المثقف العراقي بين الواقع الأحتلالي وأوهام الديمقراطية

 

 

شبكة المنصور

ضحى عبد الرحمن / كاتبة عراقية

 

كان لابد من وقفة نسترجع فيها بعض المواقف التي صاحبت الغزو الأمريكي للعراق سيما بين المثقفين العراقيين, وما يترتب على ذلك من وضع تقييم مناسب لأولئك الذين أيدوا ديمقراطية المحتل منذ أول وهلة ولغاية الوقت الحاضر مدافعين عن الغزو رغم نتائجه الكارثية وخيبات الأمل التي رافقته والمثقفين الذين عارضوه أيضا منذ الوهلة الأولى منطلقين من رؤيا ثاقبة للأحداث مستندة على تجارب تأريخية عديدة واستقراء للمستقبل بطرق علمية ومنهجية, معيارنا في ذلك الإخلاص الوطني والتمسك بمصالح الشعب العليا.


الثقافة ليست سلعة تخضع لقوى السوق العرض والطلب, أو تحفة فنية تعرض للبيع في المزاد وتكون من نصيب من يدفع الثمن الأعلى تتحدد قيمتها حسب مزاج الآخرين ورغبتهم بالاستحواذ عليها, إنها محاولة للتعبير عن الذات وان يكون الإنسان سيد نفسه وسيد حياته مصيره, وان يتفاعل بقوة مع المتغيرات الاجتماعية, ويسام في استحداث علاقة جدلية بناءة بين الفرد والمجتمع باعتباره يشكل حلقة مهمة في سلسلة الكفاح الإنساني الثقافة هي عملية الانفتاح على كافة الفئات الاجتماعية وليس الانطواء والاختباء داخل صدفة لا تحيط بشيء خارج محيطها, وهي عملية اقتحام جريئة للأبواب المغلقة التي تحرسها العقول المتهرئة وتجري خلفها المكائد والدسائس! وربما يفسر بعض المثقفين انحسارهم عن المجتمع بأنه تعبير صارخ عن رفض الأوضاع السائدة وان هذه العزلة هي بحد ذاتها جزء من المسئولية التي يتحملونها, معتبرين ضيق أفق المجتمع من جهة وعدم وجود مساحة كافية للمثقف بان ينشر ثقافته ويستقطب اهتمام الآخرين يعني ضياعه في متاهات الفوضى وان العزلة في هذه الحالة تعد أفضل وسيلة للالتزام بالمعايير المنطقية.


ونرد على هذا الرأي بأن الثقافة هي بحد ذاتها تأكيد للذات وهي لتعبر عن نفسها فأنها تحتاج إلى علاقات إنسانية متطورة وجذور عميقة تمتد إلى كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية وتفهم لكل التيارات الثقافية الموجودة على ارض الواقع, من ثم الارتقاء إلى مستوى المسئولية العامة وتفسير الظواهر تفسيرا وجدانيا وعقليا والإجابة الصريحة عن أسئلة تخبط الفكر الجمعي خبطا شديدا, فهل التغييرات التي صاحبت الغزو دعمت أم حكمت الأسس الأخلاقية والفكرية للمجتمع العراقي؟ وهل تمكنت الأوضاع الجديدة من استقطاب الكفاءات العراقية أم استهدفتها ضمن مأساة مريعة؟ هل تطور الوضع الاقتصادي وتم تجاوز أوضاع الاقتصاد المتدهور ضمن خطة تنموية واقعية استنفدت كل طاقاتها الايجابية لرفع درجة الرخاء والازدهار؟ هل تم تجاوز الثقافة المتحجرة والفوضى الفكرية والانطلاق إلى ثقافة إنسانية عامة تركز على القيم السامية والمبادئ العليا وتنمية القدرات العقلية وانفتاحها على ثقافة الآخرين بعيدا عن عوامل التفتيت والتفريق والطائفية والعنصرية.


إن تفسير الخطوات التي اتخذتها حكومات الاحتلال لتحويل المسار العام للمجتمع لا يمكن أن تحصر في نطاق ردود الفعل حتمية اقتضتها ضرورات ملحة, فالذين يدعون إن هذه الحكومات كانت واعية بطبيعة وظروف المجتمع العراقي ومدركة لأهدافها ومسارها ولذلك أعطوها تأييدهم البنفسجي في الانتخابات السابقة كانوا بحق في قمة الحق والغفلة والجهل, وان كنا نتسامح مع الشرائح الاجتماعية ناقصة الوعي والثقافة أو السائرة كالعميان متوكئين على عصي المرجعيات الدينية فأننا لا يمكن أن نتسامح مع النخب الثقافية والاجتماعية. الوعي الديمقراطي ليس محاضرات تلقى على الطلبة ولا مواعظ يتلوها رجال الدين ولا شعارات تتشدق بها الاحزاب الحاكمة, انه عملية تفاعل حركي جمعي وممارسة يومية بين المواطن والدولة, أيدلوجية تنعكس آثارها الايجابية على كل فئات وطبقات المجتمع تستمد قوتها من تنامي الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي.


