مواقف نضالية في زمن الايام الطويلة

ثورة ١٤ / تموز / ١٩٥٨

﴿ الحلقة التاسعة

 

 

شبكة المنصور

ابو عمار المخضرم  / بغداد

 

(( ذاكرة بعثية تستعيد بعض وقائعها ))
**********************************

محافظة ديالى التي يتردد اسمها اليوم في أجهزة الأعلام كإحدى قلاع مقاومة المحتل الامريكي وعملائه والتي صدق فيها قول الشهيد الخالد صدام حسين عندما قال (( ثلثين الطك لأهل ديالى )) ، كانت في 14\تموز\1958 على موعد مع انطلاق الثورة من أرضها الطيبة حيث إنها كانت مقر الفرقة الثالثة للجيش العراقي الباسل بضمنها اللواءين (19و20) الذين قررت حكومة نوري السعيد إرسالهما الى لبنان للقضاء على ثورته آنذاك ولكنهما بدلا من ذلك قاما بالقضاء على تلك الحكومة وعلى ( العهد الملكي ) وإعلان الجمهورية ... ففي صباح (14\تموز\1958) استيقظ الناس على صوت إذاعة بغداد وهو يعلن قيام الجمهورية ونهاية العهد الملكي ... ومقتل الوصي عبد الإله والعائلة المالكة على تلك الصورة القاسية التي لم نكن نتمناها ولكنه أمر الله ومشيئة الاقدار ...


صباح الثورة استيقظت مدينتي الحبيبة المجاهدة ( بعقوبة ) مثل غيرها من مدن العراق على أنغام بيانات وأناشيد الثورة ولقد بادرنا نحن العبثيين الى التجمع والنزول الى الشوارع للمساهمة في التظاهرات في مركز المدينة على ضفتي (خريسان) ووسط ذلك الجو الحماسي فوجئنا بحضور العقيد الركن حميد العاني رحمه الله – مدير المخابره آنذاك واحد الضباط الأحرار والذي كانت تربطني به صداقة – على ظهر سيارة جيب مكشوفة ومعه بعض الجنود وهو يحيي الجماهير التي التفّت حوله وهي تهتف بحياة الثورة والجيش العراقي وعندما شاهدني بين جموع الناس ترجل من السيارة وعانقني بحرارة مهنئا ومشيدا بنضال حزب البعث الذي كان هو من أصدقائه الذين كنا نتصل بهم ونوصل لهم نشراته وجريدته (الاشتراكي) ونتلقى منهم الدعم المادي والمعنوي .


ولم تنس الجماهير في ذلك اليوم ( سجن بعقوبة ) الذي كان احد سجون العهد الملكي المعروفة فسارعت الى تحطيم أبوابه وأطلقت سراح المعتقلين فيه وقد قمنا نحن البعثيين بجمع التبرعات النقدية والعينية لتقديمها للسجناء الذين كانوا لا يملكون ما يرتدون للالتحاق بذويهم ... وكان بينهم المرحوم بهاء الدين نوري احد قادة الحزب الشيوعي العراقي .



اعتقال قائد الفرقة غازي الداغستاني
********************************


تم تعيين المرحوم غازي الداغستاني قائدا للفرقة الثالثة قبل الثورة بفترة وجيزة بعد نقل المرحوم ( محمد نجيب الربيعي ) منها بسبب مواقفه الوطنية وكان الداغستاني يقيم في احد أجنحة النادي العسكري في معسكر (سعد) مقر الفرقة الثالثة وكان من المقرر إن يغادر مقره صباح يوم 14\تموز\1958 للحاق بالقطعات العسكرية وتوديعها قبل مغادرتها الحدود العراقية الى لبنان وكان الضباط الأحرار على علم بذلك فقامت مجموعه منهم بقيادة الملازم الأول ( ... ) بتنظيم كمين له في حديقة النادي الواسعة وتطويق مقره فجرا وكان الأمر يقضي باعتقال القائد بصورة سليمة وإبقائه في جناح سكنه الى حين ورود أوامر جديدة ...


ولقد تم تنفيذ الاعتقال حسب ما خطط له وعندما حاول القائد ركوب سيارته أطلقت عليه من الكمين طلقات تحذيريه وابلغ من قبل قائد الكمين بأمر الثورة فانصاع للأمر وتم إقفال غرفته عليه مع وضع حراسة مشددة حولها.


الزعيم عبد الكريم قاسم يتوجه الى بغداد من معسكر المنصورية
********************************************************


وفي حوالي الساعة العاشرة وبعد سيطرة قوات الثورة على المرافق المهمة في بغداد ومنها محطة الإذاعة والتلفزيون مر الزعيم عبد الكريم قاسم (رحمه الله) ببعقوبة في طريقه الى بغداد وقد استصحب معه القائد المرحوم غازي الداغستاني المعتقل في النادي العسكري في معسكر سعد لكي يستلم لاحقا قيادة الجيش والبلاد ويقدم على ما أقدم عليه من خطوات معروفه ..


