوز على الغزاة، فمن الطبيعي أن تفكر بوسيلة لمقاومته، وهي المقاومة المعدّة سابقاً .


لذلك لم أكذّب الأخبار التي أكّدت أن العراق، وقبل عامين ويزيد قليلاً كان يعدّ مقاومة مستقلة بأعداد كبيرة من خيرة الضباط والحزبيين، وكان يشرف عليها الرئيس شخصياً، ويمولها بكل ما يلزمها من الأموال والأسلحة، والمعدات، والمخابئ، وغيرها... وهذا ما يفسر تلك السرعة الخارقة في بدء عمليات المقاومة بعد أيام قليلة من سقوط بغداد، وما يفسره البعض بقول الرئيس المغتال في خطابه قبيل الحرب (( سينتحر الغزاة على أسوار بغداد).. لتكون أسرع مقاومة في العالم .



4 ـ لم يخالجنا الشك بأن العراق لا طاقة له بهذه الغزوة الجهنمية، فهو يعاني سنوات حصار لم يعرفلها التاريخ مثيلاً حرم عليه فيه قلم الرصاص، ناهيك عن الأسلحة، والكثير الكثير من مستلزمات الحرب، والبلد منهك بالحصار ومفاعلاته، والوضع العربي يتآمر من كل الجهات، وإيران تنتظرها فرصة مناسبة للخلاص من عدوها الأول، وإن كانت شعاراتها البراقة مخالفة ..


والجماهير العربية منهكة، وقد جرّبت دعم انتفاضة الأقصى، وشحذ الهمةّ فما قدرت إلا على القليل.
لكن الجميع كان يراهن على نوع من المقاومة، والصمود، بانتظار حرب المدن.. وهذا ما كان يبدو متناقضاً، أو مزدوجاً مع الاعتماد على الجيش النظامي، المحروم من التغطية الجوية، ومن صواريخ متطورة قادرة على وضع حد للطيران المغير، أو التقليل من آثار قصفه وتدميره، وأسلحته التي لا يمكن قياسها بما في العراق، وبما تحمله القوى الغازية منها، المجرّبة منها وغير المجرّبة ..والمتطوعون العرب رديف، سينحشرون في زحمة الاختلاط ..
لذلك كانت الأيدي على القلوب، والتطلع إلى ما يشبه المعجزة التي تجنب العراق الاحتلال..



5 ـ كان الخوف كبيراً من انقسام داخلي يخلخل وحدة الموقف، والقوات المسلحة، والمعرّض لضغط كبير من الظروف الصعبة، وحدود مواقف( رجالات الدين، خاصة الشيعة منهم)، والموقف الإيراني الذي لا يمكن الثقة فيه، ومدى تأثيره على الحالة الشيعية، وبالذهن تلك الصور المرعبة لما حدث إبّان العدوان الثلاثيني( الانتفاضة، أو صفحة الغدر والخيانة) حين استثمرت القوى الرافضة فرصة انشغال النظام بمقاومة العدوان، فانقضّت على المدن بترتيب وتخطيط واضحين، أدى إلى ما يشبه سقوط (14) محافظة من أصل (18)، وكانت البصمات الإيرانية واضحة .


ـ المعارضة العراقية المبتهجة بعنجهية وعدوانية بوش، وصهيونية المجموعة المحيطة، تقدّم المزيد من الأكاذيب الإغرائية للتعجيل باحتلال العراق، ويهلل( فارسها، أحمد الشلبي، أو الجلبي) وهو يركب دبابات( الأصدقاء الأمريكان) بلباسه الكاكي المأخوذ منهم..منتظراً أوامرهم، ومسجلاً، مع بقية أطراف المعارضة فصلاً استثنائياً في الخيانة، والعمالة .



