اميركا الديمقراطية ... لا تُهين رئيسها المجرم السفاح !!

 

 

شبكة المنصور

أ.د. كاظم عبد الحسين عباس  / أكاديمي عراقي

 

لم يسجل التاريخ الامريكي, على حد علمنا, خروجا مهينا لرئيس اميركي من البيت الابيض بعد انتهاء مدته الرئاسية. وسبب ذلك يعود الى موقف وطني امريكي متأصل في عمق الذات الامريكية وسايكولوجية البناء الاجتماعي للمجتمع الامريكي التي تعتبر تاريخ الرئيس جزءا من تاريخ الامة وأي تلطيخ او اساءة من أي نوع لصفحة سيرته الرئاسية ينظر اليها على انها اساءة ليس فقط لتاريخ الامة الامريكية المتداول في هذا البلد بل والى الهاجس السايكولوجي الذي يتفاعل مع الذات الامريكية والمعروف بمصطلح الحلم الامريكي.


الرئيس الامريكي وبغض النظر عن حرفية ومهنية ومسؤولية اداءه في فترة الرئاسة من عدمها يجب ان يغادر سدة الرئاسة يحمل كامل الروح العنجهية الامريكية ويجب ان يرحل وكأنه عملاق بحجم العملاق الامريكي حتى لو كان شاذا او منحرفا وحتى لو مارس كل انواع الفساد الاداري والمالي والاخلاقي ونموذج كلنتون ما زال ماثلا حيث حوّل البيت الابيض الى بيت دعارة ... وخرج من ذلك غر الجبين منتصب القامة ... وقد يسعفني قارئ كريم بغير هذه القناعة ونموذج بوش الذي اصدر قرار احتلال العراق فورط اميركا وجرجرها الى هاوية سحيقة.


نعم .. يمكن ان تلوث ربطة عنق الرئيس بغبار متطاير غير ان تلويث جبهته غير ممكن لأنه يمثل جبهة الامة الامريكية كلها. وان لوثت اذيال بنطال الرئيس فان هنالك الف وسيلة لابدال البنطال حتى من غير ان يدري الرجل ان بنطاله قد نزع واستبدل .. لانه رئيس دولة الكبرياء العظمى .. لانه رئيس دولة الديمقراطية التي لا نعرف لها معنى وفي ذات الوقت نعرف كل معانيها ..


لهذا ولسواه .. يجب ان يغادر السفاح المجرم الشاذ الغائر بعيدا في مسارات حرفة امتصاص الدم وهواية تقطيع الاجزاء والاوصال البشرية جورج بوش الصغير وكأنه عملاق تطاول قامته العملاق الامريكي الواقف على جبال الجماجم والبؤس والشقاء الانساني. يجب ان يغادر مرفوع الراس ومنتصب القامة رغم انه طأطأ راس اميركا وادخلها في انفاق الانهاك الفعلي المؤدية الى سقوط تجربتها الراسمالية الليبرالية ربما في زمن لم يعد بعيدا عن افق رؤية البشر بالعين المجردة, وكان اسوأ علامة فارقة في تاريخ اميركا في اوجهه البشعة.


اميركا تلقننا درسا عميقا في ان الرئيس رمز ومن حقه ان يجتهد ويقرر حتى لو كانت قراراته خاطئة. يقرر الحرب فيذهب الى الحرب .. يعلن النصر فيها ثم يتدحرج متراجعا بعد حين من غير ان يستخدم كلمات تدل على التراجع لكن الامر سيان والنتيجة واحدة فلقد كذب الرئيس والحرب ما زالت في حروفها الاولى وليس صفحتها الاولى ... يعلن الرئيس اسبابا تحرك الامة الامريكية بل توقفها على اقدامها لاسباب الحرب فتؤيده كلها ثم بعد هنيهة يعلن الرئيس انه كذب على الامة وانه ادخل مخابراته واستخباراته وخارجيته في مازق الدجل المؤدي للحرب .. فتهب كل اجهزة الدولة الامريكية الاعلامية ومسانداتها لتبتلع كذب الرئيس المشين وتمتص نزقه المعيب .. لكي لا يتلوث اسم الرئيس لكي لا يتلوث الكيان الاممي الامريكي. يمكن للرئيس ان يدّعي ان الحرب القادمة ستكلف اميركا ما لا يزيد عن اصابع اليد من الضحايا ثم تأتي رياح الميدان بما لا تشتهيه تنبؤات الرئيس فتمتلئ شوارع اميركا بالمعاقين والمجانين وتمتد آلاف الاعلام الامريكية في المقابر وتفقد اميركا الانسانية جدا عشرات الآلاف من طلاب الجنسية الامريكية من الشباب اللاهث خلف سراب الحلم الامريكي لانها ترمي بجثثهم طعاما لاسماك دجلة والفرات والثرثار والرزازة والحبانية .... ولا احد يعزر الرئيس ما دام جالسا على بوابة البيت الابيض الذي يجب ان يظل ابيضا ..