لا بد للمثقف من ممارسة ثقافته النظرية على الواقع الاجتماعي ويطبق مبادئه على هذا الاتجاه العقلاني ويتعلم من تجارب المجتمع ليخرج بحصيلة تعزز قناعاته سيما إن المجتمع العراقي يعاني من ازدواجية قاتلة بسبب الاحتلال الجاثم على صدره, إنها ازدواجية لا تخضع لمنطق الوعي. كما إن قول الحقيقة لا ينبع من منطقية التشخيص أو كونها منسجمة مع العقل وتتماشى مع الواقع فحسب وإنما من كونها نابعة من ضمير المثقف وحرصه على مسيرة المجتمع وتفانيه في خدمته بغض النظر عن حجم التضحيات. فالوقت حرج والعراق لا يواجه مشكلة انحطاط الثقافة فحسب وإنما تدميرها, ولا يمكن للمثقف أن يدير ظهره لهذه الكارثة أو يراوح في نفس مكانه, فعليه التزامات وطنية ونحن لا نسأله أن يلتزم بمسئوليات وفق المفهوم السارتري حيث يتحمل مسئولية كل ما يجري في عصره بغض النظر عن البعد المكاني, وإنما نطلب منه أن يحصر مسئوليته في القضايا الوطنية على أقل تقدير وهي بالتالي جزء من المسئولية الإنسانية.


يجب أن لا يكون المثقف تابعا ذليلا للحكومة يردد كالببغاء مقولاتها ويدعم قراراتها ويتستر على ممارساتها الخاطئة وانحرافات مؤسساتها بقناعة أو بغير قناعة فينتقل من ضفة الرأي العام إلى الرأي الحكومي أو الرسمي ليضللوا الجماهير ويهيئوه لتقبل نزوات الحكومة برضا و إذعان. إن المثقف وفق هذه الصيغة الذي يترك هموم الشعب جنبا ويصبح أدان من أدوات التطبيل والتزمير للاحتلال وعملائه لا يختلف عن البغي التي تعرض أنوثتها ومفاتنها لمن يدفع أكثر.


الديمقراطية تقتضي إدخال كل فئات الشعب في جنتها ولا تقتصر على فئة دون غيرها, وهي عملية معقدة ومضنية تستلزم مشاركة كل الشعب فيها وبكامل وعيه وإدراكه لمزاياها وحدودها, وهي إن فرضت قسرا على الشعب فأنها ستكون نسخة طبق الأصل من الدكتاتورية, وان لم تكن مفهومة من الشعب فهي بذلك تفقد مزاياها و تتضاعف عيوبها, وان لم يتناولها الشعب على شكل جرعات فمن المتوقع أن تكون لها مضاعفات خطرة على الفرد والمجتمع على حد سواء, وهنا يبرز دور المثقف لتنوير المجتمع وتفريغ شحناته الثقافية من الطاقات الخلاقة على هموم المجتمع ويشرح الأحداث تشريحا وافيا بأدوات المعرفة والمنطق خدمة للمصلحة العليا وبالشكل الذي يتناسب وحجم الكارثة التي يتعرض لها الوطن, ويجهد نفسه لإعادة صياغة أفكار المجتمع بما يتوافق ورؤيته الفكرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولا يمكن أن يبرر المثقف تقاعسه بسبب الظروف القاهرة التي تحكمه فهو بذلك لا يختلف عن اللص الذي يبرر سرقته بسبب الظروف ففي ذلك مغالطة كبيرة للذات لا يمكن أن تغفر له.


عدم التعصب للشعارات ومظاهر الدعاية الداخلية والخارجية بل غربلتها ومعرفة مدى تطابقها مع الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لغرض استكمال الصورة الحقيقية, إن الثقافة هي اشد الأسلحة التي تفتك بالأنظمة الفاسدة وليشرق دائما في بالنا كلام جوبلز وزير دعاية هتلر بلغة غوغائية وعصابية" إنني أتحسس مسدسي كلما سمعت كلمة ثقافة" مما جعله يصدر أمرا بمنع جميع الكتاب والفنانين الألمان من ممارسة النقد ضد نظام الحكم النازي.


إن لم تحصل القناعة فإننا سوف لا نزيد عن تكرار عنوان كتاب مدفديف الذي صدر عام 1971"التأريخ يصدر حكمه" فلنترك للتأريخ حكمه!


إن موضوع الثقافة في ظل الاحتلال ما يزال يعاني من عدة إشكالات نظرا لكونه لم يحسم بصورة قاطعة ويكون الوضع أكثر إلحاحا في منطقة ملتهبة كالعراق حيث يسود الفهم الخاطئ لطبيعة ما يجري فيه في ظل الغزو الأمريكي بسبب نقص الوعي من جهة وما تمارسه وسائل الإعلام الأمريكية والحكومية المدعومة من قبل إدارة الاحتلال لتمويه الحقائق وفبركة المغالطات مما جعلها تصب غطاءا إسمنتيا على الأرضية الثقافية تمنع المثقف من النفاذ إليها. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الوضع إلى تخلي بعض المثقفين عن جهودهم ومسئولياته تجاه المجتمع ولكن الخاسر النهائي سيكون المثقف والمجتمع نفسه, مع تباين مستوى الخسارة فالمثقف يستطيع أن يجد الفرصة المناسبة ليجدد نفسه ويكيف ثقافته مع الأوضاع السائدة وبسرعة ولكن من العسير على المجتمع أن يفك ارتباطه بمثل هذه السهولة والسرعة بالخلفية التأريخية ليعيد تنظيم نفسه.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاربعاء  / ١٤ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ١٢ / تشرين الثاني / ٢٠٠٨ م