لقد كانت ثورة الرابع عشر من تموز \ 1958 انتصارا كبيرا لكل الأحزاب والقوى الوطنية والقومية ومن بينها حزب البعث الذي مثّله في أول وزارة بعد الثورة أمينه العام آنذاك المرحوم فؤاد ألركابي ( وزيرا للأعمار) ، ولقد كنا نشعر نحن البعثتين بأنها ثورتنا وعزز شعورنا هذا إن جوهر الأهداف والشعارات التي طرحتها الثورة في أول خط شروعها كانت نفسها الأهداف التي نؤمن بها وقوّى هذا الشعور أيضا إن أول جريده ناطقه باسم الثورة وهي جريدة ( الجمهورية ) كانت بإشراف البعثتين وإدارتهم حيث كان رئيس تحريرها شهيد الغربة الدكتور سعدون حمادي رحمه الله منذ الايام الأولى للثورة واذكر هنا أن أول عدد صدر منها كان يحمل اسم المرحوم عبد السلام عارف كرئيس للتحرير وقد عدّل ذلك بإحلال الدكتور سعدون محله لأنه من غير الجائز والمستساغ أن يجمع عبد السلام عارف بين مهامه الرسمية كنائب للقائد العام للقوات المسلحة ورئاسة تحرير الجريدة . وإضافة لذلك فقد استلم البعثيون دار نشر ومطبعة كاملة كانت تعود لعائلة ( ملكون ) في السنك خلف سينما روكسي وكنا نتردد على تلك الدار باعتبارها مركزا للقاءات الحزبية ولاستلام النشرات والكتب الحزبية التي كانت تطبع فيها ، غير إن تلك الحال لم تدم طويلا بعد انحراف المرحوم عبد الكريم قاسم وتفرده مع الشيوعيين بالثورة وإعلان عدائهم للبعثيين وغيرهم من القوى الوطنية والقومية التي كانت منضوية معهم تحت لواء جبهة الاتحاد الوطني .


إن فرحنا بالثورة وحماسنا في تأييدها لم يدم طويلا حيث أخذت السحب تتلبد في سمائها منذ الأسابيع الأولى لقيامها وبدأ التناقض والصراع بين القوى القومية والوطنية من جهة وبين عبد الكريم قاسم والشيوعيين من جهة أخرى وابرز التناقضات كانت مسالة ( الوحدة العربية ) مع الجمهورية العربية المتحدة التي كان يتبناها الاتجاه القومي بحرارة يؤيدهم في ذلك عبد السلام عارف ومعظم الضباط الأحرار الذين ساهموا في تنفيذ الثورة وقد (أبدع) الشيوعيون في رفع شعار (الاتحاد الفدرالي) للوقوف بوجه شعار الوحدة الذي كان طاغيا على مشاعر الناس في بداية الأمر وإنهم (الشيوعيون) لم يشاؤا أن يعلنوا عن موقفهم الحقيقي الرافض للوحدة لأن ذلك كان سيحرجهم أمام الجماهير العراقية والعربية فرفعوا شعارهم هذا وعززوه بإضافة أخرى فأصبح ((اتحاد فدرالي وصداقة سوفيتية)) وأيدهم في ذلك بقوة الزعيم عبد الكريم قاسم وكافة القوى الشعوبية المناهضة للوحدة وحتى للإتحاد الفدرالي في حقيقة الأمر .


ولقد بدأ الصراع بين الاتجاهين يبرز ويلتهب في التظاهرات والتجمعات التي كانت تقوم في الشوارع والاحتفالات والمسيرات وفي أجهزة الإعلام وخاصة الصحف التي كانت في بادئ الأمر تغطي وجهات نظر الفريقين قبل أن يحتكرها النظام والشيوعيون والشعوبيون في مرحلة لاحقة .


ولقد تجلى هذا الصراع بأجلى صوره في الجولات التي كان يقوم المرحوم عبد السلام عارف لبعض المحافظات والمناطق والتي كان آخرها زيارته الشهيرة الى بعقوبة في شهر آب \1958 حيث كانت خاتمة لوجوده في قيادة الثورة حيث تم إبعاده من العراق بتعيينه سفيرا في (بون) ...


وأعقب ذلك حملات التصفيات والقمع الدموي لكل القوى المعارضة لحكم الزعيم الأوحد وفي طليعتها حزب البعث العربي الاشتراكي ومناضلوه ... وهذه قصة طويلة مؤسفة يرويها تأريخ العراق لسنا بصددها هنا وبالرغم من كل ذلك البطش والتنكيل بمناضلي البعث فأنه تمكن بإرادته الفولاذية وإيمانه بمبادئه من القضاء على الحكم الفردي الدكتاتوري بعد خمس سنوات في 8 \ شباط \ 1963 عندما فجّر عروس الثورات الخالدة ثورة (14) رمضان وأنهى ذلك العهد الشعوبي الحاقد ...


إننا إذ نستذكر بعض أحداث تلك الحقبة من تأريخ العراق فأن الأمل معززا بالإيمان يعمّق ثقتنا بانتصار إرادة الشعب ومقاومته الباسلة وتحقيق يوم الخلاص من الاحتلال الامبريالي الامريكي الصهيوني وعملائه الذين دمّروا العراق وذبحوا أبناءه واستحلوا كل الحرمات الدينية والإنسانية والأخلاقية .


﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الجمعة  / ٢١ ذو الحجة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ١٩ / كانون الاول / ٢٠٠٨ م