6 ـ يقاوم العراق بما يملك من أسلحة وإيمان، ويرتفع صوت محمد سعيد الصحاف( وزير الإعلام) بلهجته، وتصريحاته، ومصطلحاته، وعلوجه، وتفاؤله، فيندمج مع مقاومة أم قصر، البلدة الصغيرة، فينمو أمل، ويختلط الحلم بالواقع، وكعادتنا نحن العرب، نسقط الرغبات على الواقع فتنفجر الأخيلة، ونكتب ونحتج، ونتضامن، وهذا أقصى ما نملك بينما يمتلئ القلب حنقاً على هذا النظام العربي : المشارك، والمتواطئ، والمتخاذل، و" الحيادي" !!.. وما باليد حيلة غير الكتابة، والصراخ للعراق، والهتافات، والحنق، والانتظار ..



7 ـ ويصل الغزاة مطار بغداد.. ومن يعرف العراق يعلم كم هو الأمر خطير، ونتساءل : كيف وصلوا المطار؟؟.. والمطار بوابة بغداد، والمطار رمز، وموقع..وننتظر الصحاف لينقذنا، فيعد ( برد غير تقليدي...) ..ويوضح( كي لا يساء الفهم بامتلاك أسلحة دمار شامل) ، ( هو رد عراقي..)
نسهر تلك الليلة، والرد يجوب خيالنا فنقلّب الاحتمالات، ثانية، وألفاً ، يختلط العقل بالعاطفة، فيحضر نسيج المعجزات، والمقاتلون العرب، والاستشهاديون، وألف صورة، واحتمال..


قرب الظهيرة، نراه في المؤتمر الصحفي..يحاول التبرير والشرح، وتأتيه ورقة، يقرأها فيخرج، ويعود بعد دقائق .. كان مرتبكاً ، وظهر عليه، رغم كل محاولاته . كنت أدرك أن الأمور ليست على ما يرام. يلتقط الرجل أنفاسه، ويبلع ريقه محاولاً استخدام أقصى طاقاته في لفلفة الوضع( طردناهم من المطار . طهّرنا المطار. معارك كبيرة، أوقعنا بهم خسائر كبيرة.. حاولوا العودة إلى أطراف المطار، لكننا نتابعهم ..)!!..


كان هذا ،تقريباً، مضمون كلامه، فنضع اليد على القلب : إن في الأمر إنّ، وهذه الإنّ ثقيلة الوقع، ولا نملك غير الانتظار على شاشات التلفزة، خاصة الجزيرة..


ـ أعود إلى المطار.. ذلك البناء الضخم، الزاهي، المزدان بآلاف القطع الزجاجية، التحفة الفنية التي تأرشفت بفعل الحصار، فحاولت في الشهور الأخيرة نفض بعض الغبار لاستقبال بعض الطائرات.. والأمل كبير بقرب فك الحصار، وعودة العراق إلى ممارسة دوره المأمول ..لكن الوصول إليه محيّر، ويطرح آلاف الأسئلة..ويغيب الصحاف.. وكأنه يودع، ويظهر على سطح بناية وزارة الإعلام، جرأة كبيرة يعلن فيها، ينظر إلى تلك الدبابات القليلة التي تتمشّى على الجسر، يشير إليها بإصبعه : ( سنعرف كيف نتعامل معها . الأمرو عادية..!!)..ولم تكن الأمور عادية، وغاب الصحاف..فعرفنا أن الأمور ليست عادية فعلاً..


ـ كانت بضع دبابات تتمشى على جسر الجمهورية( كما أعتقد)، وكأنها في نزهة، وما من أحد يواجهها.. ومقر الجزيرة قصف، واستشهد البعض، وجرح آخرون، والوجوم يخيّم على بغداد، وكأنه الغطاء للدخول..


ـ يحضر المرتزقة في شارع الفردوس، ومعهم المعلم الأمريكي لنزع تمثال الرئيس : عنوان الاحتلال ودخول بغداد، ويرتفع العلم الأمريكي على صورة الرئيس، ولعل الجندي( اندفع) فجاء من ينبهه.. فأزال العلم الأمريكي..وكانت تلك الصورة التي تعيدها وسائل إعلام معروفة : رمزاً للسقوط، ودخول بغداد ..


