جائزة فلسطينية اعلامية للاحتلال

 

 

شبكة المنصور

نقولا ناصر / كاتب عربي من فلسطين

 

كشف قيام قوات الاحتلال الاسرائيلي يوم الخميس الماضي باخلاء بيت فايز الرجبي من المستوطنين اليهود الذين احتلوه في خليل الرحمن عقم النهج السياسي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها في رام الله ، فقد سبق هذا الحدث "الحملة الامنية" التي شنتها قواها الامنية بالتنسيق مع قوات الاحتلال في محافظة الخليل خلال الاسابيع الماضية لتجريد المواطنين من "السلاح" المتواضع "غير الشرعي" الذي حازه المقاومون منهم بشق الانفس للدفاع عن اسرهم ضد العربدة المسلحة للمستوطنين ، بحجة مزاحمته لسلاح السلطة ، ورافق الحدث "اختفاء" قوى امن السلطة التي شنت هذه الحملة والتي تستهلك حصة كبرى من الميزانية الشحيحة المرهونة لكرم "المانحين" عندما كان المواطنون يستنجدون بها لحمايتهم من هجمات المستوطنين على ارواحهم وبيوتهم واملاكهم ودور عبادتهم ومقدساتهم للانتقام منهم ، تحت اعين حنود الاحتلال ، بعد عملية الاخلاء ، ثم تحميل قيادة المنظمة والسلطة المسؤولية عن "جرائم" المستوطنين لحكومة الاحتلال ومناشدتها تحمل مسؤولياتها لكي تقوم قواتها المحتلة المسؤولة اصلا عن هذه الجرائم بحماية المواطنين الفلسطينيين منها ، ربما احتراما من هذه القيادة للقانون الدولي الذي يحمل القوة القائمة بالاحتلال المسؤولية عن حماية المدنيين الخاضعين لها !
 
ويمكن تلخيص نتائج هذا الموقف لقيادة المنظمة والسلطة بالتخلي عن مسؤوليتها  تجاه المواطنين عندما كانوا في امس الحاجة اليها ، والاهم نقل هذه  المسؤولية علنا الى قوات الاحتلال لتتولى حماية المدنيين من مواطنيها ، لكن الاكثر اهمية هو ان هذه القيادة بحرمان مواطنيها من الوسائل البسيطة التي بحوزتهم للدفاع عن انفسهم وباختفائها تماما عن مسرح الحدث قد منحت قوات الاحتلال جائزة اعلامية مجانية كبرى اتاحت لها ادارة معركة مسرحية بين "دولة" الاحتلال وبين "قلة" من الخارجين على قانونها "تنفيذا لامر قضائي لصالح فلسطيني ضد مواطنيها انفسهم" بينما المعركة الحقيقية التي كان ينبغي نقلها اعلاميا هي الدائرة فعلا على الارض بين القوة القائمة بالاحتلال الخارجة على كل القوانين الدولية وبين الشعب الخاضع للاحتلال وبين الاستيطان اليهودي غير الشرعي الذي يحميه الاحتلال وبين المدنيين الفلسطينيين من ضحايا الاستعمار الاستيطاني ، وكان هذا يتطلب تدخلا وحضورا فلسطينيا قويين في مسرح الحدث لتكون هناك رسالة اعلامية فلسطينية لحدث هو فلسطيني من الفه الى يائه ، وهو ما لم يحدث .    
 
فعندما تعنون وكالة الاسوشيتدبرس مثلا تقريرها عن اخلاء المستوطنين من بيت فايز الرجبي قائلة ان "القوات الاسرائيلية تحارب المستوطنين في الخليل" وتنقل الفضائيات الدولية صور جنود الاحتلال وهم مدججون بالسلاح ويقومون ب"هجوم عسكري مباغت" داخل المدينة التي اعلنوها "منطقة عسكرية مغلقة" ليقوموا ب"جرجرة" الاسر اليهودية بنسائها واطفالها ورجالها وهم بلباسهم المدني امام الكاميرات ( ومنها صورة للاسوشيتدبرس  -- سوف يروجها الاحتلال بالتاكيد لاثبات "حياده" بين الفلسطينيين وبين المستوطنين وحرصه على "المساواة" في تعامله مع "المتطرفين" من كليهما -- تظهر احد جنود الاحتلال يسحل اما ممسكا بها من احدى يديها بينما يدها الاخرى متشبثة بطفلتها التي تنجر وراءها) ثم يفسر المذيعون والمراسلون هذه "المعركة" بانها من اجل تنفيذ حكم اصدرته "محكمة العدل العليا الاسرائيلية" لصالح بقاء مواطن فلسطيني مع ثمانية وعشرين من افراد اسرته في بيتهم فان جيش الاحتلال يحل محل وزارة الاعلام التي لا وجود لها في دولته ليؤدي مهمة اعلامية ذكية من المؤكد ان خبراءه في الحرب النفسية قد اعدوها لخداع الراي العام العالمي ببعث رسائل مضللة عن حقيقة صراع الوجود الدائر على الارض الفلسطينية المحتلة ، بينما القيادة الفلسطينية التي وقعت على تحويل هذا الصراع الى "نزاع" حول الحدود يجري التفاوض فيه حتى على مسار هذه الحدود تختار طائعة او مكرهة موقفا من الحدث يصب في خدمة هذه المهمة الاعلامية لجيش الاحتلال .
 
