هوية القدس بين '' معركتين ''

 

 

شبكة المنصور

نقولا ناصر / كاتب عربي من فلسطين

 

انشغلت وسائل الاعلام العالمية الرئيسية يوم الاربعاء الماضي ب"المعركة الضارية" الانتخابية على رئاسة بلدية الاحتلال في القدس حول "الهوية اليهودية" لاولى القبلتين ومسرى النبي العربي محمد بن عبد الله وهل هي "هوية يهودية علمانية" ام هي "هوية يهودية متدينة" بين ثلاثة متنافسين ، احدهما مليونير وجنرال احتياط في جيش الاحتلال (نير باركات الذي فاز بالمنصب) وثانيهما حاخام متطرف ما زال يحلم ب"ارض اسرائيل الكبرى" بين نهري النيل والفرات (مئير بوراش) وثالثهما رجل اعمال مهاجر من روسيا تجري محاكمته في فرنسا كمهرب للسلاح (اركادي غايداماك) ، اختلفوا في ما بينهم حول اي هوية تهويدية يمنحونها للمدينة المقدسة واتفقوا على تهويد ما تبقى من عروبتها واسلامها بتوسيع الاستعمار الاستيطاني في شرقها لكي يضمنوا ان تظل عاصمة ابدية موحدة لدولة المشروع الصهيوني وتحت سيادتها .



واكتفت القيادة الفلسطينية في رام الله -- المؤتمنة على عروبة بيت المقدس واسلامه بحكم الاعتراف العربي والاسلامي بها ممثلا شرعيا وحيدا لعرب فلسطين ومسلميها – بتوجيه ندائها التقليدي المتكرر للمقدسيين بمقاطعة تلك الانتخابات لان المشاركة في هذه الانتخابات ستعطي دولة الاحتلال ذريعة لضم شرقي المدينة ، لانشغال هذه القيادة في "معركة ضارية" خاصة بها حول "الشرعية الفلسطينية" ما زالت بدورها تشغل وسائل الاعلام العالمية الرئيسية التي يحلو لها ان تصورها بانها معركة تدور ايضا حول هوية "الشريك الفلسطيني في عملية السلام" وهل هي "علمانية ديموقراطية" ، وفي هذه الحالة فانها مقبولة ، ام هي "متدينة اسلامية" وفي هذه الحالة فانها مرفوضة وينبغي حصارها ، بينما يجري على قدم وساق تهويد العاصمة الروحية والسياسية والاقتصادية والتاريخية لعرب فلسطين ومسلميها ، المتدينين منهم والعلمانيين جميعا ، وتزوير هويتها ، في حين ينشغل فيلق جديد من الموظفين العرب في الاستعدادات لتنفيذ القرار الذي اتخذته الدورة الخامسة عشرة لمجلس وزراء الثقافة العرب التي عقدت في سلطنة عُمان يومي 8 و9 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2006 باعتماد القدس عاصمة للثقافة العربية للعام 2009 ، على ان تتقاسم فلسطين والعواصم العربية تنفيذ الفعاليات الثقافية .



وينضم فيلق الموظفين الجديد الى جيش عرمرم من موظفي سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية (في محافظة القدس ومستشارية رئيس الوزراء لشؤون القدس ووحدة القدس في رئاسة السلطة واللجنة الشعبية المعتمدة من الرئاسة للدفاع عن القدس) ومن نظرائهم في عشرات اللجان الملكية والجمهورية ، الرسمية والشعبية ، العربية والاسلامية في عواصم الوطن العربي وحواضر العالم الاسلامي المنشغلين جميعا برصد المناسبات المقدسية او وقوع احداث جسام في بيت المقدس لكي يدبجوا البيانات الفصيحة او غير الفصيحة التي بالكاد تنشرها وسائل اعلامهم في عناوينها الرئيسية بينما طرق وصولها الى وسائل الاعلام العالمية مسدودة لانها تحولت الى ممارسة لفظية مكررة خالية من اي مضمون سوى اجترار نداءات ومناشدات لم يعد احد يوليها اي اهتمام لانقاذ بيت المقدس من خطر التهويد الذي يتهدده لان الدفاع عن القدس قد تحول الى وظيفة ماجورة تستظل بما يحلو للمفاوض الفلسطسني تسميته ب"الاشتباك التفاوضي" الذي تقزم مؤخرا حد ان يجد رئيس الوفد المفاوض على قضايا الوضع النهائي احمد قريع (الذي انتبهت وسائل الاعلام الى غيابه عن الحراك السياسي الاخير للرئاسة) انجازا تفاوضيا في عجز وزيرة خارجية دولة الاحتلال تسيبي ليفني عن تاليف حكومة وقرارها نتيجة لذلك بالذهاب الى الانتخابات لانها اصرت على ابقاء قضية القدس على طاولة المفاوضات في مواجهة معارضة قوية من خصومها السياسيين لان التفاوض على القدس ينطوي على احتمال تقاسمها مع اهلها الشرعيين !