ـ تسقط بغداد في التاسع من نيسان، بعد يومين من ذكرى ميلاد البعث، يئن ( القائد المؤسس) وقد نبشوا رفاته، وهدّموا قبره : عنواناً للقادم.. فيملؤنا حزن عميق، وتكثر الأسئلة، وعلينا أن نكون جاهزين للتفسير، ونحن نساهم في لقاءات مباشرة، شبه يومية على التلفزة الجزائرية . ينشف الحلق، وبغداد ملء العين والقلب، استذكرها، وأستعيدها، فيزداد الحنق حتى الانفجار.. ما الذي جرى يا بغداد ؟؟!! ..



ـ يظهر الرئيس فجأة في الأعظمية وحوله تلك الكوكبة : الشهيد قصي، ابنه، ووزير الدفاع سلطان هاشم،( وأعتقد رئيس مكتبه عبدو حمود)، وعدد من البعثيين المتحمسين، والمواطنين.. يخاطبهم من فوق الأكتاف، كأنه يريد إبلاغ الرسالة : بأن المعركة لن تنتهي، والمنازلة بدأت الآن.. كأنه أراد أن يقول اشياء كثيرة، لكن الزحمة، والمناسبة لم تسمح.. فغاب كما حضر، لبدء تلك الرحلة من التخفي.. التي كانت تعلن عنها كلماته المسجلة الداعية إلى المقاومة ..
ـ قيل الكثير في وعن معركة المطار، ووردت قصص( عن شهود عيان) كيف تمّ تطهيره في المرة الأولى والخسائر التي تكبدها الغزاة، ثم استخدامهم لسلاح غير تقليدي، يشبه النووي.. أباد القوى العسكرية بطريقة غريبة تذيب الأجساد، والدبابات والدروع، وتحيل الأرض إلى سواد( وقد ظلت المنطقة مسوّرة، ومحاطة بالكتمان طويلاً) ..شاهدها تلك الحرائق التي ظلت لأشهر..


ـ لكن الأكيد أن معركة المطار كانت مفصلاً في التطورات اللاحقة، حين قررت القيادة العراقية، لأسباب قدّرتها، انسحاب كل القوات والقوى.. وترك بغداد لدخول القوات الغازية.


ـ أسئلة كبيرة، كثيرة طرحتها مجريات الحرب، وما صدر حتى الآن من كتب، ولقاءات مع بعض القادة العسكريين، وتصريحات من هنا وهناك، لا تشفي غليل من يريد معرفة الحقائق، والخوف كبير أن تموت الكثير من الأسرار مع غياب صناعها الحقيقيين، خاصة : اغتيال الرئيس صدام ..


8 ـ سقطت بغداد إذاً، عاصمة الرشيد وحاضرة العرب، وكأن هولاكو يرتدي بذلة الحاكم الجديد، فيعيث فساداً..
كان هولاكو بربرياً، كما يوصف، وجنده رعاة لم يعرفوا المدنية، فأباح بغداد، وأغرق دجلة بنتاج حضارة العرب فاسودّت مياهه .. أما هولاكو الجديد فلم يكن عفوياً، كان يعرف ما يريد، وقد خطط لما سيفعل : نهب ذاكرة العراق : أول تباشير الغزو، فانطلقوا إلى المتحف يسرقون، ويبعثرون، ويكسرون، وكان الصهاينة حاضرون، وحتى قورش. إنهم ينتفمون من نبوخذ نصر، وعليهم أن يمحوا ( لوحة الأسر البابلي لليهود) وكان الفريق جاهزاً لتقطيع اللوحة وتهريبها، ونقلها إلى كيانهم الغاصب، وغيرها كثير من التحف النادرة : تراث العراق عبر العصور .


ـ المخطط لا يقف عند الاحتلال ، أو إسقاط النظام : يجب تدمير الدولة العراقية : حل الجيش العراقي : درع الأمة، وذراعها الضاربة، وكافة مؤسسات الدولة، وحزب البعث.. ثم الفلتان بإطلاق اليد لكلاب النهش، وذئاب الحقد، وفرق الموت كي تصول طولاً وعرضاً تلاحق علماء العراق وعقوله، أبطاله من كبار الضباط والطيارين، قيادات الحزب التي تمسك جمرة الإيمان فما فرّطت، ولا انصاعت، كل القوى الخيّرة في العراق.. فيعرّبد الخونة، ويعم السواد أرض السواد، والتضحيات، والثورات.. لكن إلى حين ..