ان هذا الغياب للحضور الفلسطيني قد غطى على حقيقة ان "محكمة العدل العليا الاسرائيلية" غير شرعية في الخليل ولا ولاية ولا تفويض لها هناك باعتبار المدينة جزءا من الارض المحتلة وبالتالي لا ولاية لها على المواطن الفلسطيني الرجبي ، حتى لو اضطرته ظروف الاحتلال الى اللجوء اليها ، ولا ولاية لها كذلك حتى على المستوطنين غير الشرعيين الذين احتلوا بيته بالرغم من كونهم من مواطني دولة الاحتلال بالقدر نفسه الذي لا ولاية لهذه المحكمة على الاسرائيليين المقيمين حتى بصورة قانونية في بلدان اخرى حيث يخضعون لقوانين البلاد التي يقيمون فيها ، وبالتالي فان ايهام الراي العام العالمي بوجود "عدالة" اسرائيلية تساوي بين مواطني دولة الاحتلال وبين الشعب الخاضع للاحتلال فيه تضليل يطعن مفهوم العدالة في الصميم .
 
لذلك ينبغي وضع الف علامة سؤال عن الاسباب "الدعائية" التي جعلت قضية بيت الرجبي تجد طريقها الى محكمة العدل العليا في دولة الاحتلال والتي جعلت هذه المحكمة تقبلها ، فدولة الاحتلال وحكومتها وجيشها لم ينتظروا حكما منها لكي يحتلوا الضفة الفلسطينية لنهر الاردن وقطاع غزة عام 1967 ولكي يقيموا مستعمراتهم الاستيطانية فيها .
 
كما فوت هذا الغياب فرصة اعلامية ثمينة لاظهار ان دولة الاحتلال وحكومته وقواته هي التي قررت ونفذت وحمت بناء اكثر من مائة وستين مستعمرة استيطانية في الاراضي الفلسطينية التي احتلتها علم 1967 وانها بمسرحية اخلاء بيت الرجبي انما تسلط الاضواء على اخلاء بيت فلسطيني واحد من محتليه لكي تصرف الانظار بعيدا عن حقيقة ان الاستعمار الاستيطاني لفلسطين التاريخية هو المشروع الصهيوني المتواصل الذي ما زالت تنفذه كسياسة رسمية سواء في الضفة ام في الجليل ، وان احتلال بيت الرجبي ما كان ليحدث لولا كونه امتدادا كان متوقعا لاستمرار حماية قوات الاحتلال للبؤرة الاستيطانية في قلب مدينة الخليل وللمستعمرات الاستيطانية حول الخليل ، وان اخلاء بيت الرجبي ليس الا اجراء مؤقتا بانتظار ان تبت المحكمة العليا اياها لاحقا في ملكيته مثلما كان مؤقتا اخلاء ما تسميه حكومة الاحتلال بالبؤر الاستيطانية "غير القانونية" ، اي التي اقيمت دون ترخيص منها ، والتي يزيد عددها على المائة والتي شهد البعض منها مسرحيات اخلاء وهدم مماثلة لم تعش سوى بضع ساعات قبل ان يعيد المستوطنون بناءها بحماية قوات الاحتلال .
 
ان سياسة التفاوض الفلسطينية التي استخدمها الاحتلال لمضاعفة عدد مستعمراته ومستوطنيها منذ توقيع اتفاق اوسلو هي نفسها التي استخدمها الاحتلال ايضا غطاء فلسطينيا "شرعيا" لتوسيع هذه المستعمرات بحيث تضاعف البناء فيها سبع عشرة مرة خلال السنة التي اعقبت مؤتمر انابوليس بالمقارنة مع السنة السابقة حسب تقرير حديث لدائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير نفسها التي تصر قيادتها على المكابرة في الاثم السياسي عندما تخاطر بانفصال ما تبقى فلسطينيا من الوطن التاريخي باصرارها على استمرار الالتزام باوسلو وانابوليس ، هذا الالتزام المجاني الذي قاد الى خلق صدع عميق في الصف الوطني الفلسطيني قاد بدوره الى الانقسام الحالي الذي كان وصول حماس الى قيادة احد قطبيه نتيجة للانقسام اكثر مما كان السبب فيه .
 
لقد حان الوقت لكي تتوقف قيادة التفاوض الفلسطيني عن هذا الالتزام ، وعن مواصلة محاولة الزام شعبها به بالقوة والاكراه ، لكي توفق بين تقاريرها وبين سياساتها ، وبين اداناتها اللفظية وبين مواقفها العملية ، وبين المخزون الذي لا ينضب للصمود والمقاومة لدى شعبها وبين نهجها الذي يبني على ان كل الاوراق قد سقطت من هذا الشعب للمراهنة عوضا عن ذلك على حسن نوايا اعداء هذا الشعب ووعودهم الجوفاء ، وعندها فقط تنفتح طريق المصالحة الى الوحدة الوطنية ليكتشف اطراف الانقسام جميعا ان الرهان على هذه الوحدة اجدى من الرهان على "الاستحقاقات الدولية" وان في الوحدة اوراق كافية ليس لاخلاء بيت الرجبي فقط بل لكنس الاحتلال وجيشه ومستعمراته ومستوطنيه الى مزبلة التاريخ ان صدقت النوايا في الالتزام بالثوابت الوطنية الفلسطينية .

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

السبت  / ٠٨ ذو الحجة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ٠٦ / كانون الاول / ٢٠٠٨ م