لا يهم ان يقرر الرئيس عددا من الحروب ويخلق اكثر من بؤرة اختناق وتوتر وتكون جل قراراته مهلكة لاميركا، لان اموال اميركا طائلة وبشرها كثر وسلاحها وفير ومتطور فلن يخرج بسواد الوجه ولن يقدم للمحاكمة ولن يحكم لا بالسجن ولا بالاعدام ..


مأزق العراق جرح غائر في الجسد الامريكي قد ياتي زمن لاحق لصراخ اميركي مدو يعبر عن وجعه لكن ليس قبل ان تغور صورة السيد الرئيس بعيدا في الذاكرة وشرط ان لا يجرم ولا تشوه سمعته وشرفه الوطني لانه رمز للوطنية وشرفها ولن يسأل او يحاسب على جرائمة المنكرة ضد اميركا قبل غيرها ...


قرار غزو العراق هو الاسوأ بعد فاجعة فيتنام ... لكن اميركا لم تعترف بجريمة رئيسها الذي ادخلها في اتون التنور الفيتنامي ولم تعترف كأمة بتلك الجريمة كاملة الى اللحظة مثلما لم تعترف ايضا بجريمة الابادة الهيروشيمية والنكازاكية لسبب واحد لا غير هو ان توحي للعالم انها مستعدة ان تكررها مرة اخرى ... هذا هو نمط الاعتداد بسوء الامر ومكابرة الطاعون الذي يغلي في داخلها .. طاعون النفس الامارة بالسوء ... النفس الخطّاءة .. ومكابرة العنجهية والباطل المؤسس على وحشية المادة والقوة الغاشمة كطريق لتاكيد الذات الموتورة والمنقطعة عن الارث الانساني والمتربعة على عرش الطاغوت دونما وعي ولا رغبة في البحث في ارث الطاغوت الاّ من قبل مؤسسة الطاغوت ذاتها وادوات تحريك مخططاتها واهدافها وغاياتها .. الامر الذي جعلها تنقطع تماما ولا تعرف عن مكر الله الماكر الجبار الذي طمر كثيرا من رموز الطاغوت في الابار التي انبثق منها فعلها الظلامي الاجرامي.


لن تعلن اميركا هزيمتها .. وانكسارها المدوي ... على الاقل,, ليس على لسان السيد الرئيس الذي كان ومن معه من جبابرة العصر سببا في وقوع المحظور .... مضامين القوة الغاشمة لا تشتمل على الاعتراف بالهزيمة لان هذا الاعتراف سيحطم فكرة قدسية السيد الرئيس ... يبقى اذن احتمال واحد .... هو ان يقوم الطرف المنتصر بتقديم الادلة الثبوتية على هزيمة اميركا ويجبر العالم على الحديث عنها واميركا ستسكت وحسب !!! لانها مقتنعة بداخلها بانها مهزومة ولانها لا تمتلك ادوات الاثبات المعاكسة ولا تريد اصلا ان تكذب غير انها مستعدة تماما ان تكذب من اجل ان تموت الحقيقة على لسانها الديمقراطي جدا ...


اهداف الغزو الامريكي للعراق كبيرة وواسعة ومتعددة ولم يتحقق منها الاّ جزء من جزء واحد يتعلق بتدمير العراق ماديا واختراق مكروبي او فايروسي لنسيجه الاجتماعي، وكلا الامرين في هذه الجزئية قابلة للعلاج فور خروج الاحتلال او بعد حين قصير جدا .... اغتيلت دولة العراق الوطنية واستشهد قرابة مليون ونصف المليون عراقي غدرا وغيلة وظلما .. ارادة الله سبحانه التي لا راد لها .. وتوازن قدري قد يريد به سبحانه ان تعود دولتنا احسن مما كانت في اسسها وتوجهات بناءها وعمرانها وخطط التنمية والتطور التي ستتصدى لها .. ولعل التجربة تصقل علاقات المحبة لنسيجنا الاجتماعي وطيفه الزاهي الالوان .. مرجه الزاهي بكل انواع والوان الزهور .. ولاحظوا اننا لم ولن نفنى .. نحن امة اصيلة عريقة اكرمها الله سبحانه غير ذي مرة .. لن تفنى حتى لو هلك بعض قومها.


ها هنا بعض من ادلة الخيبة البوشية التي تداري عليها ديمقراطية الامة الامريكية الديمقراطية وتقف سواتر بوجه من يريد الاساءة بها ومن خلالها الى قدسية رئيسها ....