1 ـ لم يصدق كثيرون أن صاحب أكبر عمامة سوداء يطلق فتواه الشهيرة ب( ترك السلاح) كي يمر المعتدون بسلام.. وكي تدبّ الفوضى، فيدخلوا النجف، وكربلاء بتلك الطريقة .( بدل فتوى الجهاد التي كان قد أصدرها، وهي الفتوى الطبيعية التي يدعو الدين إليها) ..


البعض راهن على السيستاني، وراح يقارن بينه وبين الخميني، وأنه( سيقود المعارضة ضد الاحتلال) فاختلا السيد كهفه، وغاب عن الأنظار، كأنه قوة شبحية لا تظهر إلا عبر الآخرين الذين يحملون ( تعاليمه) و(نصائحه).. لكن فتوى الجهاد لا مكان لها، وكأن العراق لا تحتله قوة أجنبية غاشمة. وكأن العراق ليس بلداً إسلامياً.. وكأن أشياء كثيرة في عراق ما بعد الاحتلال يقف لها شعر الرأس، وهو يرى تلك الوجوه الجديدة : خدم المحتل، بعماماتهم المختلفة، ولفاتهم، وياقاتهم التي جاؤوا بها من لندن وواشنطن وعواصم العالم، وقد تربعوا فأحسنوا الطاعة، والقتل، والنهب، وخدمة المحتل ..



2 ـ أما إيران، والحديث يطول، فيخرجنا عن الإطار.. فلئن صمت البعض على تواطؤها مع الأمريكان عند غزو أفغانستان، وما قدمته من تسهيلات وخدمات، بدعوى أن حكم طالبان غير مأسوف عليه، أو لأن تحالف الشمال( ذو الأكثرية الشيعية) طرف في المعادلة، أو لأن الشيعة كانوا مضطهدين..إلخ . فإن الموقف الإيراني إزاء غزو العراق قطع كل حد، وكشف المستور، وما بعده .


ـ لن أناقش هنا الشعارات الكبيرة عن معاداة أمريكا، و"الشيطان الأكبر" لأن ذلك من الماضي، ولأن الوقائع على الأرض مخالفة تماماً . لكن التواطؤ الإيراني يتجاوز كل المحظورات، وكل دعاوي الحقد على نظام حاربه نظام الملالي طويلاً، وانتصر عليهم، أو ( مصالح إيران) في العراق، أو انسجام الموقف الإيراني مع مثيله العربي .. لأن إيران تعتبر نفيها مغايرة، ومعادية للأمريكان والصهاينة؟.. فكيف ذلك ؟؟؟...


ـ لم يكن يتصور أحد أن عملاء وحلفاء وصنيعة إيران هم الذين يمنحون الغزاة التغطية التي يريدون، وأنهم الأداة لترسيم وتثبيت الآحتلال، وتقسيم العراق( مسألة تطويفه أمر عادي ينسجم وبنية تلك القوى) ..وأن إيران تمارس النقيض لما ترفع من شعارات، وهي اليوم شريك سياسي، وشريك في تخضيب أرض العراق بالدماء، والتصفيات، والتطييف، ومشاريع التقسيم، وتكوين (فرق الموت) لتصفية الطيارين والعلماء وعقول العراق، والكثير الكثير الذي يجري في العراق .