ان انتخاب "جنرالين" في الاسبوع الماضي لاكبر تجمعين استيطانيين حضريين في دولة المشروع الصهيوني ، وهما الجنرال احتياط في لواء المظليين باركات في القدس والجنرال والطيار الحربي السابق رون هولداي في تل الربيع التي اسموها تل ابيب ، يشير فقط الى ان دولة الاحتلال تعتبر عملية البناء في وقت السلم ما هي الا جزء من "المعركة الضارية" المستمرة في الصراع على الوجود الدائر في بيت المقدس واكنافه ، وهذه استراتيجية تتناقض بالتاكيد مع الانشغال الفلسطيني والعربي ب"معركة" الاستعداد ل"حفل افتتاح إعلان انطلاقة الفعاليات لإحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009 من مدينة القدس في اواخر شهر كانون الثاني / يناير المقبل بمشاركة فعاليات فنية عربية وفلسطينية" من المؤكد انها سوف تستجدي "تصاريح دخول" ورخص موافقة على الفعاليات من الجنرال باركات وحكومته .



كما ان الجنرال باركات ، المعارض لتقديم اي "تنازلات" للفلسطينيين في القدس والذي استقال من حزب "كاديما" لهذا السبب بالذات ، لخص في تصريحاته بعد فوزه برئاسة بلدية الاحتلال وقبلها برنامجه بالعمل على ضمان بقاء القدس عاصمة ابدية موحدة لدولة الاحتلال وتحت سيادتها عبر تحقيق هدفين رئيسيين اولهما تكثيف الاستيطان الاستعماري في شرقي القدس وتسريعه ، وخصوصا بناء تجمع استيطاني يهودي ضخم في عناتا والمنطقة التي اصبحت معروفة باسم "إي – 1" حيث اقام الاحتلال مقر قيادة شرطته في الضفة الغربية لاغلاق الثغرة الوحيدة التي ما زالت مفتوحة فلسطينيا في الطوق الاستيطاني الذي بناه الاحتلال حول القدس الشرقية العربية ولوصل هذا الطوق بالطوق الاستيطاني الخارجي الذي بناه حول "القدس الكبرى" عبر تجمع استيطاني حضري جديد يتصل مع مستعمرة معاليه ادوميم شرقي القدس ، وهي الاكبر في الضفة الغربية ، التي تقرر تحويلها الى اكبر مدينة بين القدس وبين نهر الاردن بضم مستعمرتي كيدار 1 وكيدار 2 اليها .



اما الهدف الثاني المعلن للجنرال باركات فهو تحويل القدس الى مدينة دولية تجتذب عشرة ملايين سائح خلال السنوات العشر المقبلة وحاضرة عالمية على نمط مدينة قال انها مثاله الاعلى وهي نيويورك عاصمة المال والمضاربات والمؤامرات السياسية التي فجرت رذائلها الاقتصادية وفضائح كبار مسؤولي مؤسساتها المالية الدولية الازمة المالية الاميركية التي تعولمت وما زالت تتفاقم ، بالرغم من الاستعدادات الجارية لافتتاح اكبر كنيس يهودي في العالم في القدس خلال شهرين قال خبير المخطوطات في بيت الشرق خليل التفكجي ان "قبته توازي حجم قبة الصخرة المشرفة مما يهدد المسجد الأقصى بشكل غير مسبوق" في سياق مخطط لتهويد المدينة المقدسة بحلول العام 2020 ليلحق مصير القدس "بمصير الاندلس" اذا استمر الوضع الفلسطيني والعربي على حاله الراهن يبحث عن السلام لا عن العدل ، ليتحول بيت المقدس في الذاكرة الجمعية للامة الى مرثيات مقدسية مثلما تحولت الاندلس الى موشحات اندلسية تبكي الناس على انغام مجد غابر ضيعه اقتتال على الامارة بالكاد يختلف عن الاصطراع الفلسطيني الراهن على السلطة .



وفي خضم المعركة الضارية الحقيقية التي يخوضها الاحتلال للفوز بتهويد القدس مقابل معركة طواحين الهواء الدونكيشوتية التي تخوضها القيادات التفاوضية الفلسطينية والعربية لم يعد يوجد اي شك لمن ستكون الغلبة ومن هو الذي سيقرر هوية بيت المقدس .



في نيويورك سلطت الاضواء العالمية خلال الاسبوع الماضي على مؤتمر قمة عالمي رعته الامم المتحدة وبادرت اليه المملكة العربية السعودية لهدف نبيل يتمثل في الدفاع عن صورة الاسلام الحقة ضد ما علق بها من شوائب سياسية وغاب عن وسائل الاعلام التناقض بين "العدل" الكامن في الرسالات السماوية الموحدة الثلاث والذي ركز عليه العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز كاساس للسلام والتعايش وبين "طي صفحة الماضي" الطافحة بالظلم التي دعا اليها رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريز كاساس للسلام ، لكن الاهم كان اغفال وسائل الاعلام للتناقض الصارخ اكثر بين اسم "مؤتمر ثقافة السلام" الذي اطلق على هذه القمة وبين عاصمة الحرب والنهب العالمي التي انعقد فيها ليستمع الى جراة الرئيس الاميركي جورج بوش في الباطل وهو يسوغ مغامراته الحربية الدموية بالسعي الى ضمان "الحرية الدينية" في العراق وافغانستان بينما بلاده تحول منذ اكثر من ستين عاما بين "السلام العادل" والحرية الدينية وبين القدس ، حيث لا صدقية لاي مؤتمر لثقافة السلام خارج هذه المدينة المعروفة عالميا وتاريخيا بانها هي ، لا نيويورك ، مدينة السلام وحيث ما زال مسرى النبي محمد ومثله قبر المسيح في كنيسة القيامة محرمين على المؤمنين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين .

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٢٠ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ١٨ / تشرين الثاني / ٢٠٠٨ م