ما زال الشرق الاوسط ... ليس الشرق الاوسط الكبير الذي جاءوا من اجله ... رغم ان الهدف قد كسر ظهر اميركا وهي توكل الصقور الصهاينة لتحقيقة ... المقاومة العراقية البطلة غاصت بالمشروع الى اعماق تيه سحيقة ... لقد اضمحل الشرق الاوسط الذي كان وادخلت نتائج الغزو الرئيسية والعرضية الفكرة كلها في اتون التبعثر والاضمحلال ... فانزوت وما عادت تذكر الاّ تاريخا مضى ..


فلسطين .. ما زلت قضية الامة وجرحها المستديم .. بل ان القضية قد تعقدت اكثر ولعل تحول بلد مستقر الى مقاومة احتلال اخرى الى جانب المقاومة الفلسطينية قد بعث زخما جديدا قد يكون غير منظور وفتح على الامة الامريكية معضلة شرق اوسطية جديدة تتحمل مسؤوليتها التاريخية الى جانب قضية فلسطين التي كانت قادرة على الاقل على التنصل من مسؤولية وقوعها اصلا .... لعل الغد يحمل مفاجات غير سارة للديمقراطية الامريكية فالمظلومون لا يمكن ان تقيد ردود افعالهم ولا يمكن لاحد ان يتوقعها.


ما زال النفط العراقي عراقيا ولن تستطيع الامة الديمقراطية ان تتواجد على ارضنا الى زمن طويل لحماية امداداته الى خزانات احتياطييها ...وعلى الامة التي تحمي صورة سفاحها ان تتذكر ان خزين العرب والعراقيين من خبرة التاميم كقرار وكنتيجة تفضي الى مخزون رفض كامن في الذات العراقية يجعل الاستكانة الى الاحتكار الديمقراطي لامة السفاح غاية بعيدة المنال ولن تعيش الاّ في اطار الامنيات قصيرة الامد. التأميم الخالد برهن ان الامة حية ومقتدرة .. وكل ما تحتاجه .. قائد جسور, مفكر ومسنود شعبيا, وهذا النتاج الانساني موجود في الامة ويمكن ان تعلن عنه في اية لحظة .. امتنا ولودة وخصبة.


تركيع العراقيين لتيئيس الامة صار الآن حلما آخر يوازي الحلم الامريكي القديم بعد ان تحول العراق من دولة مؤسسات الى دولة مقاومة .. لم ولن يحصل على غزارة النكبات ووحشية وهمجية الدمار واسترخاص قيمة الانسان وحياته وسحق كرامته بطرائق ديمقراطية وبأرقى مضامين الحلم الامريكي ... بل حصل العكس .. فملايين العراقيين الآن تتقيأ الديمقراطية وتخرجها مع اسهال الكوليرا وتبصق على شذوذ التحرير البوشي الذي اطاح بالكثير من مكونات الحلم الامريكي.


بقي ان اقول .. أو ليس الأجدر بالعرب ان يتعلموا وهم القوم الاصلاء اهل الارتباط الحضاري العميق بالتاريخ الانساني من الامة الامريكية التي لا ترتبط بارث ولا يجمعها جامع حيث تشكلت وتتشكل من كل انواع البشر المهاجرين من كل بقاع الدنيا ونمت وتطورت بعمليات شراء العقول والنتاج البشري المختلف؟؟ ألا يجدر بالعرب ان يعيدوا حسابتهم مع رموزهم العمالقة في التاريخ الحديث والمعاصر مثل جمال عبد الناصر وصدام حسين رحمهما الله بدل ان يجعلوا من كليهما منصة لجلد الذات القومية والاستهتار بقيم الوحدة القومية ورفض روح المبادرة القيادية حين تؤتي اكلها ورفضها حين لا تأتي اؤكلها لكي تبقى صورة القيادات العربية جامدة لا تتحرك بسوى الحركة الاهتزازية الموضعية التي تتميز بها الحالة الفيزيائية الجامدة الصلبة. ألم يجتهد عبد الناصر وصدام حسين ضمن اطار قناعاتهم القومية وليس فقط الوطنية؟.. لم لا تعيد الامة الرسمية فورا ومعها يعيد الملايين من ابناء الامة التابعين للامة الرسمية الهيبة التي حاولوا ان يشوهوها لرموز الامة مثل هواري بومدين و ياسر عرفات وغيرهم.


أرجو ان لا يعترض علي احد بحجة ان اميركا تدافع وتحمي سمعة رئيس شرعي منتخب .. فالمجرم السفاح لا يمكن ان تحميه الشرعية ولا يمكن للاجرام وتدمير الامم والشعوب والدول ان اتى من رئيس شرعي فهو مجرم في كل الاحوال.

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاحد  / ١١ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ٠٩ / تشرين الثاني / ٢٠٠٨ م