3 ـ كثيرون تفاجأوا بالردّ العراقي السريع، وأولهم بوش المنتشي ( بنصره الذي أعلنه من على ظهر حاملة الطائرات، ونهاية الأعمال الحربية على العراق) وإذ بالعراق الغاضب ينفجر بركاناً يفوق كل التوقعات : إنها المقاومة العراقية.. بتنظيمها، وتنظيماتها المختلفة، وقدراتها، وحسن أدائها.. فيرتدّ بوش عن تصريحاته العنترية، يبلع (نصره) بحثاً عن تبرير. فالمفاجأة كبيرة، ومن الذي غشّه : جماعته من أمثال : ديك تشيني، ورامسفيلد، ووولفوتز، وغيرهم، الذين صوروا الأمر له على خلاف ما يحدث( هي نزهة . أيام ويصبح العراق في قبضة اليد والاحتكارات)، أم خونة العراق الذين كذبوا عليه بما كانوا ىيقدّمونه من معلومات؟؟ من يا ترى ( غرر) بالرئيس المسكين ؟؟، والحلم الإمبراطوري يغرق في العراق، وصورة ( البطل) تهتز، فتتراجع الشعبية إلى أدنى مستوى في تاريخ رؤساء أمريكا ؟!!..
ويدخل العراق مرحلة أخرى ..ستترك آثارها على عموم المنطقة، وحتى على الداخل المريكي، والعالم .


ـ كانت الاندفاعة البوشية تعتقد أنه ما من قوة تستطيع إيقافها، وأنها ستعيد رسم خارطة المنطقة، وتبني( الشرق الوسط الكبير، أو الجديد، أو الواسع، وغيره، وغيره..)، وستغيّر، وتبدّل، وتقيم أوضاعاً وتصنع وتحطّ أخرى، سترسم الخرائط، وحدود الدول، وشكل العالم : انطلاقاً من العراق..وكثير من ( تباشير المؤمن بوحي الله الذي يؤمن به)، وإذ بالمقاومة العراقية تلخبط الحسابات كلها، وتلطم تلك الاندفاعة، فلا تكتفي بتحجيمها، بل تنقل الأزمة إلى داخل الإدارة الأمريكية، تلك العصابة الإجرامية، فتفتك بها : كشفاً، واستقالات، وإقالات، وإذ ببوش الصغير صغير فعلاً، عاجز عن الخروج من المغطس العراقي . المغطس الذي صنعته المقاومة أساساً، المستفيدة من العنجهية الأمريكية، وغطرسة القوة، وجرائم الممارسات المتواصلة بحق الشعب العراقي، فانتشرت المقاومة، وامتدّت، ولعلها تكون فاجأت حتى أبناءها .


ـ المقاومة، ورغم هذا الحصار الخانق المضروب عليها، وتلك الاختلاطات التي دخلت على خطها، ووجودها يتيمة وسط الذل العربي، والخوف من الإعلان عن عملياتها، ناهيك عن التضامن معها، وتقديم الواجب القومي لها..فإنها تحمل أعباء الأمة، والحمل ثقيل ولا شك، والعدو ليس سهلاً، وما يزال يلعب بأوراق يملكها، وعملاء يحركهم، وحلفاء يستخدمهم..لذلك فالنصر الذي توقعه البعض، لن يكون بالسهولة المفروضة، وما زال امام المقاومة الكثير لفعله ..



4 ـ اعتقال واغتيال الرئيس صدام ..



لم أتفاجأ كثيراً باعتقال الرئيس صدام بعد نحو سبعة أشهر من البحث الحثيث عنه، وتلك الإغراءات المالية( ملايين الدولارات : خمسون مليوناً.. قد تسيل لعاب بعض الأذلاء)، ذلك أن الظروف التي اختفى فيها( طبيعة الأرض، والقوى التي تبحث عنه، واحتمال الخيانة في الوصول إليه) وعامل الصدفة وغيره، جميعها كانت تجعل من الحدث متوقعاً، وإن كان جميع من يحب العراق يتمنى لو بقي بمنأى عنهم، شوكة في حلوقهم، يسهم في قيادة المقاومة، والتحضير لتحرير العراق .


كما لم تشغلني كثيراً ( قصة الحفرة) إن كانت حقيقة( وهي ليست كذلك، أو مصنّعة على طريقة هوليود، وهي كذلك، ولا هيئته التي أريد تقديمه بها للعالم، والمواطن العربي أساساً، وحتى لرؤوس الحكام العرب، كنوع من الإذلال المتعمّد.. لأن المهم هو أن يكون بمنأى عن أيديهم : حفرة كانت، أم وكراً( كما هو مصطلح أماكن التخفي)، أم (فيلا) ضخمة ..


ـ الرئيس وقد أسر بتلك الطريقة والظروف، ولا أدري خياراته لو كان حراً، بمعنى : هل كان يفضل المقاومة حتى الاستشهاد، أم أن ملحمة المحكمة المهزلة، المحكة الفضيحة..كشفت للكثيرين الكثير عن شخصية الرجل، وصفاته، وصبره، وصلادته، وحججه، وعرّت، بالمقابل العملاء، والأمريكان الذين تخطوا كل المواثيق بتحويله من أسير، كما اعترفوا وأعلنوا، إلى متهم بقضية صنّعت، وحضّرت لنكون جواز مرور الحكم المقرر..


ـ هل كان يفضّل تعريّة الذي لم يتعرّ بعد أمام الملأ، رغم مقص الرقيب، وقطع معظم النقاط الهامة من مداخلاته ورفاقه؟؟.. أم أنهم فاجأوه فاعتقلوه حيّاً ؟؟..


ـ لكن الرئيس انتصر عليهم جميعاً، قهر الحقد، والعمالة، والخيانة، والأمريكان وهو يقابل الموت بتلك الإرادة الفولاذية، وهو يكشفهم، جميعاً، فينحت الحادثة في التاريخ : لمن أحبه، وحتى لمن تقولوا عليه الكثير.. ليبقى رمزاً، وشاهداً، وحكماً ..


ـ كان الشهيد صدام حسين أكبر من الموت وهو يعتلي صهوته، فما ارتجف، ولا وهن، وها هي كلماته ترنّ في الآذان والعقول (( هي هاي المرجلة..))، وهو ينطق بالشهادتين ويعيدها بصوت واثق، يعرف أن الخيار الذي آمن به مكلف، وثمن حرية العراق كبير، وعليه أن يتقدّم الركب، ويشير إلى الطريق : قاوموا ولا تهنوا ..



5 ـ الأكيد أن الذي حصل في، وللعراق يحتاج وقفة مطولة، خاصة من أبنائه البررة ، ونخصّ بالذكر : المقاومة الباسلة ..وأولها : القيام بمراجعة حقيقية للتجربة، والوقوف عند الأخطاء والثغرات، والسلبيات، خصوصاً في المسألة الديمقراطية، وفي إقرار التعددية، والحريات العامة للجميع، لأن العراق المقاوم، العراق الضحية، العراق الجريح، المنكوب يستحق أن يعيش مرفوع الرأس لا يخشى أبناؤه حراب الغزاة، وطعنة الجبناء، الخونة، ولا بساطير أجهزة الأمن وهي تفتك بالآدمية، وتقمع، وترهب..


وأعتقد أن المقاومة، بعد هذه التجربة الطويلة، وما عرفته من تطورات باتجاه التجميع، والتحالف، وتوحيد المواقف، والعمليات بين جميع أطيافها : الوطنية، والقومية، والإسلامية، واليسارية، وغيرها، جديرة بالمطالبة بصياغة برنامج التحرير المنفتح على عراق تعددي، يتيح التداول على السلطة عبر انتخابات تشريعية مباشرة يشارك فيها الجميع على قدم المساواة، لإعادة بناء العراق، وإصلاح ما خرّبه الغزاة والعملاء، وصيانة وحدته الترابية والسياسية والمجتمعية .



6 ـ وها هو بوش، في أيامه الأخيرة، يجرّ الكوارث، والخيبات، ويطارده الفشل في أفغانستان والعراق، والداخل، فيخرج من الباب الضيّق مدحوراً، مذموماً، مكروهاً كأكثر رئيس مرّ على هذه الإدارة ..
أما العملاء والخونة، فمصيرهم معروف، وحقائب عديدهم جاهزة للعودة من حيث أتوا.. حين يتحرر العراق : موحداً، عربياً، يقرّ الحقوق القومية، والسياسية، والديمقراطية لكافة أبنائه، على أساس المواطنية، والتساوي في الحقوق والواجبات، ووفق قانون فوق الجميع، وقضاء مستقل، ودستور موحّد ..

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاحد  / ٠٢ ذو الحجة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ٣٠ / تشرين الثاني / ٢٠٠٨ م